لقد مضى أكثر من شهر على بدء الائتلاف الذي يسوده الحلف الأطلسي بتدخله العسكري في ليبيا، وذلك إثر تبنّي مجلس الأمن الدولي بتاريخ 17 آذار الماضي للقرار 1973، الداعي إلى فرض حظر جوّي فوق البلاد، واتخاذ «كافة الإجراءات الضرورية» لحماية «المدنيين والمناطق المأهولة بالمدنيين».جاء ذلك القرار، والتدخل العسكري الذي تبعه، بناءً على طلب ملحّ من مصادر مرتبطة بالانتفاضة الليبية التي أخذت تتطوّر منذ أواسط شهر شباط، مستلهمة من نجاح الانتفاضة المصرية في إطاحة حسني مبارك. وقد رأينا في ليبيا، شأنها في ذلك شأن سائر البلدان العربية التي شهدت وتشهد انتفاضات شعبية، جمعاً بين جماهير غفيرة من غير المسيّسين الذين سئموا بعد أكثر من أربعين عاماً من حكم ديكتاتور زاد جنونه مع الزمن، وخليطاً من القوى السياسية يضمّ ديموقراطيين ليبراليين وشتى أنواع التيارات الإسلامية، من المعتدل إلى المتطرّف، وبعض المرتدّين على النظام القائم من رجاله. ومن المحتمل أن يكون في الانتفاضة الليبية أيضاً يساريون على غرار الانتفاضات الأخرى (رغم أنّه لا يكاد يُسمع عن يسار داخل ليبيا منذ أن افتخر نظام القذافي في السبعينيات بقمعه لكافة التيارات السياسية من الإخوان المسلمين إلى التروتسكيين).
وقد كان قمع القوات الموالية للقذافي للانتفاضة الشعبية من أيامها الأولى أكثر دموية مما شهده أي من الاحتجاجات الجماهيرية الأخرى التي اندلعت، منذ بداية هذا العام، ضد أنظمة الاستبداد العربية. وقد كان ولا يزال للنظام الليبي تفوّقان على الانتفاضة الشعبية، رغم انتقال بعض أعضاء جهازيه المدني والعسكري إلى صفوف الثوّار. الأول أنّ القذافي وأبناءه وأعوانه يسيطرون سيطرةً مُحكمة على الكتائب الجيدة التسليح، وعلى سلاح الجو، كذلك يسيطرون على الأموال الطائلة ومخزون الذهب لدى الدولة الليبية. والحال أنّ القذافي ومن لفّ لفّه قد سعوا إلى التعويض عن وقع الانتفاضة الأول على طاقاتهم العسكرية، باللجوء إلى تجنيد مكثّف لمرتزقة من بلدان أفريقية فقيرة (أنظر مقال معمر عطوي في «الأخبار» بتاريخ 23 نيسان 2011). وقد استعملوا أيضاً المال والترهيب في محاولة خلق انطباع عن وجود دعم جماهيري للديكتاتورية (وقد روى لاجئون قادمون من طرابلس إلى تونس أنّ أجهزة النظام كانت تعطي مالاً للناس لقاء مشاركتهم في التظاهر تأييداً للنظام).
وفي 22 شباط، أيّ بعد يومين من تحذير ابنه سيف المعارضين من أنّ ليبيا ليست تونس أو مصر ـــــ قاصداً أنّ عائلة القذافي لن تتنحّى عن الحكم تحت الضغط السياسي كما فعلت عائلتا بن علي ومبارك ـــــ وتهديدهم بالحرب الأهلية، ألقى معمّر القذافي أحد أشدّ الخطابات هولاً في عصرنا. خطاب كان بلهجته وتعابيره (ولا سيما تشبيه معارضيه بالجرذان والحشرات) أشبه ما يكون بالخطابات الفاشية والستالينية التي عرفتها ثلاثينيات القرن الماضي. وقد وعد السفّاح الليبي بتقليد عدد من المجازر الشهيرة، بينها مجزرة 1989 في بكين، ومجزرة 2004 في الفلوجة. كذلك ضرب عدوان 2008 ـــــ 2009 الإسرائيلي على غزة مثالاً، وأعاد تشبيه قمعه للانتفاضة الليبية بذلك العدوان الإسرائيلي، في مقابلة أعطاها إلى الفضائية الفرنسية «فرانس 24» يوم 7 آذار الماضي. وفي خطاب لاحق، يوم 17 آذار الماضي، وهو اليوم الذي تبنّى فيه مجلس الأمن قراره 1973، شبّه القذافي هجومه على بنغازي بهجوم الديكتاتور الإسباني الفاشستي فرانسيسكو فرانكو على مدريد في 1939، خلال الحرب الأهلية الإسبانية، مؤكداً أنّ «طابوراً خامساً» سيقوم بين سكان المدينة لمساعدته على «تحريرها». وكانت قوات النظام آنذاك قد بدأت تحتشد على مشارف بنغازي، استعداداً لشنّ هجومها على المدينة، وقد بدأ الهجوم فعلاً يوم 19 آذار.
في تلك الأثناء، وفي مواجهة التفوّق العسكري الساحق لقوات القذافي، كان الثوّار قد أخذوا يطلبون حماية دولية منذ بضعة أيام، وخصوصاً حظراً جوّياً لمنع القذافي من استخدام قواته الجوّية. فمنذ اجتماعه الأول في 5 آذار، تبنّى المجلس الوطني الانتقالي للجمهورية الليبية بيانه التأسيسي الذي نصّ مقطعه الأخير على ما يأتي:
«وفي الختام نطمئن الشعب الليبي إلى أنّه وإن كانت موازين القوى بين نظام مستبد يستنفر المرتزقة من كل مكان، ويستورد الأسلحة من كل صوب، وبين متظاهرين عزلاً لا يحملون سوى أسلحة قديمة متهالكة، مختلة، إلا أنّ هناك دعماً عسكرياً مسلحاً بقوة العزيمة والإصرار لكافة خطوط القتال في المناطق غير المحررة، وأنّ تسلّحهم بالصبر والثبات والعزيمة قادر على تحقيق النصر بإذن الله القوي القادر، وفي الوقت ذاته يقدّر المجلس الدعم الدولي الذي أبدته وتبديه الدول والمنظمات الدولية تجاه المطالب المشروعة للشعب الليبي، ويؤكد رفضه التام لأي تدخل أو وجود عسكري أجنبي، ويضع المجلس المجتمع الدولي أمام مسؤولياته تجاه ما يتعرّض له الشعب الليبي من جرائم ضد الإنسانية بسبب انعدام التوازن العسكري بين نظام مسلح وشعب أعزل».
وبعد أسبوع من تاريخها، في يوم 12 آذار، لاقت هذه الدعوة الموجّهة إلى «المجتمع الدولي»، كي يتحمّل مسؤولياته، صدىً في طلب الجامعة العربية من مجلس الأمن الدولي «تحمّل مسؤولياته إزاء تدهور الأوضاع في ليبيا، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بفرض منطقة حظر جوي على حركة الطائرات العسكرية الليبية فوراً، وإقامة مناطق آمنة في الأماكن المعرّضة للقصف، كإجراءات وقائية تسمح بتوفير الحماية لأبناء الشعب الليبي والمقيمين في ليبيا من مختلف الجنسيات...». وقد أيّدت كافة الدول الأعضاء في الجامعة العربية ذاك القرار، باستثناء سوريا والجزائر، وكذلك النظام الليبي الذي مُنع مندوبه من حضور الجلسة.
كان تبنّي ذلك القرار بالنسبة إلى الأنظمة العربية، ولا سيما أكثرها رجعية المجتمعة في مجلس التعاون الخليجي، وسيلة رخيصة لإرضاء الرأي العام العربي القلق على مصير الانتفاضة الليبية، بينما يجهد كل نظام من تلك الأنظمة في قمع انتفاضة مماثلة أو الحؤول دون قيامها في بلده. أما الأمين العام للجامعة، عمرو موسى، فقد رأى في القرار وسيلة إضافية للتظاهر بالوقوف إلى جانب الشعب بعد ظهوره الانتهازي بين المتظاهرين في ميدان التحرير في القاهرة، وهو يهيّئ ترشّحه لرئاسة الجمهورية في مصر خلفاً لمبارك. (أما المعارضة السورية للقرار، فيلقي ضوءاً عليها تماثل هتاف مؤيّدي النظام في كلّ من ليبيا وسوريا: «الله، ومعمّر وليبيا، وبس» في بلد، و«الله، سوريا، بشّار، وبسّ» في البلد الآخر.)
ثمّ دعمت الطلب الليبي ـــــ العربي غالبية الدول الغربية، ولا سيما الدول الغربية الثلاث الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. ودخلت اعتبارات عدّة في حساب تلك الدول: أحد هذه الاعتبارات هو تخوّفها من الاضطرار إلى فرض حظر نفطي على ليبيا إذا ارتكب نظام القذافي مجزرة واسعة النطاق، فيما أسعار النفط في ارتفاع بما يهدّد بعواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي المتأزّم أصلاً. واعتبار آخر هو التخوّف من أنّه «كان من شأن مجزرة أن تؤدي إلى تدفّق آلاف إضافيين من اللاجئين عبر الحدود الليبية»، كما جاء في الخطاب الذي ألقاه باراك أوباما يوم 28 آذار. ولا شكّ في أنّ أحد الاعتبارات كان الارتباك الأيديولوجي والمعنوي الذي قد يصيب الدول الغربية، إذا امتنعت عن أن تسعف شعباً مهدّداً طلب نجدتها، بينما اجتاحت هذه الدول بلداناً عدّة بحجة نجدة سكانها، وهم لم يطلبوا ذلك منها.
يُضاف إلى تلك الاعتبارات أنّ التدخّل في ليبيا يمثّّل بالنسبة إلى الدول الغربية وسيلة (رخيصة سياسياً، لكنّها مرتفعة الثمن مالياً) للتظاهر بالوقوف إلى جانب الأماني الديموقراطية للشعوب العربية، آملين أن يؤدي ذلك إلى تبييض سجلّها بعد سنين عديدة وطويلة من دعمها للأنظمة الاستبدادية العربية، بما فيها نظام القذافي عينه. أما واشنطن على وجه الخصوص، فقد أرادت أن تمحو من الذاكرة مساندتها حتى اللحظة الأخيرة لحسني مبارك، ثم لرئيس استخباراته عمر سليمان. أما باريس، فقد أرادت التعويض عن الكارثة السياسية المتمثلة في عرضها على بن علي مساعدته على قمع الانتفاضة التونسية، قبل أن تبلغ تلك الأخيرة حجماً مدهشاً. فضلاً عن كلّ ذلك، كان التدخل في ليبيا وسيلة لصرف الأنظار عن كيل الولايات المتحدة وحليفاتها بمكيالين إزاء المنطقة العربية، كما يتجلّى خصوصاً في الموقف النقدي الخجول واللطيف جداً، إن لم يكن مسانداً بالفعل، الذي تقفه من قمع الانتفاضات الشعبية في محمياتها الخليجية، ولا سيما في البحرين.
أخيراً وليس آخراً، كان التدخل في ليبيا بالنسبة إلى نيكولا ساركوزي وسيلة لضمان حصة فرنسية مهمة من العقود النفطية التي ستمنحها ليبيا ما بعد القذافي، على حساب منافسي فرنسا (صرّح وزير الطاقة الليبي السابق فتحي بن شتوان لوكالة الصحافة الفرنسية في 7 نيسان أنّ ليبيا المستقبل ستكافئ الدول التي هبّت لنجدتها بمنحها أفضل العقود النفطية، وتعاقب روسيا والصين). وقد اضطرّ ديفيد كاميرون وسيلفيو برلسكوني وأمثالهما إلى التكيّف مع المزايدة الفرنسية، خشية خسارة العقود البالغة الأهمية التي أبرموها مع نظام القذافي في ليبيا.
