فيتوريو أريغوني. الاسم لا يمتّ إلى فلسطين بصلة، لكنّ يبدو أنه بات مرتبطاً بها. الناشط الإيطالي، الذي آثر تبنّي القضية، لم يكتف بالتضامن من الخارج. قرر ترك كلّ شيء وراءه، غادر الربوع الأوروبية وانتقل إلى قطاع غزّة لممارسة قناعاته برفض الحصار الخانق على مئات آلاف الفلسطينيين. كان سعيداً بخياراته، هذا ما تشير إليه الصور المنشورة له على المواقع الإلكترونية وفي الصحف العالمية، ولا سيما تلك الصورة التي تظهره رافعاً علم فلسطين، فوق أحد مراكب الصيد. لم يمارس الصحافي الإيطالي، المعروف في غزّة باسم «فيكتور»، قناعاته عن ترف، بل عن خلفيّة أيديولوجيّة يساريّة، جعلته مقتنعاً بأحقيّة أصحاب الأرض، وعبث التضامن من الخارج، فقرر البقاء في غزّة منذ 2008، لدى وصوله للمرة الأولى إلى القطاع مع إحدى سفن كسر الحصار. حتى أنّه شارك، بشكل أو بآخر، بمواجهة عدوان «الرصاص المصهور»، وأصيب بإحدى شظايا قذائف الاحتلال.
قناعة «فيكتور» دفعته إلى وشم كلمة «المقاومة» بالعربية على ساعده، وهو كان يرفعها أمام الكاميرات، فرحاً بالخيار الذي اتخذه، لكنّه لم يتخيّل يوماًَ أنّ أحداً من الشعب الذي تضامن معه وتبنّى قضيّته، هو الذي سيقتله.
استشهد «فيكتور» فجر أمس. قتلته مجموعة سلفيّة، هي واحدة من مجموعات كثيرة انتشرت في قطاع غزّة في السنوات القليلة الماضية، تحت مرأى حركة «حماس» الإسلاميّة الحاكمة ومسمعها. هذه الأخيرة لم تختر مواجهة هذه الجماعات إلا بعد فوات الأوان، وبعدما شكلت بيئة حاضنة لها، ورعتها في فترة من الفترات، قبل أن تكتشف خطرها على حكم الحركة، لا على الشعب الفلسطيني الذي بات على مشارف خسارة التضامن الدولي.
قُتل «فيكتور» لأنّ هناك من قرّر في مرحلة من المراحل تغذية هذه الجماعات، تحت ذريعة الاستفادة منها في «العمل المقاوم»، رغم أنّه يدرك أنّ ما تعتبره مثل هذه الفئات مقاومة موجّه إلى الداخل قبل الخارج. المجتمع هو عدوها الأول، وإقامة «الدولة» وفق ما تعتنقه من أفكار هي الأولوية. حقيقة ليس من المفترض أنّها غائبة عن حركة «حماس» الحاكمة، ولا سيما أنّها إسلاميّة وعلى دراية بأفكار تلك التيارات المتطرفة. ومع ذلك أمّنت لها فسحة وجود، وبيئة نشوء.
من قتل «فيكتور»؟
الخبر الرسمي يقول إنّ جماعة تطلق على نفسها اسم «سرية الصحابي الهمام محمد بن مسلمة»، أعلنت مسؤوليتها عن اختطاف الصحافي الإيطالي فيكتور. وطالبت بشريط مصوّر، ظهر فيه «فيكتور» مدمّى، حكومة غزة بالإفراج عن جميع معتقليها، وفي مقدمهم هشام السعيدني المعروف باسم «أبو الوليد المقدسي».
الجماعة نفّذت وعيدها، وقتلت الصحافي الإيطالي خنقاً، قبل ساعات قليلة من مداهمة قوات الحكومة المقالة مركزها. الجماعة السلفيّة هذه مسؤولة مباشرة عن الجريمة، لكن هناك مسؤولية غير مباشرة تلقى على «حماس» بصورة غير مباشرة، ولا سيما أنّ مثل هذه الأطراف لم تظهر إلا بعدما فرضت الحركة حكمها الإسلامي على القطاع.
العودة بالتاريخ قليلاً تظهر أنّ السلفيين كانوا شركاء لحركة «حماس» في مرحلة من المراحل، وأساساً لم ينشأوا إلا من الانشقاق عن الحركة الإسلامية، التي ترعرعوا في أكنافها، بداية من ممتاز دغمش و«جيش الإسلام»، الذي شارك مع «حماس» في عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وصولاً إلى هذه الحركة الأخيرة.
البيئة الحاضنة لمثل هذه الأفكار المتطرّفة لم تؤمنها الحركة في داخلها فقط، بل عمدت إلى تعميمها على المجتمع، عبر حملات «منع الرذيلة» ومكافحة «التدخين النسائي» وإغلاق المطاعم التي تنظم حفلات موسيقية، وما إلى ذلك من حملات يعرفها ويعايشها الكثير من الغزاويين. حملات شكّلت خير مناخ لنشوء التطرف وترعرعه، بل حوّلته إلى عنصر جذب لجيل جديد تلمّس أولى خطوات تكوينه الفكري على هدي توجّه واحد متعدّد الرؤى، أمّنته حلقات المساجد والخيم «التوجيهية» المنتشرة في القطاع.
معطيات كثيرة لا تلقي تبعات القتل على هذه الفئة السلفيّة المتطرفة وحدها، بل على من أوجد لها بيئة نشوء. بيئة ستجعل غزة محاصرة من أهلها.