ماذا نعني بكلمة «الدولة» أو «النظام» حين نستعملها مجرّدة؟ ليس هناك كيان اجتماعي اسمه «دولة» يملك عقلاً خاصّاً به، أو إرادة فاعلة بذاتها. نحن غالباً ما نجعل من مصطلح «الدولة» أو «النظام» ما يشبه «حمّال المعاني» في الكلام السياسي، أي أنّنا نصوّره كالمسيطر على كلّ شيء في ميدان السياسة، وننسب إليه ما نشاء من أفعال، لكنّنا غالباً ما نعني به أموراً مختلفة تماماً. والمصطلح بذاته، لو تمعّنّا به، ليس إلّا مركّباً نظرياً يحيل الى مركبات نظريّة أخرى: مؤسّسات، بيروقراطيّة، قوانين. وهذه كلّها تعابير تعني ـــــ بذاتها ـــــ ما تعنيه كلمة «نظام»: لا شيء أبداً.بدأ التشكيك باستعمال مصطلح «الدولة» في العلوم السياسيّة منذ عقود. وفي السنوات العشرين الأخيرة، فكّك المصطلح الى شذرات. لم يعد أحد يجرؤ على الكلام عن دولة أو سلطة بطريقة مجرّدة من التعريف، فذاك أقصر الطرق لما سمّاه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا «السحر بالكلمات»: حين يصبح الاسم غطاءً لما وراءه، وحين نستعيض عن المعنى باللفظة. ليس هناك كائن اجتماعي اسمه «الدولة» كصندوق أسود ذي إرادة ذاتيّة. المهمّ في كلمة «الدولة» هو ما يقف وراءها، وهنا تتعدّد الاجتهادات: خلف الدّولة أفرادٌ يعقلون، ولهم معتقدات وأيديولوجيات ومصالح، وهم يتّخذون قرارات، وينفّذون سياسات، ويبنون الطرق والجسور. خلف الدّولة قنوات سلطة مجتمعيّة: مال ودخل يوزّع، وقرارات تشكّل الاقتصاد، وتقرّر من يُستغَلُّ فيه، ومن يَستَغِلّ. خلف الدّولة رأسماليّة عالميّة لا يمكن فصل أيّ حدثٍ محلّيّ عنها بالكامل. أي حديث عن الدّولة، أي عن السّلطة، يجب أن يربط بالأفراد وبالحياة الاجتماعيّة المتشابكة التي تكوّنها، وبالمنبع الحقيقي الدّائم للسّلطة: المال والاقتصاد. كان أستاذ العلوم السياسية في «ستانفورد» دايفيد لايتين دائماً ما ينصح طلّابه في أبحاثهم: «اتبعوا المال، اتبعوا المال دائماً». هذا، باختصار، ما سنفعله هنا.

صفقة مع رأس المال

خسرت سوريا نفسها حين أدارت ظهرها لنظام صلاح جديد، وهو ـــــ باعتقادي الشخصي وأنا لم أجايله ـــــ أفضل نظام أنتجته سوريا، أو يحتمل أن تنتجه في المستقبل. من التسطيح القول إنّ الحركة التصحيحية كانت مجرّد انقلاب عسكري لجناح مكوّن من أفراد. نظام 1970 وما تلاه كان ردّة قادتها البرجوازيّة السورية ضدّ الاشتراكيّة التي استدخلها عبد الناصر الى سوريا، ثمّ عمّقها نظام جديد. نظام 1970 كان حسماً للصراع الاجتماعي في سوريا بانتصار مبين للطبقة الرأسمالية على الاتجاهات التشاركيّة في المجتمع. وهذا الحدث هو الّذي شكّل «سوريا الحديثة» بحقّ.
عليّ أن اعترف، بمرارة، بأنّ الاشتراكيّة لم تصبح يوماً صرعةً ناجحة في سوريا، أقلّه بين صفوف الطبقات الوسطى والعليا، التي لها الصوت الأقوى في المجتمع. صدام النظام الاشتراكي مع البرجوازية السورية التقليدية كان عنيفاً وموجعاً في الستينيات: بدأ النظام فعليّاً بإعادة توزيع شاملة للقوّة المجتمعيّة وقضى ـــــ خلال العملية ـــــ على قطاعات الصناعيين الكبار والملّاك الزراعيين بالكامل تقريباً ـــــ مورثاً هذه المهمات للقطاع العام. ولكنّ الثّورة المضادّة كانت سريعة وفعّالة، قادتها فئة التجّار التي نجت من محنة التأميمات وقد أخذت، في السنوات التالية، بثأر القطاع الخاص في سوريا بالجملة وبالمفرّق.
عليّ أن أعترف أيضاً، بمرارة أكبر، بأنّ سوريا ـــــ أو قسماً مهمّاً منها ـــــ قد تخلّت عن صلاح جديد. جاءت الحركة التصحيحيّة تحت شعارات تشابه الى حدّ ما عودة البعث في عراق 1968، وقد لاقت تلك الطروحات في سوريا قبولاً عامّاً واستكانة شعبيّة، وخاصّة لدى مقارنتها بالنظام السابق الذي لم يرد سواد الشعب العودة الى كنفه. وعود الحركة التصحيحيّة لسوريا المنهكة من الانقلابات كانت: استقرار أكثر، أيديولوجيا أقلّ، و ... «الانفتاح».
«الانفتاح» كان بيت المقصد، الانفتاح بمعنى الردّة على اشتراكيّة صلاح جديد وتضييقه على القطاع الخاص، والتخلّص من ذكريات التأميم المؤلمة. الانفتاح كلمة ـــــ رمز لما يسميه الباحثون «التحالف الذي عقد بين نظام الأسد والنخبة التجارية في القطاع الخاص». في دراسته عن سوريا، نبّه حنّا بطاطو الى الأهميّة المركزيّة للقطاع الرأسمالي الخاص بسوريا وإلى نفوذه المهيمن والمتعاظم في الدّولة والمجتمع.
أضحى ذلك القطاع الخاص الرأسمالي، باطّراد منذ 1970، «النظام» الفعلي في سوريا: يصمَّم الاقتصاد على قياسه، يعاني الشعب حتى يزدهر هو، ويبقى هو الرقم الصعب الذي لا يتنازل عن مكاسب بعد كلّ أزمة داخليّة. الرعاية التي أمّنها النظام لبرجوازيته قلّ مثيلها، وخاصّة إذا ما قارنّاها بمصائر الشعب العامل في الفترة ذاتها. لم يكن «انفتاح» السبعينيات الحلقة الوحيدة في الإصلاح الرأسمالي بسوريا، بل بقيت الدولة تطلق، كلّ بضع سنوات، وبعد كلّ أزمة سياسية أو اقتصاديّة، موجة جديدة من «الانفتاح» ورزمة جديدة من التسهيلات للرأسمالية المحليّة، لتعيد تشريع النّظام وتجدّد التحالف الطبقي.
من تابع التطوّرات السّوريّة عن كثب لا بدّ أن يبتسم للخطاب الذي يسمعه هناك باستمرار، كلّما وطئ أرض البلد على امتداد العقود الأخيرة: «البلد لم يعد كالسّابق، لقد انفتحت سوريا الآن، صار فيها بضائع غربيّة، هواتف خلويّة، إنترنت ومصارف (بحسب الحقبة)». كلّ «الانفتاحات» التي حصلت في سوريا أفادت الطبقة الرأسمالية ومتموّلي القطاع الخاص حصراً، بينما كانت بُنى الاقتصاد الاشتراكي ـــــ الذي كان بالكاد يحبو في عهد جديد ـــــ تُفكّك واحدة تلو الأخرى. كما لاحظ حنّا بطاطو، توقّف التطوّر المتصاعد لمستوى المعيشة في الرّيف السّوري في الثمانينيات، وبدأ وضع الريف بالجمود والتراجع. ونضيف نحن: وصار وضعه مأسوياً منذ بدء الألفية الثالثة، وعادت ظواهر مؤلمة ـــــ كالهجرة الجماعيّة في مواسم القحط ـــــ لم يعهدها ريف سوريا منذ الخمسينيات. تلحق الطبقات المدينية الدنيا والوسطى بمصير أخواتها في الريف، مع فارق زمنيّ معيّن. هذا الانخفاض المستمرّ في مستوى معيشة الشعب كان يحصل فيما كانت البرجوازية السورية تدلّل باستمرار وتكتسب حرّيّات متزايدة للعمل، والاستيراد، وتكديس الأرباح، والاستهلاك المكشوف على الطريقة الغربية، حتّى وصل الأمر بالدّولة الاشتراكيّة في السنوات الماضية الى الدخول في الحلقة الأعمق من «الانفتاح»: النظام المالي والمصرفي.

النيوليبراليّة في التفاصيل

هنا، ينبغي تسجيل نقطة هامّة للغاية. لا يجب على أحد أن يُسحر أو يُخدع بالشعارات، أو أن يخلط بينها وبين السياسات. كلمة «اشتراكية» هي ككلمة «دولة» و«نظام» تماماً، قد يختبئ خلفها أكثر الأنظمة الاقتصادية إمعاناً بالليبرالية وأشدّها ضراوة في تسليع المجتمع والعمل. لم تعان أميركا في عهد ريغان كما عانت مصر في ظلّ السادات، وخاصّة في أيّام «اشتراكيّته». وقد هدم الاشتراكي فرنسوا ميتران النظام الاشتراكي الفرنسي، بقدر لم تحلم به أكثر الحكومات يمينية.
اختبأت النيوليبراليّة خلف اشتراكيّة الدولة في سوريا منذ السبعينيات. وزير الاقتصاد لسنوات طويلة في عهد حافظ الأسد، محمد العمادي، وهو من أعطي اليد الطولى في إعادة تصميم اقتصاد سوريا، كان كأكثر من لحقه ليبرالياً اقتصادياً بلا مواربة وباقتناع عميق ـــــ وسياساته تؤكّد مبادئه.
لا يحتاج المراقب الى كبير عناء ليثبت بأنّ تلاحق الإصلاحات في العقود الماضية كان جلّه يصبّ في اتّجاه واحد: خدمة الرأسمالية المحليّة على حساب المواطن السوري. البقية الباقية اليوم من آثار النّظام الاشتراكي (من إجراءات حمائية وتنظيمات) هي موجودة لخدمة البرجوازية المكرّسة وحمايتها من المنافسة الخارجية والداخلية، لا لتقييدها. والبعض الآخر من هذه الإجراءات موجود فحسب حتّى تتحمّل الدولة، لا الطبقة الغنيّة في المجتمع، مسؤولية تأمين الحدّ الأدنى من الضمانات المعيشيّة للمواطنين.
خلقت الإصلاحات جوّاً مريحاً للرأسماليين السوريين، ليس موجوداً حتّى في أميركا أو الصّين، ولا يحلم به الرأسماليّون الألمان. الضرائب على المداخيل والأرباح والشركات انخفضت، حتّى صار الشطر الأقصى لضريبة الدخل 22% (لمن يدفعها)، والحدّ الأعلى لضريبة أرباح الشركات 30.8%. وهذا في نظام «اشتراكي» توزيعي!
لا تغرّنكم الشعارات الاشتراكية. أتعلمون أنّ إجمالي عائد الدولة السورية من الضرائب في السنة الأخيرة لم يتجاوز 10.2% من الدخل القومي الإجمالي؟ أي أنّ سوريا الاشتراكيّة تحصّل من مجتمعها مقداراً أقل بأضعاف ممّا يفعله النّظام اللبناني الغارق في الليبراليّة! هذه الأرقام تعني شيئاً واحداً: النظام (الحقيقي) في سوريا استعمل الموارد النفطية المكتشفة في الثمانينيات لخلق طفرات اقتصادية توزّع هذا الدخل على جيوب الرأسمالية المحليّة، فيما يُترك الشعب لخدمات البيروقراطيّة المتهاوية من قلّة الاستثمار وبقايا المكاسب الاجتماعيّة التي لم تهدر بعد.
في الوقت ذاته، أمّنت الدولة لحلفائها الرأسماليين معيناً لا ينضب من الأيدي العاملة الرخيصة، حتى تستغلّ بلا وازع ولا قانون وتجنى الأرباح على ظهرها، ويُرسل الملايين منها الى لبنان ليُستغلّوا أكثر ـــــ ويهانوا ويُمتهنوا بعنصريّة فوق ذلك. ولأنّ القانون «الاشتراكي» ـــــ وهو دقّة قديمة ـــــ يضع بعض الحدود على استغلال البشر، شجّع النظام قيام السّوق الرّديف «غير الرسمي»، حيث تسرح الرأسماليّة في ملعب بلا قيود ولا أنظمة، حتّى صار هذا القطاع أكبر مشغّلي الأيدي العاملة في البلد.
المزعج في الخطاب الذي يركّز نقد السياسات في سوريا على «الفساد» هو ذاته ما يزعج في خطاب «حقوق الإنسان»: كما يقول الأميركيّون «ما يثير الجنون هو ليس ما يحظره القانون، بل ما يسمح به القانون». ففي لبنان مثلاً، حصلت عمليّة سرقة لمال الشعب على مستوى أسطوري، وقد حصل ذلك «بالقانون» أساساً. لكن، في لبنان كما في سوريا، جشع الرأسمالي لا يعرف حدوداً، والتاجر مستعدّ دوماً لخرق القانون من أجل نسبة أرباح أعلى بقليل ـــــ ما إن يفسح له المجال بذلك.

أهناك فعلاً «نظام» في سوريا؟

في مقابل كلّ ذلك، كانت البرجوازية السورية وفيّة للنظام السياسي الذي احتضنها ودلّلها ونصّبها في قمّة المجتمع. وينطبق ذلك خصوصاً على تجّار المدن الكبرى، وبالأخصّ دمشق، محظيّة رئاسة حافظ الأسد. سمحت تلك البرجوازية بتسهيل عملية الانتقال من نظام صلاح جديد، ثمّ دعمت النظام السياسي خلال احتجاجات أواخر السبعينيات، مع أنّ مجرّد وقوفها على الحياد كان كفيلاً بتغيير تاريخ سوريا السياسي. ثمّ وقف أغلبها مع النظام خلال اضطرابات الثمانينيات، وشرّعت للنّظام كل خطواته و«إصلاحاته» في الأيديولوجيا والسياسة الخارجية مذّاك: من حرب العراق 1991 الى السير في ركب مفاوضات السلام، ثمّ الى المقاومة مجدّداً في عهد جورج بوش. والرأسمالية تقف اليوم بوضوح مع النظام في وجه الاحتجاجات الحاصلة. من يستغرب ضمن المعارضة السورية غياب الاحتجاجات عن حلب يستغرب لأنّه يعامل السوريين على أنّهم كائنات طائفيّة فحسب، ولأنّه لا يفقه ديناميّات القوّة.
(يمكن سؤال الصديق موريس العايق عن السلوك السياسي للنخب الاقتصادية السورية، وهو موضوع يملك نواصيه، كما أنّ الأكاديمي بسّام حدّاد قد أفاض في دراساته بتوصيف الطبقة الرأسمالية السورية).
حين قرّر الرئيس بشّار الأسد المضي قدماً في الإصلاح الاقتصادي مع تسلّمه الرئاسة، ولكن بغير أن يترافق هذا «الانفتاح» الجديد مع حرّيّة سياسيّة للعامّة، كان النظام يتعلّم ببساطة من معين الإصلاحيين الصينيين ومن أنظمة أميركا اللاتينية: المهم كسب البرجوازية من خلال جيوبها، لا عقولها. كان من الطبيعي أن ينتفض الجناح «المثقّف» في الطبقة الوسطى السوريّة على غياب حريّة التعبير من حزمة الإصلاحات، وهذا ما حصل في «ربيع دمشق»، لكنّ الجناح «المالي» في الطبقة ذاتها كان له رأي مغاير. وهو في ذلك محقّ تماماً: انظروا إليهم. انظروا الى الرأسمالية الجديدة في سوريا اليوم، تتمختر في سياراتها الفارهة ونمط حياتها الاستهلاكي الغربي (الذي كان مذموماً أيّام جديد) وتنظر إلينا من عل وتقول بلا كلام: «هذا بلدنا، ونحن نملكه. انتهت المعركة وقد انتصرنا».
بعدما كانت الرأسمالية السورية تخبّئ أموالها وتخفي مظاهر استهلاكها، صارت هذه النخبة تتعامل بفوقيّة مع الفقراء وتتفنّن في إظهار استهلاكها. بل إنّها بدأت، في الثقافة والإعلام والمسلسلات، بنشر قيمها (البائسة) وأخلاقياتها وجمالياتها في المجتمع بعدما استراحت على قمّته.
فكّروا بحقيقة المجتمع في سوريا ثمّ أخبروني: أين هو النظام؟ أنا لا أحاجج بأنّه «ليس هناك نظام» في سوريا، بل إنّ هناك نظاماً بالتأكيد، لكنّه ليس بالضرورة مجموعة الأفراد الذين نعنيهم عادة بالكلمة. فكّروا بالموضوع قليلاً: أقصى ما يمكن النظام السياسي أن يفعله في الاقتصاد هو أن يضمّ بعض بطانته الى تلك النخبة الماليّة. وأقصى ما يمكن وسائطه الأمنية وكلّ جند الأرض أن يفعلوه، هو حماية هذا النظام المصمّم أساساً من أجل خدمة الطبقة الماليّة عينها!

* طالب دكتوراه علوم سياسية ـــــ جامعة كاليفورنيا، بيركلي