كل ما سبق لا ينفي أنّه لم يكن ثمة خيار ثالث في 19 آذار ـــــ بعد أن رفض النظام الليبي عملياً أن ينصاع لأمر وقف إطلاق النار الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي ـــــ غير أحد أمرين: إما اجتياح قوات القذافي لبنغازي بكلفة بشرية هائلة، أو تدخل قوات حلف الأطلسي للحؤول دون ذلك بكلفة بشرية لا شك في أنّها ستكون أقل في الأمد القصير، مع أنّ مستقبلها غامض بالتأكيد. لم يكن ثمة حلّ واقعي أفضل: فحتى لو افترضنا أن الدول العربية كان بمقدورها أن تتدخّل وحدها، كما تمنّى عليها بعض القوميين، لما كان ذلك أفضل أو أقل كلفة بشرية، علماً بأنّ جميع الدول العربية تابعة للغرب و/أو لا ديموقراطية إلى هذا الحد أو ذاك، بما فيها الحكم العسكري في مصر. وعدا ذلك الوهم، فمجرّد أماني طيّبة. ولو سحق القذافي الانتفاضة الليبية في بحر من الدماء، لانعكس ذلك بمفعول عظيم مضاد للثورة، على المنطقة العربية بأسرها.
كان لا بدّ من منع القذافي من ارتكاب المجزرة، وهي حالة نموذجية من تلك الحالات التي يضطر فيها المرء إلى إمرار «أهون شرين» تفادياً للشر الأعظم. في مثل تلك الحالات، يغدو الشرط الرئيسي تجنّب الأوهام بشأن ما يبقى «شراً»، حتى ولو كان أقل خطراً، آنياً (وأهم أسباب كون شرّ التدخل الغربي محدوداً نسبياً في الوقت الراهن هو اشتراط الانتفاضة وقرار مجلس الأمن ألا يترافق التدخل مع احتلال على الأرض). والحال أنّ الأوهام بدأت تتطور في صفوف جماهير الانتفاضة في بنغازي، وتجد تعبيراً عنها في رفع الأعلام الغربية عموماً، والفرنسية خصوصاً.
وقد كنتُ منذ البداية من الذين تفهّموا مأزق الانتفاضة الليبية، ورأوا أنّنا لا نستطيع أن نلومها على طلبها حماية جوية وصاروخية ضد تقدم قوات القذافي السفّاح وتهديده لها بالمجزرة. غير أنّني أدنت نفاق القوى التي كانت تستعدّ للتدخل، وحذّرت من أيّ أوهام بصدد مراميها، داعياً إلى التيقّظ في مراقبة أفعالها، وإدانة أي تعدٍّ من قِبَلها للتفويض الصادر عن مجلس الأمن بحماية السكان المدنيين. وكان لمعظم فصائل الحركة المعادية للهيمنة الغربية في المنطقة العربية، على تنوّعها، مواقف مشابهة، من الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في الخطاب الذي ألقاه في 19 آذار إلى تنظيم النهج الديموقراطي اليساري الجذري في المغرب الأقصى، مروراً بالحزب الشيوعي اللبناني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة الإخوان المسلمين في مصر، إلخ. كلّ تلك الأطراف والقوى ندّدت بمرامي الدول الإمبريالية، وحذّرت من أي أوهام حيالها، من دون أن ترفع شعارات من نوع «لا للحظر الجوي» أو «لنوقف التدخل العسكري فوراً» (من جهتهم، رفع الاشتراكيون الثوريون في مصر شعاراً عاماً هو «لا للتدخل الأجنبي»، ملتقين في الجوهر مع الأطراف السابقة الذكر).
وفي مقال لاحق، صدر بتاريخ 25 آذار، كتبتُ أنّه لا بد من المطالبة بوقف القصف حالما تنتهي قدرة القذافي على استخدام قواه الجوية، مضيفاً أنّه لا بدّ من التصدي لتحوّل الحلف الأطلسي إلى مشارك كامل في الحرب على الأرض «حتى لو دعا الثوار الليبيون الحلف الأطلسي إلى المشاركة في قتالهم، أو رحّبوا بمشاركته»، وذلك بعد الضربات الأولى ضد قوات القذافي البرّية الضرورية، لوقف زحفها على مدن الانتفاضة في المنطقة الغربية. وأكدت أنّه «لا بد من أن نطالب بتسليم السلاح علناً وبكميات كبيرة إلى الثوار الليبيين، بحيث يستغنون في أسرع وقت عن المساندة العسكرية الأجنبية المباشرة». وكررت هذا الموقف في مداخلات عدّة، آخرها تعقيبي على خطاب باراك أوباما بشأن ليبيا (وقد نُشر التعقيب في «الأخبار» بتاريخ 5 نيسان 2011) الذي رفعتُ فيه شعار: «أوقفوا القصف! سلّموا الأسلحة إلى الثوار!».
