يثير السجال الذي اندلع أخيراً داخل الطبقة السياسية العراقية بسبب مجزرة حلبجة الكثير من علامات الاستفهام الكبيرة. تطاول علامات الاستفهام تلكْ المغزى الحقيقي لبعض المطالبات وللعملية البرلمانية المكرِّسة للمحاصصة الطائفية والناتجة منها، إذ امتنع فريق من الساسة ـــــ معظمهم من قائمة «العراقية» التي يقودها إياد علاوي المُعَرَّفُ عنه في الصحافة الغربية كعلماني شيعي ـــــ عن اعتبار مجزرة «حلبجة»، التي ارتكبها نظام صدام حسين في آذار 1988وراح ضحيتها أكثر من خمسة آلاف مدني كردي قتلوا بالغازات السامة، جريمة إبادة جماعية. وطالب هؤلاء باعتبار تدمير مدينة الفلوجة، وارتكاب المجازر فيها مرتين، من جانب قوات الاحتلال والحكومة التي كان يرأسها آنذاك علاوي ذاته في 2004، جريمة إبادة جماعية. رفضت الزعامات السياسية الكردية هذا المطلب، ووافقت قيادات مهمة في تحالف المالكي عليه، وحصر الموضوع بالتحقيق مع علاوي شخصياً.مفهومٌ أنَّ قرارات أو أحكاماً باعتبار هذا الحدث أو ذاك «جريمة إبادة جماعية» هي أمر قضائي بالدرجة الأولى. بمعنى، أنّه ليس إجراءً برلمانياً تشريعياً، إلا لناحية رمزيته ومناقبيته، لكنّنا حتى لو غضضنا الطرف عن هذا الاعتبار، ووافقنا على إصدار قرار مماثل مباشرةً من المؤسسة التشريعية، فإنّنا لن نجد له أيّ تجسيد عملي في الواقع السياسي، اللهمّ إلا لجهة إصدار بعض قرارات التعويض للضحايا الذين لا يزالون على قيد الحياة، أو لذوي القتلى منهم.
لم يكن لائقاً ولا إنسانياً، أن تبادر بعض الأطراف في كتلة «العراقية» إلى رفض هذا القرار، أو إلى ممارسة شكل من الابتزاز السياسي والعاطفي، عبر المطالبة باعتبار أحداث مدينة الفلوجة جريمة إبادة جماعية هي الأخرى، كمقابل للقرار السالف. كم كان الأمر سيبدو طبيعياً ومشروعاً، لو أنَّ تلك الأطراف استجابت للمسعى العام ووافقت على هذا القرار، إنصافاً لضحايا «حلبجة» الأبرياء، ثم، بعد فترة زمنية معقولة، بادرت وطرحت مطلبها الخاص بمجازر الفلوجة أو سواها.
لقد ورطتْ هذه الجهاتُ في «العراقية» زعيمها علاوي من حيث لم تشأ ـــــ هذا إذا أسقطنا مسبقاً من الحساب فرضية التآمر المسبق عليه داخل كتلته البرلمانية التي وجدت مَن يروج لها ـــــ وجعلته هو المطلوب الأول للتحقيق الداخلي أو الدولي، في حال الموافقة تشريعياً على هذا المطلب، وهذا ما تأكد فعلاً بعد حين. سارع مقربون من المالكي إلى تأييد المطلب الخاص بالفلوجة، ودعوا إلى بدء التحقيق مع علاوي، بوصفه رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة آنذاك، دون الإشارة إلى مسؤولية قوات الاحتلال التي كانت صاحبة السيادة الفعلية على الأرض. ثم التحق بهم عدد من شيوخ العشائر العربية السنية في تحالف «الإنقاذ» في محافظة الأنبار، التي يتبع قضاء الفلوجة لها إدارياً. وهؤلاء، على خلاف سياسي عميق مع قائمة علاوي وحلفائه في المحافظة. وحين شعر علاوي والمقربون منه بجدية هذه المطالبات وخطورتها، أطلقوا تهديداً جديداً بوجه المالكي، مفاده أنّهم مستعدون للذهاب إلى التحقيق بخصوص ما حدث في الفلوجة، لكنّهم سيطالبون ـــــ وهنا يتكرر الابتزاز بصورة أكثر وضوحاً ـــــ بفتح تحقيق آخر بخصوص مجزرة «الزركة». هذه الأخيرة حدثت في عهد المالكي، حين وجهت قواته الأمنية ضربة قاسية ودموية في 2007 إلى تجمعات حركة «جند السماء» في منطقة «الزركة» قرب النجف. وقد قدرت بعض المصادر عدد القتلى في تلك الصدامات بأكثر من ألف شخص، قضوا خلال ساعات قليلة. و«جند السماء» حركة مهدوية شيعية مناوئة للحكم وللمرجعية الشيعية النجفية، قالت قيادتها إنّ أنصارها لم يكونوا مسلحين يوم ذاك إلا على نحو رمزي، وللدفاع عن النفس في بلد يعج بالميليشيات والمسلحين، وإنَّ نشاطاتهم كانت دعوية وسلمية، وإنَّ معظم القتلى كانوا من أطفال ونساء أسر الأنصار المجتمعين في مخيمات مدنية هناك.
بقليل من التمعّن، وباستعادة البواعث الحقيقية «المفترضة» لقرارات ومطالبات كهذه، يمكن تلخيصها بإنصاف الضحايا وإعادة الاعتبار إليهم وإدانة جلاديهم، نجد أنفسنا إزاء الواقع الفعلي المعاكس، إذ لم يكن الداعون إلى اعتبار مجزرة «حلبجة» أو الأنفال أو انتفاضة ربيع 1991 المعروفة باسم «الانتفاضة الشعبانية» أو «مجزرة تجار بغداد» أو غير ذلك من جرائم النظام السابق، متسقين مع النهج الإنساني والوطني اللازم والمفترض قدر اتساقهم مع بواعث أخرى، قد لا تخرج عن إطار الثأر السياسي وإحراج خصوم الأمس الطائفيين، وتسجيل نقاط ثمينة في سجلات الصراع اليومي.
في المقابل، لم يكن الداعون إلى اعتبار الفلوجة ميدان جريمة إبادة جماعية مبدئيين وصادقين ومتسقين مع أي نهج أو فهم وطني وإنساني ينحاز إلى الضحايا الأبرياء ضد جلاديهم، لأنّهم سكتوا طويلاً على تلك المجازر، كما أنّ هؤلاء لم يكونوا بهذه الصفات حين رفضوا القرار الخاص بحلبجة، أو حين اشترطوا ربطه بقرار مشابه بخصوص مجزرتي «الفلوجة» أو «الزركة».
بالمثل، وبنظرة استقرائية بسيطة، نجد أنّ المقربين من المالكي، الذين وافقوا على المطلب الخاص بالفلوجة، لم يكونوا مبدئيين ومتسقين مع أي نهج وطني أو إنساني، بعدما سكتوا بدورهم طويلاً على هذا الموضوع، واكتفوا دائماً بتحميل مقاتلي تنظيم القاعدة التكفيري مسؤولية ما حدث لأهالي الفلوجة، بل هم أرادوا بهذه الموافقة، إزاحة خصمهم السياسي المدعوم سعودياً ـــــ علاوي ـــــ وإخراجه من الساحة نهائياً، بعدما نجحوا في تهميشه وسحب بساط «مجلس السياسات العليا» الذي وعِدَ به من تحت قدميه، وخصوصاً بعدما تشرذمت قائمته، وأصبح مجرداً من هيلمان القائد الضد.
بصراحة قد تزعج البعض، يمكن المراقبين الاستنتاج أنَّ هذه الأطراف جميعاً ـــــ الأحزاب الكردية والإسلامية الشيعية في تحالف المالكي والمكونات العربية السنية في قائمة علاوي وغيرها ـــــ كانت تمارس نوعاً من المناكفات والصراعات الفئوية النابعة من انحيازات وولاءات طائفية خارج إطار الانحياز الإنساني إلى ضحايا المجازر وتحكيم القانون، وربما ضده، وهي تستخدم جثث ودماء الضحايا لحساباتها الحزبية الخاصة.
لقد سارعت جهات أخرى، مشاركة في العملية السياسية، إلى التنبيه من خطورة فتح «ملف المجازر». فحزب المجلس الأعلى بقيادة الحكيم، حذر من الاستمرار في هذا النوع من المناكفات، وقال صراحة إنّ آفاق التنافس والتصعيد بهذا الخصوص خطيرة، وقد ينتج منها ما لا تحمد عقباه. والواقع، فهذا أمر مفروغ منه، وربما لم يكن الدافع إليه الحكمة البالغة أو الاستشراف الاستراتيجي لدى قيادة حزب الحكيم، بل هو الخوف من تداعيات فتح هذا الملف عملياً على وضع العملية السياسية الذي قد يدفع الاحتلال الأميركي، المتضرر الأكبر منه، إلى التحرك العنيف ضد جميع اللاعبين بنار المجازر. توقعات حزب الحكيم من أنَّ هذه المناكفات ستنتهي إلى تهدئة محسوبة وستتلاشى تدريجياً، يبدو أنّها أقرب إلى الواقع. فقد بدأت الضجة تخفت رويداً رويداً. هذا يؤكد أنَّ جميع الأطراف المشاركة اليوم في العملية السياسية ستكون متضررة من فتح هذا الملف، فهي تتحمل المسؤولية عن كل ما حدث في العراق المحتل منذ 2003 حتى الآن، وأنَّ من الخير لها أنْ تغلقه بأسرع ما يمكن. هذه «النصحية الثمينة» من حزب الحكيم لشركائه تؤكد لنا أنَّ تَطْييف المجازر أمر خطير ومرعب، وأنَّ المحتل الذي سكت حتى الآن، ولم يقل كلمته في الموضوع، قد يتحرك إذا ما أصبحت رؤوس قادته السياسيين والعسكريين مطلوبة من جانب محكمة دولية.
ليس لدى الاحتلال ما يخسره من مناكفات الساسة الطائفيين العادية، بل هو كان يشجعها في أوقات أخرى، لكنّه سيخسر كل شيء إنْ وضِعَ موضع المتهم بارتكاب «إبادات جماعية». هذا يعني أنّ الملف الأكبر والأخطر، ألا وهو ملف «مجزرة احتلال العراق»، وضحاياه المليون، سيبقى مغلقاً في الوقت الحاضر. أما إذا تجرأ أحد على فتحه الآن، فلن يكون صمت الاحتلال على المشاغبات السياسية لـ«أولاد الطوائف»، الذين جعل منهم حكاماً، وارداً البتة.
* كاتب عراقي