افتتحت الدورة الصيفية للكنيست الإسرائيلي قبل أسابيع بـ«مارثون» أتحفنا بحفنة من القوانين «العنصريّة»، قبل خروج المشرّع الإسرائيلي للاحتفال بعطلة عيد «الفصح» اليهودي كما يجب، متمّماً واجباته القوميّة على «أجمل» وجه. ففي التاسع والعشرين من آذار تحديداً، سنّ «الكنيست» قانوناً يحظر على أيّ جهة (عامة أو خاصة) بيع أراض أو تأجير عقارات لمدّة تزيد على خمس سنوات، أو توريث أو إهداء حقوق في ملكيّات خاصة مسجّلة في إسرائيل، لـ«غرباء». وهؤلاء الغرباء هم كلّ مَن ليس مقيماً أو مواطناً في إسرائيل، أو يهوديّاً تحقّ له «الهجرة» إلى إسرائيل وفقاً لقانون «العودة» الإسرائيلي (1950). ويأتي هذا القانون ليوسّع رقعة الحظر الذي كان سارياً منذ الثمانينيّات على الأراضي المسجّلة باسم دولة إسرائيل فقط، ليشمل الآن الملكيّات الخاصة، سواء أكانت عربيةً أم يهودية.

في جلسة عُقدت سابقاً في لجنة الدستور والقانون والقضاء في الكنيست، لتداول نص القانون المقترح، قبيل التصويت عليه في جلسة البرلمان، فسّر أحد مقترحي القانون «الحاجة» في وجود مثل هذا القانون، على النحو الآتي:
«سألنا أنفسنا كيف نضمن أنّ أراضي هذه البلاد، التي جرى تخليص قسم منها في ذلك الحين بفضل هبات من الشعب اليهودي والقسم الآخر اشترته دولة إسرائيل؛ لن تقع في أيد معادية عبر إجراءات فضفاضة، أو ربّما عبر طرق اقتناء أخرى تمكّنها من الاستيلاء على قطع كبيرة. فقد تكون هناك موجات شراء كثيفة، من شأنها نزع شوكة حقيقة أنّ هذه (الدولة) هي دولة الشعب اليهودي قبل كلّ شيء. الأراضي مخصصة لهذا الغرض. كل الصراع بيننا هنا هو على الأراضي. هذا هو جوهر الصراع».
يقرّ هذا القانون الذي مرّ من دون أن توليه الصحافة أيّ اهتمام، حلقةً إضافية في حملة المتاجرة بالأراضي التي استولت عليها دولة إسرائيل وصادرتها من أصحابها العرب الفلسطينيين منذ 1948، سواء الأراضي العربية الخاصة التي بات أصحابها مواطنين أو مقيمين في إسرائيل أو لاجئين في الشتات، أو الأراضي التي كانت تابعة للملكية العامة الفلسطينية قبيل النكبة. وتقدّر الأراضي المسجّلة باسم دولة إسرائيل بقرابة 93% من مساحة الدولة وفق «حدودها» اليوم، حظر القانون الإسرائيلي، على مدى عقود طويلة، بيعها واقتصر التصرّف بها على تأجيرها لعشرات السنين، وذلك من منطلقات صهيونية قاضية بعدم بيع أرض الشعب اليهودي إلى الأبد. إلا أنّه في 2009، أقرّ «الكنيست» قانوناً، أُطلق عليه اسم «قانون الخصخصة»، يتيح بيع 800 ألف دونم من الأراضي الواقعة في إسرائيل. بيدَ أن الفكر الصهيوني الكولونيالي، الذي تضرب جذوره عميقاً في كلّ التشريعات والقرارات الإسرائيلية التي تخصّ الأراضي على وجه الخصوص، وعمادُه الحفاظ على «أرض الميعاد» في أيد يهوديّة، وحمايتها من «الغرباء»، حتى وإن كانوا أصحاب الحقّ الشرعيّ والأساسيّ على هذه الأراضي؛ لم يكن ليسمح بمرور عمليّة الخصخصة، من دون فرض تقييدات قومية/ عرقية على هوية المشترين. وعليه، فإنّ القانون الأخير يؤلّف القاعدة الأيديولوجية لكلّ من له «شأن» في الأراضي الواقعة في أيدي دولة إسرائيل، بحيث إنّ الحقّ في أرض فلسطين هو حصريّ للشعب اليهوديّ، بغضّ النظر ودون اعتبار لتاريخ هذه الأرض وحقّ سكّانها الأصليين فيها.
ويمثّل هذا القانون تحديداً علامة فارقة في تاريخ قانون سلب الملكيّة الفلسطينية لأرض فلسطين، إذ يكرّس التشتّت الجغرافيّ والحالة «المدنية» للفلسطينيين في دولة إسرائيل، عن طريق توظيف لغة قانونيّة مجرّدة ومحايدة، لاغياً كلّ الحقبة التاريخية السابقة للاستيلاء على الأراضي. فعبر التلويح بورقتي المواطنة والإقامة، لا يُطالب الفلسطينيون، ممّن لم يُشرّدوا من بلادهم وأضحوا لاحقاً مواطنين أو مقيمين في إسرائيل، بـ«قبول» الفكر الصهيوني فحسب، بل بممارسته فعليّاً أيضاً، إذ إنّ أراضيهم الخاصة باتت خاضعة للتصرّف اليهوديّ الحصريّ.
من جهة ثانية، بات اللاجئون الفلسطينيون في الشتات، على اختلاف جنسيّاتهم، «غرباء» ككل حَمَلَة الجنسيّات الأجنبية من غير اليهود. على مدى السنوات الستّين الأخيرة، عرّف القانون الإسرائيلي اللاجئين الفلسطينيين بـ«الغائبين»، وذلك بعدما حفظتت إسرائيل في السنوات الأولى عقب النكبة ماء وجهها، عن طريق تقديم التزام للمجتمع الدولي بالحفاظ على حقّ اللاجئين الفلسطينيين وعلى بيوتهم وممتلكاتهم، إلى حين التوصّل إلى حلّ سياسيّ مستقبليّ لقضيّتهم. لكن اليوم، تعرّف إسرائيل اللاجئين الفلسطينيين بأنهم «غرباء»، وبالتالي تعيد تعريف الوضعيّة «القانونية» للأرض الفلسطينية، بحيث تستثني كل مَن هو «غريب» مِن مشروع حتميّة الدولة الصهيونيّة، إلى أبد الآبدين.
* محاميتان في مركز «عدالة»
الحقوقي في حيفا