وفي مقال لمصطفى عبد الجليل، نشرته صحيفة «لو موند» الفرنسية في 12 نيسان، أقرّ رئيس المجلس الوطني الانتقالي للجمهورية الليبية بما أكده جميع المراقبين على الأرض من أنّ القذافي كان سيتمكّن من سحق الانتفاضة الليبية «لو لم تنجدها الطائرات الفرنسية التي أنقذت بنغازي من حمام الدم الذي وعدها به الديكتاتور، ولو لم يحصل تدخّل المجتمع الدولي الذي قاده السيد ساركوزي وحلفاؤه». لكنّه أضاف:
«لا نطلب من أحد أن يخوض الحرب بالنيابة عنّا. ولا نطلب أن يأتي جنود أجانب ويوقفوا العدو. ونحن لا نتوقع من أصدقاء ليبيا أن يحرروا بلادنا من أجلنا. ما نطلبه هو أن نُعطى الوقت والإمكانيات المادية كي ننشئ قوة تصدّ هجمة مرتزقة الديكتاتور وحرسه الخاص، ثم تحرر مدننا. وإذا لم يبدّل المجتمع الدولي موقفه، فعليه أن يستمر بدعمنا، لا بالطائرات وحسب، بل أيضاً بالسلاح والتجهيزات. اعطونا الإمكانيات المادية لكي نحرر أنفسنا، وسنذهل العالم. القذافي ليس قوياً سوى بحداثة نضالنا وضعفه الأوّلي. إنّه نمر من ورق: انتظروا تروا».
وقد تبنّت قوات القذافي تكتيكاً قتالياً جديداً في ضوء ضربات الحلف الأطلسي، فباتت تنتشر وترابط في المناطق المعمورة بالقرب من المدنيين، وتستعمل مركبات أخفّ من الدبابات في تنقّلها. ولا تزال تمتلك تفوقاً واضحاً على الثوار بسبب تفوّق أسلحتها، وقد شرحه وقوّمه بدقة الخبير العسكري لدى صحيفة «نيو يورك تايمز»، س. ج. شيفرز، في مقال كتبه من بنغازي ونُشر في 20 نيسان. وما استمر هذا التفوق، لا يمكن هزم قوات القذافي بضربات من بعيد (بما فيها الطائرات الأميركية بدون طيار!) إلا بكلفة باهظة في الأرواح، وبتدمير واسع النطاق لليبيا. هذا إذا افترضنا أنّ هزم تلك القوات ممكن بهذه الطريقة. وفي هذا الأمر سبب إضافي للمطالبة باستبدال الضربات العسكرية الأجنبية بتسليم الثوار الأسلحة التي لم ينفكّوا يطالبون بها، مؤكدين قدرتهم على تحقيق النصر إذا حصلوا عليها.
أما الأسباب التي أعطاها شيفرز لتفسير تحفّظ معظم الدول الغربية الشديد، وتحفظ الإدارة الأميركية خصوصاً، حيال تزويد الثوار بالوسائل التي من شأنها تمكينهم من الانتصار، فهي من وحي النفاق ذاته الذي يدّعي أنّ تدخل تلك الدول حصل لاعتبارات إنسانية في المقام الأول. والأسباب المذكورة هي، أولاً، أنّ الثوار «غير المقيّدين بالقانون» قد يخرقون قواعد الحرب الدولية، بل إنّهم قد يرتكبون جرائم حرب. وثانياً، إنّ الأسلحة التي قد تُسلّم لهم قد تصل إلى «السوق السوداء» وتقع بين أيدي «إرهابيين». ويختم شيفرز مقاله قائلاً «إنّ النظر إلى الثوار الليبيين وهم ينطلقون إلى القتال هو النظر إلى شبّان يتوقون إلى الحرية وهم يتقدمون نحو فوضى دموية، وفي كثير من الأحيان نحو حتفهم. لكنّ تسليحهم ينطوي على مخاطر أخرى، بعضها قد يدوم سنوات عديدة».
ولم يخطر في بال شيفرز على ما يبدو ، أولاً، أنّ الدول الغربية ذاتها التي تتدخل عسكرياً في ليبيا هي دول تخرق باستمرار قواعد الحرب، وقد ارتكبت جرائم حرب على مستوى يقزّم الجرائم التي قد يرتكبها الثوار الليبيون، بل حتى جرائم نظام القذافي نفسه. ولم يفطن، ثانياً، إلى أنّ تلك الدول عينها لم تتردد في بيع السلاح لكافة أنواع السفّاحين، ومن بينهم العديد من اختصاصيي إرهاب الدولة على طريقة الدولة الصهيونية، والقذافي عينه بالطبع. ففي مقال حديث على موقع معهد ستوكهولم للبحث في السلم الدولي، شرح بيتر فيزيمن بنحو وافٍ كيف أننا «في الضربات العسكرية الجوّية الراهنة ضد القوات الليبية، نرى أمماً سبق أن دعمت نظام العقيد معمّر القذافي تقوم الآن ـــــ بناءً على قرار الامم المتحدة ــ بمهاجمة القوات التي كانت تبيعها وتسلّمها أسلحة قبل أسابيع قليلة».
لكنّ الخبث والنفاق لا يستطيعان إخفاء السبب الأساسي الذي يكمن وراء تحفّظ الدول الغربية حيال تسليح الثوار الليبيين، ألا وهو أنّها لا تثق بالمجلس الوطني الانتقالي. فهي لا تثق بقدرته على السيطرة على انتفاضة الجماهير الليبية، كما لا ثقة لديها بأنّ حكومة منتخبة ديموقراطياً في ليبيا المستقبل ستكون موالية لمصالحها. ولا شك في أنّها أخذت عبرة من كون عدد من رجال الانتفاضة في ليبيا قد وجّهوا انتقادات قاسية للحلف الأطلسي، بدل إظهار الامتنان الذليل الذي توقّعه منهم هذا الحلف.
أما الطريقة الوحيدة التي تنظر بها بعض دول الحلف الأطلسي، كفرنسا وبريطانيا، إلى تسليم كمية محدودة من الأسلحة للثوار الليبيين، فهي تحت إشراف مُحكَم من «مستشارين» ترسلهم تلك الدول إلى ليبيا، ومهمتهم الحقيقية استكشاف الأوضاع تمهيداً لاحتمال تدخل قوات بلدانهم على الأرض. أما الادّعاء بأنّ ثمة حاجة لهؤلاء المستشارين للتدريب، فهو مجرّد ذريعة لم يدعمها طلب من الثوار الليبيين أنفسهم. واقع الأمر أنّ تلك الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي تعدّ شروط مثل هذا الاجتياح، بكونها ترفض تسليم الثوار الأسلحة والتجهيزات التي يحتاجون إليها كي يهزموا قوات القذافي، بل تسمح لهذه القوات بالتقدم إلى حدّ قد يشعر معه الثوار الليبيون أنّهم مضطرون إلى طلب التدخل على الأرض الذي رفضوه حتى الآن رفضاً حازماً، وكانوا ولا يزالون محقين تماماً في رفضه. وقد تمثّل انتصارٌ أوّليّ لهذه المناورة المكيافيلية في مطالبة الثوار في مصراتة قبل فترة بتدخل على الأرض، لمّا يئسوا من قدرة الحلف الأطلسي على أن يصدّ من الجو والبحر هجوم قوات القذافي على المدينة.
وإذا كان من غير المجدي، من وجهة نظر وطنية مضادة للإمبريالية، مطالبة الدول العربية بالتدخل عسكرياً على الأرض في ليبيا، فإنّ من المشروع تماماً، بل من الضروري، مطالبتها بتسليم الأسلحة والتجهيزات للانتفاضة الليبية التي تدّعي تلك الدول مساندتها. وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على مصر المحاذية لليبيا، وعلى دول مجلس التعاون الخليجي التي موّلت صناعات الأسلحة الغربية بشرائها كميات عظيمة من الأسلحة لم نرَها تستخدمها سوى في قمع الحراك الشعبي، ولا سيما انتفاضة البحرين.

* أستاذ في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن