لا شكّ أن العصر العربي المعاصر اتّسم بتفجّر الفضائيّات العربيّة الهائل، ومن بعدها مواقع الإنترنت المتعدّدة. هي ظاهرة أبعد مدى من ظاهرة «صوت العرب» في الحقبة الناصريّة، لأنّ الأخيرة كانت مهمّة وفعّالة من حيث تعبيرها عن أهواء عملاق السياسة العربيّة آنذاك (كما أنّها هوت بقوّة عندما حاولت بصفاقة أن تغطّي على هزيمة 1967 الشنيعة). لكن عصر الفضائيّات بدأ بمحطة «الجزيرة». والمحطة كانت فكرة وتنفيذاً رائداً، منذ البداية. محطة استفادت من الخلاف السعودي ـــــ القطري المُستحكم (آنذاك)، ولم تكن لتنطلق من دونه: الخلاف فتح أكبر حيّز من التعبير في الإعلام العربي، منذ صعود الزمن السعودي المقيت، إثر وفاة جمال عبد الناصر. لا، لم تعتمد المحطة على صناعة الرأي العام العربي: صناعة الرأي العام تسهل في مجتمع مثل أميركا، حيث يسود الجهل في أمور السياسة الخارجيّة التي تصيب الشعب بالملل الشديد. في بلادِنا، يعيش الناس على مُتابعة أنين المرضى وعويل الجياع وأصوات الصراخ في المخيّمات، بعد عمليّات القصف الإسرائيلي الإرهابي. «الجزيرة» اعتمدت بذكاء، على التعبير عن مكنونات الرأي العام العربي بخليطه: مزيج من إسلام معتدل، معطوف على قوميّة عربيّة علمانيّة. طبعاً، الغلبة كانت عبر السنوات للفريق الأوّل، وغاب الفريق الثاني، أو كاد. فتحت برامج «الجزيرة» أبوابها أمام مُعارضين عرب من شتّى البلدان، بعدما كانوا مقصيّين (ومقصيّات حتى لا ننسى الرفيقة الشجاعة، مضاوي الرشيد) في كلّ وسائل الإعلام العربيّة الأخرى (وأنا واحد من هؤلاء). طبعاً، لم تعبّر «الجزيرة» يوماً عن أهواء اليسار (الجذري، لا المُموّل نفطيّاً). مواضيع صراع الطبقات والنفط ومداخيله كانت دوماً من الممنوعات. كما أنّ قطر وما يجري داخلها، لا تدخل في باب التغطية الصحافيّة لدى المحطّة، باستثناء أطروحات وزير الخارجيّة التطبيعيّة. كما أنّ الخلاف السوري ـــــ القطري فتح نوافذ أخرى في الإعلام العربي، لأنّ قطر دعمت وسائل إعلام أخرى، مكتوبة ومرئيّة. السعوديّة لم تقصّر، لكنّها خلافاً لـ«الجزيرة» لم تعمد بتاتاً إلى تلبية أهواء الرأي العام العربي، لأنّ في ذلك انتحاراً سياسيّاً مُهيناً، بل طمحت إلى قولبة الرأي العام العربي، وصنعه وفقاً لمشيئة إدارة بوش. لا بل إنّ هجمة الإعلام السعودي، وإطلاق محطة «العربيّة»، تزامنا مع الزخم الدعائي الأميركي الذي ترافق مع حروب بوش (المُستمِرّة). ومحطة «العربيّة» تعرّضت للهجوم والتهكّم منذ البداية، لأنّها ارتبطت في أذهان المشاهد (والمشاهدة)، في العالم العربي، ليس فقط بأكثر الأنظمة تسلّطاً وتزمّتاً وقمعاً في العالم، بل ارتبطت أيضاً بالترويج للحروب الأميركيّة والإسرائيليّة. تسخير الإعلام السعودي من أجل خدمة الإمبراطوريّة الأميركيّة كان الثمن الذي دفعه آل سعود للكونغرس الأميركي، استغفاراً عن فعلة 11 أيلول الشنيعة. لكن هذا لا يعني أنّ «الجزيرة» لم تعمد هي الأخرى إلى استفزاز مشاعر الرأي العام عبر الترويج للتطبيع مع إسرائيل الذي انتهجته (صعوداً أحياناً ونزولاً أحياناً أخرى) الحكومة القطريّة. لا ترى تغطية للحدث الفلسطيني من دون أن تزعج أعصابك بظهور دوري لمتحدّثين إسرائيليّين (وكأنّ الإعلام الغربي يستضيف دعائيّي «القاعدة» لسماع وجهة نظر العدوّ ـــــ الأمر أخطر من حرص مفرط على وجهة النظر الأخرى).
لكن قطر تصالحت مع السعوديّة، وضاقت كوّة التعبير في «الجزيرة» وعانى فيصل القاسم، مثلما عانى غيره في «الجزيرة»، من ضيق الأفق التعبيري، لأنّ السعوديّة، مثلها مثل القوّة العظمى، وضعت تغطية «الجزيرة» في أعلى سلّم أولويّاتها. تعرّضت المحطة لضغوط دفعت بها نحو المحاولة المستحيلة للتوفيق بين تطلّعات الرأي العام الإعلاميّة وشروط السعوديّة وأميركا للمصالحة مع قطر. كانت النتيجة اهتزاز صورة المحطة، واعتمادها الحذر الشديد والتضييق على التعبير، وخصوصاً في ما يتعلّق بالمعارضات العربيّة التي تقضّ مضاجع الأنظمة. الطغاة العرب مهووسون بمعارضيهم، حتى لو جاءت المعارضة من رجل واحد، مهاجر إلى منطقة نائية في سيبيريا.
لكن الثورات العربيّة فاجأت العرب ووسائل إعلامهم. لم يكن هذا في الوارد. وفي الملمّات الكبرى والصغرى، يهجر الجمهور العربي كل المحطّات وكل الصحف نحو «الجزيرة» (وهذا ما تظهره استطلاعات جامعة ماريلاند، بالاشتراك مع مؤسّسة جون زغبي). يتسمّرون ويتسمّرن أمام الشاشة لاقتناعهم بأنّ المحطة ستفي الموضوع حقّه، وأنّها ستبتعد عن الترويج الفاقع والمُنفِّر، كما تفعل «العربيّة». وعندما اندلعت انتفاضة تونس، عرفت «الجزيرة» كيف تركب الموجة واستطاعت أن تعود إلى التألّق المُبكّر للمحطة التي اكتسبت اسماً تجاريّاً عالميّاً عاد بالنفع على قطر، وأظهرها على خريطة لم تعرفها من قبل.
كانت تغطية «الجزيرة» للحدث التونسي قويّة ونشطة، كما بدر منها حسٌّ صحافيٌّ موهوب في تحديد أهميّة الحدث، وفي إيلائه أهميّة لم تولها وسائل إعلام أخرى. علم صحافيّو «الجزيرة» أنّ الحدث التونسي غير عادي، فيما تجاهله كثيرون، أو لم يلمّوا بأبعاده الإقليميّة. راهنت المحطة على نجاح الحركة الاحتجاجيّة، فيما عمد جلّ الإعلام العربي، المُموّل سعوديّاً، إلى طريقته المعهودة في دعم الطغاة ورفض الاحتجاج (إلا في إيران وسوريا). عوّل الإعلام السعودي على عقود من نظريّات الاستشراق عن الاستكانة الشعبيّة العربيّة، وعن خمول الشعوب حيال طغاتها. كما أنّ الإعلام السعودي (والحريري ـــــ الذيلي) استثمر في حكم الطغاة، ورأى مصلحة في استمرارهم. كانت زيارة حسني مبارك واجبة عند فريق 14 آذار، وكان واحد من آخر زوّار مبارك (غير فؤاد السنيورة الذي جمعته بمبارك حلقات ودّ وهيام) أمين الجميّل، الذي عاد وطمأن اللبنانيّين الى أنّ مبارك ذلك حريص على الديموقراطيّة في لبنان، فيما أبدى أحمد أبو الغيط حرصاً على «أهل السنّة»!
لكنّ «الجزيرة» واكبت الحدث، وساهمت في صنعه منذ اندلاع انتفاضة تونس. لقد وعت أنّ اندلاع انتفاضة مصر دليل على ظاهرة تتعدّى القُطر الواحد، لتصيب العالم العربي كلّه (الذي يُصرّ الغرب الصهيوني على أنّ ليس هناك ما يجمعه بالرغم من ترابط الانتفاضات، كما أنّ واحداً من أبواق مضرب خالد بن سلطان علّق قائلاً إنّ انتفاضات أوروبا الشرقيّة تزامنت هي الأخرى، ناسياً أنّ التزامن ليس السمة الوحيدة في انتفاضات العالم العربي، بل إنّ الشعارات تطابقت، والتآزر عمّ مختلف المناطق، ومناطق الإنترنت العربيّة). أما إعلام آل سعود، فكابر حتى اللحظة الأخيرة، وأمل أن يبقى الطغاة الحلفاء لآل سعود، حتى الرمق الأخير، على طريقة حكم أمراء آل سعود وملوكهم. محطة «العربيّة» وأبواق الأمراء في الصحف العربيّة المتعدّدة، عاندت في مناصرتها لحكم مبارك، وفي التشويش على الانتفاضة المصريّة. كادت رندة أبو العزم تلاحق المتظاهرين، وتطالبهم بمحاسبة «البلطجيّة»، وكأنّهم مندوبون رسميّون عن انتفاضة الشعب المصري. وكان هناك لعبة الأرقام كالعادة، واتهامات بالترويع ونشر الفوضى ـــــ كما فعلت أكثر أبواق آل سعود بذاءة وليكوديّة، عنيت «الشرق الأوسط» (بوق الأمير سلمان بن عبد العزيز).
أما «الجزيرة»، فلا يمكن القول إنّها انتهجت عقيدة الديموقراطيّة. الأصحّ القول إنّها ناصرت في التغطية تنحية الطاغية بن علي، ومن بعده الطاغيتيْن مبارك ثم القذّافي. لم يكن الهدف التغيير الديموقراطي بقدر ما كان إقصاء طاغية، بصرف النظر عن الخليفة: طاغيةً آخر كان أو نظاماً ديموقراطيّاً. وحوّلت «الجزيرة» الحدث إلى مسلسل درامي له أبطاله وشخصيّاته، وله موسيقى تصويريّة مُصاحبة، ترافقها أصوات مذيعي المحطة القديرين الفصيحين. وكلّما زاد نظام بن علي أو مبارك من بعده اتهاماته لـ«الجزيرة» ولقطر بتدبير مؤامرة ضد بلده، كثّفت المحطة تغطيتها، وتحوّل الأمر إلى ما يشبه الخلاف الشخصي، أو الحقد غير السياسي. ويخطئ من يظنّ أنّه سيربح معركة ضد محطة «الجزيرة»: حتى أمراء آل سعود وعوا ذلك، وضغط الأمير نايف من أجل التوصّل إلى مصالحة بين قطر والسعوديّة، فيما عارضها أمراء آخرون مثل سلمان وسلطان. لا يفوز من يشنّ معركة على محطة «الجزيرة».
وأدّى تنحّي مبارك إلى إحداث صدمة على أكثر من صعيد في الإعلام العربي. لم يتوقّع الحلف السعودي ـــــ الإسرائيلي ـــــ الأميركي أن يصل الأمر بالنظام المصري إلى الانهيار الكامل، أمام زخم الحركة الشعبيّة المصريّة التي لم تتأثّر بإصرار العالم الغربي (الحريص على اتفاق السلام المصري ــ الإسرائيلي، أكثر من حرصه على حياة الشعب المصري). كان الحلف الجهنّمي يتوقّع وصول عمر سليمان إلى سدّة الرئاسة، وتجميل النظام وصولاً إلى المحافظة عليه. لكن المجلس العسكري أدرك أنّه يجازف بمصالحه (الاقتصاديّة والنفعيّة) العملاقة، لو عاند إرادة الشعب المصري العارمة. حافظ المجلس العسكري على مصالحه، لكنّ «الجزيرة» تركت الهمّ المصري، وتعاملت مع حكم المجلس العسكري على أساس أنّه الديموقراطيّة عينها. وهنا، بدأ التحوّل: وهنا حيكت المؤامرة.
تزامن سقوط مبارك مع توتّر شديد بين السعوديّة والولايات المتحدة حول عدم ذهاب أميركا بعيداً في الدفاع بالقوّة عن حسني مبارك. وحصل أن بدأت احتجاجات البحرين بالاتساع. قرّرت السعوديّة أن تقود عمليّة الحفاظ بالقوّة على نظام الطغيان العربي: رصّت صفوف مجلس التعاون الخليجي، وارتقت بالعلاقة مع قطر إلى مرتبة التحالف الوثيق. انعكس ذلك بسرعة على تغطية «الجزيرة»، وانعكس أيضاً رضىً أميركياً مفاجئاً عن قطر. من كان يتوقّع أن تدعو هيلاري كلينتون وسائل الإعلام الأميركيّة إلى اقتداء مثال «الجزيرة» الإعلامي؟ من كان يتوقّع أن يحظى أمير قطر بلقاء خاص مع أوباما، فيما يتدافع الطغاة العرب للحصول على شرف لقاء حاكم الكون؟ أصبحت تغطية المحطة تسير تحت عنوان «الدعم الانتقائي لعمليّة التغيير في بعض الدول العربيّة، مع الدفاع المستميت عن أنظمة طغيان، عزيزة على قلب مجلس التعاون الخليجي». عمدت «الجزيرة» الى شنّ حملة لتكثيف التغطية على ليبيا (والمحطة لا تتمتّع بعلاقات حسنة مع القذّافي)، مع الإصرار على نسيان القلاقل والاحتجاجات في البحرين، وعزو نشاطها إلى مؤامرة إيرانيّة، لا أوّل لها ولا آخر. ومن الواضح أنّ اجتماع مجلس التعاون الذي دعم القمع البحريني، وقرّر إرسال قوات خليجيّة غازية إلى البحرين، انعكس في اليوم التالي على تغطية «الجزيرة». وسخّرت المحطة طاقاتها وقوّتها من أجل التركيز على الوضع الليبي، والعمل على تنحية القذّافي، مع الإصرار على تجاهل الاحتجاجات في السعوديّة والبحرين وعمان، وعمليّات الاعتقال التعسّفي في دولة الإمارات العربيّة. وأصبح «المجلس الانتقالي» الليبي صفوة الديموقراطيّة (مع أنّ المجلس سرّي للغاية ومُعيّن من قبل نفسه: 10 من أسماء أعضائه الـ31 مُعلنون، والبقيّة سريّون لأنّه يحق لحلفاء «الناتو» والشعراء ما لا يحقّ لغيرهم من البشر).
مذّاك، تغيّرت «الجزيرة» تغيّراً لا يبشّر بالخير. بدأت الفروقات بينها وبين «العربيّة» بالاضمحلال. المؤامرة توضّحت، أو شُبِّه لنا أنّها توضّحت. المحطتان بدأتا بالترويج لحلف شمالي الأطلسي كأمل العرب الوحيد. وترافق القصف الأميركي لليبيا مع حماسة إعلامية، شبيهة بالحماسة العربية عندما فتح طارق بن زياد الأندلس. مراسل «الجزيرة» في ليبيا كان يصرّ في تقاريره على أنّ قصف الناتو كان مركّزاً، وأنّه لم يصب أيّاً من المدنيّين بأذى. والملاحظ أنّ تسويغ قتل مدنيّين تحت قصف الطائرات الغربيّة قلّد الدعاية الصهيونيّة: كلام عن أنّ العدو يستعمل المدنيّين كـ«دروع بشريّة». وفي الوقت نفسه، اضمحلّت تغطية «الجزيرة» لمعاناة أهل فلسطين. أصبح عليك أن تنتظر أربعين دقيقة، بعد أوّل الساعة، كي تعاين تطوّرات القضيّة الفلسطينيّة وجدول القتل الإسرائيلي المستمرّ. وكان لافتاً أنّ «الجزيرة» استضافت رئيس هيئة الأركان المُشتركة الأميركي، كي يُحدّثنا عن الانتفاضات العربيّة: من يتصوّر أن تستضيف محطة إعلاميّة غربيّة قائداً عسكريّاً عربيّاً للحديث في مواضيع السياسة الداخليّة الأميركيّة؟ وغطّت وسائل الإعلام العربيّة كلّها (السعوديّة التمويل والقطريّة على حدّ سواء) عمليّة القمع الوحشي في البحرين، والاجتياح السعودي للبحرين (من يُطالب السعوديّة بالرحيل كما طالبت أبواق السعوديّة القوّات السوريّة في لبنان بالرحيل ـــــ بعدما أتاها الأمر من الرياض؟).
وسخّرت المحطة فقيهها المُرشد الشيخ يوسف القرضاوي، للقيام بالدور المرسوم له. والقرضاوي يتمتّع بما تتمتّع به حركة الإخوان المسلمين من تملّق للمراجع النفطيّة العربيّة. وهو لا يوالي الحكومة القطريّة فقط، بل هو أيضاً لم يجرؤ يوماً على قول كلمة نقد ضد الحكم السعودي، رغم مناصرته الموسميّة لقضيّة فلسطين (مع أنّه يداور عندما يُسأل في وسائل إعلام غربيّة عن رأيه في العنف ضد قوّات الاحتلال، وقد غيّر رأيه في الموضوع بالنسبة الى قوات الاحتلال الأميركي في العراق). والقرضاوي (وتنظيم اتحاد علماء حلف شمالي الأطلسي) بثّوا دعاية مذهبيّة صارخة في الحديث عن البحرين وسوريا فقط (أي أنّ هؤلاء رأوا في الحكم السعودي والبحريني زبدة العلمانيّة ونبذ الطائفيّة والمذهبيّة). وأيّد القرضاوي، من دون تردّد، التدخّل العسكري الأميركي في ليبيا (والتدخّل هو أميركي بصرف النظر عن المشاركة الغربيّة والقطريّة والإماراتيّة)، كما وعد من يموت في ليبيا بالشهادة فوراً. لو أنّ القرضاوي اهتم بإطعام الجياع قوتاً، بدلاً من إطعامهم جنّات عدن، لكانت إنجازاته حميدة. والقرضاوي لم يتذكّر طغيان حكم مبارك، إلا بعدما قرّرت الحكومة القطريّة أنّه آن الأوان لإسقاطه. تغيّرت نغمة التغطية: أصبحت أكثر حذراً وتركيزاً، ووقعت في عدم انسجام فظيع.
نجح الإعلام العربي في تقديم ثمار الانتفاضات العربيّة هديّة لحلف شمالي الأطلسي. أدوات القذّافي ورؤساء أقسامه الاستخباراتيّة والعسكريّة والبيروقراطيّة، تحوّلوا بقدرة قادر، بين ليلة وضحاها، إلى أبطال وديموقراطيّين. حتى موسى كوسى، الذي خطّط لأعمال إرهابيّة بأمر من العقيد، تحوّل إلى إصلاحي. كانت أميركا وإسرائيل خائفتيْن من خروج الانتفاضات العربيّة المتتالية عن السيطرة. قدّم مجلس التعامل الخليجي ليبيا هديّة للإدارة الأميركيّة (بمشاركة جامعة الطغاة العرب وبموافقة الطامح الى الرئاسة المصريّة الذي يستطيع أن يغيّر رأيه في أيّ مسألة، بعد أن يتلقّى مكالمة هاتفيّة واحدة من سعود الفيصل). والبحرين عنوان لمقاومة مجلس الطغيان الخليجي لأيّ مطالبة ديموقراطيّة، في أي بلد خليجي. زار جيفري فيلتمان (كاتب تقارير نميمة من الدرجة الأولى في وثائق «ويكيليكس») البحرين، وأيّد حكومتها، وتحدّث عن «شراكة» مع العائلة المالكة هناك. مشاركة في الجريمة؟ لم يسأله الصحافيّون هناك هذا السؤال.
حتى في الموضوع المهني، زالت الفوارق بين «الجزيرة» و«العربيّة». تدنّى مستوى المعايير الصحافيّة. شائعات تصبح أخباراً، وتكهّنات عرب في الغرب تصبح الخبر، والـ«يو تيوب» المُبهم المصدر يعوّض عن كاميرات المكاتب المنتشرة (أو الممنوعة). ما عادت «الجزيرة» تعكس الرأي العام العربي: أرادت أن تقنعه بحب حلف شمالي الأطلسي له (ولها). روابط الـ«يوتيوب» وخبريّات «فايسبوك» مجهولة المصدر، تُبثّ على مدار الساعة، والمعارضات المُموّلة سعوديّاً تصبح فجأة الناطقة الرسميّة باسم الشعب المقهور، في كلّ بلد عربي. تلاقى الإعلام العربي على عدم رصد المزيد من الاحتجاجات العربيّة (وإن كانت «الجزيرة» داعمة، مثلها مثل أميركا، لإبدال علي عبد الله صالح بطاغية آخر، لا يثير اسمه استفزازاً)، إلا في سوريا، مع الاهتمام بالوضع الإيراني، وتضخيم ما يحصل هناك.
وتلاقى الإعلام العربي في التعبير عن حنين الطغاة إلى الزمن الاستعماري (الجميل في نظرهم): ويصبح عندها حقبة الاستعمار الفرنسي أو البريطاني أو الإيطالي حقبات ذهبيّة، وتصبح العائلات الحاكمة زمن الاستعمار نماذج للحكم الفاضل. طبعاً، من مصلحة سلالات النفط والغاز الحاكمة أن تجمّل الحقبة الاستعماريّة، لأنّها مستمّرة في الاستفادة من نتائجها. والإعلام السعودي وقح في تمييزه بين الطغيان الملكي والطغيان الجمهوري. إنّ معاناة المجتمعات العربيّة تتضمّن، حتى الساعة، نتائج كارثيّة لأفعال سلالات الاستعمار، في مختلف الدول العربيّة.
وحرص الإعلام العربي على تغطية الوضع السوري بصورة مختلفة عن تغطية (أو عدم تغطية) الوضع في البحرين أو عمان أو السعوديّة أو دولة الإمارات العربيّة. لا تكترث الأنظمة النفطيّة، المُستحوذة على وسائل الإعلام كلّها، لمصلحة الشعب السوري أو الليبي. في الملفيْن، تنفّذ برامج أكبر من المنطقة كلّها. ابن رفعت الأسد أو من تختاره السعوديّة يصبح ناطقاً باسم الشعب السوري. ومحطة صهر الملك فهد، التي يديرها الأمير عزوز («العربيّة»)، تستضيف أدونيس، لتدعه يتحدّث بصورة ضبابيّة، غير مُضرة (على الطريقة الرحبانيّة)، عن «الحريّة»، من دون أن ينطق بكلمة طبعاً ضد التسلّط النفطي العربي. قد يرغب آل سعود في إبدال الجمهوريّات العربيّة كلّها بممالك مُوالية ومماشية لها.
ما يجري خطير. دخلنا في نفق لا آخر له. أميركا تريد أن تخطف أحلامنا وثوراتنا، وأن تجهض عمليّة التغيير الشعبي. وأصيبت السعوديّة بالذعر هي وإسرائيل، لذلك تحاول أن تمسك بالوضع في العالم العربي كلّه. تقلق، لكنّك تعوّل على غباء آل سعود، وعلى كراهيّة الناس لهم. إسرائيل ليست مُتفرّجة، كما يُقال لنا. هي جزء من المخطط المعادي الجاري. تستطيع أن تحدّد معالم مؤامرة الثورة المضادة وحجمها، عبر تلمّس تغيير تغطية «الجزيرة». لن يُحرّر حلف شمالي الأطلسي ليبيا، ولن يُحرّر محمود عبّاس فلسطين، ولن يفعل آل الحريري إلا ما يؤمرون به من حاشية هذا الأمير السعودي أو ذاك. وإذا قالوا لك عكس ذلك، تحسّس عقلك.
ملاحظة: يودّ الكاتب تهنئة طارق متري على عودته الحميدة من السعوديّة، حيث شارك في مهرجان «الجنادريّة».
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)