إنّه اليوم السادس للثورة، ولم يكن يخطر ببالنا أنّنا سنؤرخ للثورة ببداية يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011.قضيت الأيام الثلاثة الأولى مع قيادة الإخوان نرتب للثورة، ونتابع الأحداث ونراقب التطورات، ونستعدّ لما بعدها، ونفكّر في المستقبل. باختصار، كانت سياستنا هي التطور مع الحدث، ومحاولة استباقه. كان آخر نشاط لي يوم 27 يناير/ كانون الثاني (الخميس ليلاً)، وهو عبارة عن لقاء مع محمد البرادعي حضره الكتاتني وعبد الجليل مصطفى، وأبو الغار، مع الشباب مصطفى النجار، وعبد الرحمن سمير وعبد المنعم إمام.
قضيت الأيام الثلاثة التالية (28، 29، و30 يناير/ كانون الثاني) في السجن، بداية في مديرية أمن محافظة 6 أكتوبر، ثم انتقلنا (34 من قيادات الإخوان المسلمين) إلى سجن وادي النطرون. كانت تلك أقصر فترة سجن أقضيها وراء الأسوار، إذ لم تتجاوز 58 ساعة.
وكان من قدري أن أعيش فيها لحظات تاريخية بحق، وهي هروب المساجين. قضية محل تحقيق الآن. وقد هاتفني أحد العاملين بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، من اللجنة المختصة لتقصّي الحقائق عن هروب المساجين من العديد من السجون لنلتقي كي نتناقش في ذلك الموضوع: هل هناك شبهة جنائية أو تواطؤ، أم هو إهمال فقط؟ وهل خرج المساجين بقرار سيادي من الوزير أو مساعده؟ أم أنّ التمرد حصل نتيجة الانهيار المفاجئ لجهاز الشرطة، بعد حديث مبارك مع العادلي وسقوط مئات الشهداء ونزول الجيش؟ رغم الاتفاق على اللقاء لم يُعقد حتى كتابة هذه السطور.
بدأت الأحداث بعد منتصف الليل بقليل، إذ تسرب إلى عيوننا الغاز المسيّل للدموع الذي كانت قوات الحرس تطلقه على عنبر بجوارنا. واستيقظت في موعدي المعتاد، توضأت واستعددت لصلاة التهجد.
قبل الدخول في الصلاة، مررت على الزنازين أطمئن إلى الإخوان وأبحث عن الراديو الوحيد الذي استمعت إلى آخر نشرة منه قبل نومي مبكراً. وجدت البعض يصلي، والبعض نائماً مطمئناً، والبعض يستعد للصلاة، ولم أجد الراديو.
فرشت سجادة الصلاة في الممر، لا في الزنزانة كي لا أزعج زميليّ في الزنزانة، فإذا بباب نصف مفتوح والضابط حسام يقف أمام باب العنبر يستجدي زملاءه بالخارج عبر جهاز اللاسلكي أن يفتحوا له الباب، قائلاً لهم بصوت واهن ضعيف «اللي ها يجري عليكم يجري عليّ» .
وقفت بجواره مندهشاً من المشهد الذي حاولت أن أميّزه من كوّة الباب، وكانت من زجاج مزدوج أو مثلث غير قابل للكسر، لا تستطيع الرؤية منه إلا بصعوبة شديدة.
رأيت الجنود بدروعهم البلاستيكية وبنادق إطلاق الغاز، وبنادق عادية لا أدري إن كان بها ذخيرة أو لا، وسحب دخان الغاز تتصاعد، والبعض فوق سطح المبنى الإداري المواجه للعنبر.
كانت أشبه بمعركة فيها «كرّ وفرّ»، يتقدم الجنود بقيادة ضباط السجن إلى الأمام ثم يتراجعون سريعاً. وبدا أنّ المساجين والمعتقلين كانوا يقذفون الحجارة.
على التوالي، كنت أستمع إلى أصوات من داخل العنبر المجاور تدقّ على الجدران كأنّها تريد إحداث ثغرة للخروج.
عندما دخلنا العنبر ليلة السبت، كان فيه اثنان من طلاب الإخوان من المنوفية، معتقلان بسبب نشاطهم الجامعي. سألناهما عن سكان العنابر التي فيها تمرد، فقالوا إنّهم من جماعة التكفير وأعضاء من الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد.
كان باب التريض الشمالي مفتوحاً، فخرجنا لنستطلع الأمر، فكان الصوت أعلى صخباً والغاز المسيّل للدموع أكثر تأثيراً، رغم الهواء الطلق.
كنا نتناوب بين الصلاة ومتابعة الموقف، وخرج الضابط (المساعد) دون ملاحظة أحدنا، فأصبحنا وحدنا وليس معنا حراسة. واتضح أنّ القوات في سبيلها إلى ترك السجن لقدره المحتوم.
استمعت إلى إذاعة البرنامج العام في نشرات الصباح، عقب صلاة الفجر، فإذا بخبر مثير للدهشة عن اغتيال اللواء محمد البطران، المدير العام لسجن الفيوم، وكأنّها إشارة مرسلة إلى السجناء والنزلاء، في كل السجون للتحرك ضد إداراتها.
ألّفنا لجنة من أعضاء المكتب السبعة لإدارة الأزمة، ومحاولة فهم ما يحدث، والبحث عن السبل الكفيلة بإنقاذ الإخوان من أي مخاطر محتملة.
لم يكن يخطر ببالنا إطلاقاً أنّ هناك انفجاراً داخلياً في كلّ السجون على مستوى القطر، وأنّ التمرّد له أبعاد لا نعلمها، بسبب انقطاعنا التام عن الأخبار.
فوجئنا في الثامنة والنصف صباحاً بخروج المساجين من العنابر المجاورة لنا إلى فناء السجن، وبدأنا بالنداء عليهم. وصعد الشابان إلى السور للاستنجاد بهم لأنّنا لا نعلم هل علموا بوجودنا أو لا.
فعلاً، استجاب بعضهم لنا وبدأوا بالعمل على فتح باب العنبر. وألقى أحدهم هاتفاً محمولاً للاستعانة به في الاتصالات الخارجية بأهلنا، لأنّ الخطر شديد والبلد في حال ثورة وهناك شهداء سقطوا من يوم الجمعة. وبدأنا نستقي الأخبار الخطيرة عبر الهاتف، وكان لا بد من حضور أحد من أهلنا أو الإخوان لنقلنا إلى مكان آمن.
قبيل صلاة الظهر كان قد كسر الباب من الخارج، وكنا قد أعددنا أنفسنا للخروج بحزم حقائبنا، وأعددنا خطابنا إلى الإعلام الذي سيبادر بالاتصال فوراً.
في ذلك الوقت، كان أقرب الأهالي لنا هم إخوان وادي النطرون وإخوان مدينة السادات، فاتصلنا بهم للاستعداد للحضور ببعض السيارات لحملنا إلى بيوتنا.
فرشنا البطانيات لصلاة الظهر، ورحنا نلو النوافل والدعاء والابتهال إلى الله أن يلطف بالبلاد والعباد وأن يحفظ بلادنا ودعوتنا وأولادنا وزوجاتنا في هذه الظروف
الدقيقة.
قبل الأذان بعشر دقائق تقريباً، كُسر الباب وقررنا تأجيل الصلاة وجمع الظهر مع العصر، عند وصولنا إلى مكان آمن.
خرجنا قلقين جداً. وجدنا الإدارة محطمة الأبواب، بحثنا عن أوراقنا وبطاقات الرقم القومي، فلم نجد شيئاً. هربت إدارة السجن كلّها. لاحظنا سيارة شرطة محروقة. ولاحظنا أنّ عنبرين (عددها الكلي 4 عنابر) قد فرغا بالإضافة إلى عنبرنا، وبقي الرابع الأخير وفيه مساجين جنائيون، استنجدوا بنا لمساعدتهم، فتركنا لهم كلّ الأدوات الممكنة، لكن لم يكن لدينا خبرة بذلك الأمر.
انطلقنا مسرعين إلى الخارج، وجدنا على الطريق مئات المساجين من باقي سجون منطقة وادي النطرون يحاولون ركوب أيّ عربة تسير في الطريق، لكن لم يستجب لهم أحد.
بعد تناول غداء سريع في مدينة السادات، مررنا أثناء عودتنا على نقاط تفتيش عسكرية عند بوابات الخروج من الطريق الصحراوي، أطلقت على سيارتنا النيران في الهواء. كنا نلبس ملابس مدنية، إذ إننا لم نتسلّم ملابس السجن، فقلنا لهم نحن أطباء. كنت في سيارة يقودها زوج ابنتي الطبيب، وكان يحمل هويته، وتركت ابني وزوج ابنتي الأخرى، ليحملوا بسياراتهم آخرين إلى أقرب مكان آمن.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر