فُسّرت مواقف بعض السياسين اللبنانيين من المقاومة، المتضمنة في وثائق ويكيليكس، على أنّها نتاج بيئة حاضنة. لكن مضمون هذا المفهوم ــ البيئة الحاضنة ــ بقي دون توضيح، لدرجة أنّ البعض ذهب الى تفسير ذلك بالانتماءات الطائفية. لذلك، فإنّ توضيح هذا المفهوم أمر ملح أكثر من أي وقت مضى، لا لتفسير تلك المواقف فحسب، بل أيضاً لتفسير كلّ مواقف الطبقة المسيطرة في لبنان تجاه كلّ القضايا ذات الصلة بمأزق البلد واستعصاء تطوره. إنّ تفسير هذه المواقف كأنما هي مواقف خيانة شخصية، لا يقدم أية معرفة في الواقع اللبناني، ولا في آليات المواقف المختلفة وأسبابها، ولا في حقيقة الأمور، ولا في آليات المعالجة التي تنبع من هذا التفسير وتكتفي بإدانة الأشخاص لتصحيح الوضع، ولكي تستوي الأمور. غير أنّ مراجعة بسيطة لتاريخ لبنان الحديث تشهد على أنّ استبدال الأشخاص لم يغيّر في المواقف من القضايا الوطنية المتشابهة، الى هذا الحد أو ذاك، خلال حقبة لا تتجاوز نصف قرن من الزمن.لا يمكن فهم هذه المواقف من دون إرجاعها الى البيئة الحاضنة ـــــ أي البنية الاجتماعية التي حدّدت المواقع والمواقف الطبقية لهؤلاء ـــــ أي إرجاعها إلى بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية التبعية (علاقات الإنتاج الكولونيالية). فهؤلاء من طينة البرجوازية الكولونيالية، أو ممثلون لها. وهذا الموقع هو موقع قوى ترتبط بنيوياً (أي مصلحياً) بالإمبريالية، يربطها بها حبل السرّة، الذي يعبّر عن العجز البنيوي لهذه الطبقة عن أن تصبح برجوازية من النوع الغربي وأن تقود تطوراً وطنياً مستقلّاً. ولأنّها كذلك، فهي لا ترى أيّ مبرر للحديث عن قطع هذه التبعية او العمل من أجل ذلك، أي بكلام آخر من أجل التحرر الوطني الموجّه ضد البرجوازية الأمبريالية، بكل فصائلها.
ليست هذه الطبقة وممثلوها ضد قطع التبعية وضد التحرر الوطني وشكله المعاصر ـــــ المقاومة المسلحة ـــــ فحسب، بل هم في تحالف مع من يجري الصراع للتحرر من سيطرتهم. وعندما يعلنون عداءهم لإسرائيل فإنّما يعبّرون عن مآخذهم عليها لأنّها تسببت بمواقفها (وليس بوجودها) في ولادة مقاومة مسلحة، ولأنّها عجزت عن معالجة هذه الظاهرة، إذ كيف يمكن من هو في حالة عداء مع اسرائيل ـــــ القاعدة المتقدمة للامبريالية والولاية الواحدة والخمسين للولايات المتحدة ـــــ أن يكون في الوقت عينه حليفاً لأميركا، أو أن يحيّدها عن الصراع في المنطقة، وهو في الأساس صراع موجّه ضدها؟
ينبغي أن يكون الموقف من هذه الظاهرة ـــــ التواطؤ مع العدو ـــــ موقف الإدانة. لكن هذه الإدانة تؤخذ في الغالب، من قبل البعض، على أنها إدانة شخصية، أي ادانة للأشخاص الذين فعلوها، كأنما المسألة مسألة موقف شخصي أو كأنما الناس يولدون أشراراً وتكفي إدانتهم وإزاحتهم لتصفية البيئة الحاضنة والمخاطر الناجمة عنها. لذا يأتي الردّ الساخر بالدعوة إلى إجراء فحص دم لتحديد الانتماء الوطني. ولأنّ الانتماء الوطني لا يتحدد بفحص الدم بل بفحص المصالح والمواقف الطبقية، يقتضي الأمر أن تنطلق إدانة هذه الظاهرة من ادانة البيئة الحاضنة ـــــ الرأسمالية التبعية ـــــ التي تنتج باستمرار القوى التي تحميها، وتجدد الطبقة صاحبة المصلحة في تأبيد هذه الرأسمالية والارتباط بالامبريالية.
أما جرأة أصحاب المواقف المذكورة في الدفاع عن مواقفهم، فلا ينبغي أن تبعث على الاستغراب. إنّ مبعث الاستغراب هو استغراب هذه المواقف والإحجام عن فحص المصالح. فالمسألة هي أنّ الإدانة ينبغي أن تنطلق من موقع وموقف طبقيين، مغايرين لموقع هؤلاء وموقفهم، أي من موقف التصدّي للبرجوازية الامبريالية والموقف المقاوم لاسرائيل وللبنية المنتجة لهذه المواقف. ومن غير المفهوم أن تعلن الحرب على الرأسمالية المتوحشة لأنّها مصدر آلام الشعوب، ويُتكتّم من جهة ثانية على رأسمالية محلية، وتُقبل، رغم أنّها ليست أقل سوءاً منها لأنّها جزء منها. قد يكون هذا السكوت عن الرأسمالية التبعية في بلادنا هو مصدر الاستغراب لمواقف المعادين للمقاومة. لذا لم يعد تغييب المضمون الحقيقي للصراع والفهم العلمي للواقع اللبناني متناسباً مع وظيفة المقاومة. وينبغي التوقف عن تصوير الأمور على أنّها مواقف وصراعات طائفية، كأنما هناك «طوائف وطنية» وأخرى غير وطنية، علماً بأنّ العملاء الذين اعتُقلوا حتى الآن، أو الذين يجاهرون بعدائهم للمقاومة، جاءوا من كلّ الطوائف. كذلك الأبطال الذين فجروا المقاومة بوجه العدو الأسرائيلي جاءوا أيضاً من كلّ الطوائف. الفارق هنا فارق طبقي لا غير: المقاومون جاءوا من الطبقات الكادحة التي تربط التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي، وجاء العملاء والمرتبطون بالامبريالية من الطبقة البرجوازية، أو من بيئتها التي تجاهر في عدائها للتحرر الوطني. تحرر لا تعترف بوجوده وبضرورته أصلاً. هذه هي البيئة الحاضنة، وكلّ تأويل آخر لها إنما هو تعمية، وهدر للوقت والجهود.

* عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني