خلال مراقبة ما يجري في شوارع المدن، بين المحيط الأطلسي والخليج العربي، في بداية 2011، يجب التعريج على بازار المفاهيم السياسية التي استخدمت، لقراءة هذا الفضاء خلال السنوات العشرين الأخيرة. من هذه المفاهيم: التفاوض بين الحكومة وأحزاب المعارضة، مبادرات الإصلاح من الداخل أو من الخارج، تداول السلطة عبر التوريث، محاربة الإرهاب، مفاوضات ماراتونية لتخفيف حالة الطوارئ ... حرية الصحافة ... محاربة الفساد ... حالياً، لا يخاطب المحتجّون الحكومات، بل يريدون مباشرة إسقاط النظام. النتيجة أنّ رؤوس النظام يقدمون تنازلات، يزيدون الأجور، يقيلون وزراء ويعدلون دساتير. كان التفاوض يدور حول هذه المطالب، ويدوم عقداً ويتمخض عنه فأر. الآن، تتحقق هذه المطالب بلا مفاوضات. ولا توجد اليوم مبادرات لنشر الديموقراطية بالوكالة، بل تجري إصلاحات، ولا دخل للخارج فيها تقريباً. رفعت حالات الطوارئ دفعة واحدة، بلا تفاوض، وأصبحت الصحافة تعبّر، ولا تحاكم. لو جرى نشر ما تروّجه الصحف اليوم منذ عشرة أشهر، لأغلقت. والفساد؟ لم يعد نكرة تحارب، صار له اسم وعنوان. لذا تجري محاربة المفسدين، وتعلن أسماؤهم في لافتات وشعارات المتظاهرين. هؤلاء الذين تصلب صورهم في مقدمة التظاهرات لا يذهبون إلى المحاكم لتقديم شكاوى لأنّ سمعتهم تضررت بسبب القذف، يصمتون ولا يطلّون على الفضاء العام.ما يجري ليس مرشحاً ليهدأ، فقد اختفى الوسطاء التقليديون الذين يزعمون تمثيل الشعب والحديث نيابة عنه، وبالتالي يقومون بتبريد المرجل نيابة عن السلطة. لقد اختفى هؤلاء، أو على الأقل، رجعوا إلى الصفوف الخلفية، لواحد من ثلاثة أسباب. إما لأنّ النظام الحاكم أنهكهم بالتضييقات والمتابعات القضائية الماراتونية. وإما لأنّه تمكن من رشوتهم بالامتيازات، وبالتالي فقدوا شرعيتهم في عين الشباب. وإما لأنّهم يخافون أن يتهموا بركوب وسرقة ثورة، عجزوا عن صنعها، طيلة نصف قرن.
نتيجة لذلك، ما عاد بالإمكان المطالبة بالتغيير إلا من خارج دائرة السياسيين المحترفين المسنّين، ومن خارج التنظيمات المعروفة المقارّ والقيادة، وهذه تنظيمات حزبية ميكروسكوبية، تقول إنّها ستأتينا بثورات عبر المفاوضات: تذهب ويعرض عليها دجاجة، فتعود إلينا، بعد شهر، ببيضة. خرج هؤلاء الذين تفاوضوا مع الأنظمة، طيلة نصف قرن، من معادلة الصراع الحالي، صار الشعب يتحدث بنفسه عن نفسه في الشارع. من يمثل الشعب؟ ليس اليسار، ليس الإسلاميين، ليس القوميين، بل الشباب.
كيف يمكن مرحلةً عمرية أن تكتسب دلالة سياسية تمثيلية؟ هذا معطى واقعي، لم يتمأسس مفاهيمياً بعد، لكنّه يبرز أنّ ذاك البازار المفاهيمي القديم لا يصف ويفكك ويفسر الواقع السياسي الذي يتبلور.
يقتضي ذلك مقاربة جديدة. لذا، وفي إطار بحثي، عدت إلى واحدة من أشهر الروايات العالمية التي تناولت بعمق وتوثيق مقدمات الثورة. في رواية «الممسوسون»، التي صدرت عام 1872، ست سنوات بعد محاولة اغتيال القيصر الروسي، يقدم ثيودور دوستويفسكي مرجعاً في طرق التحريض الثورية. يحاور أحد الشباب (بيتر ستافروجين) كاتباً روسياً شهيراً، هرب من العاصمة بسبب شائعات عن وجود وباء، وما يقلقه هو احتراق مخطوط له إذا احترقت موسكو. والكاتب يخطط لبيع أرضه ليرحل إلى ألمانيا، ورغم ذلك يعبّر، بنزاهة فكرية عالية، عن إعجابه بالشباب الروسي: «لأنّهم يتحدثون بصوت مرتفع، بينما الجميع صامتون، لديهم شجاعة قلّ نظيرها، يرون الحقيقة وجهاً لوجه، ينبع عمقهم الفكري من غياب الكرامة».
يستنتج أنّ الجميع يخاف الشباب، وهذا دليل على أنّهم أقوياء، بفضل تحريض منظّم ومستمر. ماذا ينتج من هذه القوة: «تقويض هيبة ونفوذ المسؤولين، التركيز على الفضائح، زرع الشك في الجمهور، ومن ثمة خلق تعطش لغد أفضل، ماذا سينتج من هذا؟ الحريق أيّ الثورة».
في مسار توصيفه لما يجري، ينتقد الكاتب الجرذان التي تكون أول من يهرب من السفينة المهددة بالغرق، في إشارة إلى الأغنياء الروس الذين يهرّبون أموالهم سنوياً للغرب. يقول إنّه لم تعد هناك قشة يمكن التمسك بها في البلد، وإنّ روسيا بلد خشبي يحترق بسهولة.
وأنا أعيد قراءة الرواية، أفكر في كلّ الذين اختفوا وصمتوا خلال الاحتجاجات في مصر وتونس، ثم فجأة صاروا يؤيدون الثورة بعد قيامها ونجاحها. هناك ملايين الدولارات التي يعلن عن تجميدها أو توزيعها لشراء الهدوء. أين كانت مخبأة؟
إذا أخذنا أوصاف دوستويفسكي للشباب الروسي، في نهاية القرن التاسع عشر، فسنجد أنّها تفسر حركة اشتغال الشباب الذين يصنعون ربيع الشعوب العربية اليوم، بغضّ النظر عن الفايسبوك.
حين أشعل البوعزيزي النار في نفسه، كان ذلك تعبيراً عن حجم الغضب المتولد عن «الحكرة». كان ذلك السلوك مدمراً لتصورات الحكام عن شعوبهم الطيبة الخانعة. أتذكر حالة الرعب التي عاشها الرئيس بن علي حين بدأ الهاتف يرنّ، بينما هو يخطب مباشرة. ثم حين اضطر لكي يزور البوعزيزي على فراش الموت. ثم حين خطب القذافي المرعوب، ليحذر التونسيين من سقوط بن علي. حين يخاف الحكام تتقوض هيبتهم تماماً. حين يتضح أنّ بائع خضر أكثر شجاعة من رئيس دولة، فإنّ المزاج العام يتغيّر بفعل تلك الشجاعة المعدية. وقد كانت تلك الشجاعة أشبه بمسلاط كهربائي شديد القوة، وصل نوره إلى زوايا جد معتمة، وقد سمح لنا ذلك بأن نرى بوضوح أشياء كنا نتعثر بها وننكر أو نشك أو نقلل من حقيقتها. الآن نرى الحقيقة وجهاً لوجه.
في المغرب، بينما كان الوزراء يعتبرون أنّ الدستور الحالي كافٍ، تقدم الشباب بطلب أعلى. وكانت النتيجة مدهشة. كان الملك الراحل الحسن الثاني يخرج نص الدستور من جيبه، يضعه على الطاولة فيهبّ حواريوه قبل قراءة النص ليقولوا إنّ هذا الدستور فتح في مجال الديموقراطية. الآن، شكّل الملك محمد السادس لجنة معروف أعضاؤها وستجري اتصالات واسعة.
حالياً، تجري الأمور بسرعة كبيرة، إن كان في ما يتعلق بوتيرة المطالب ووتيرة تنفيذ الإصلاح. في مصر، بين 25 يناير/ كانون الثاني و20 مارس/ آذار، قام المصريون بثورة، غيّروا الرئيس، عدّلوا الدستور، وأجروا استفتاء. في المغرب، سيتطلب تعديل الدستور وحده ستة أشهر.
بفضل شجاعة الشباب صارت السلطة في مواجهة الشارع، بلا صمامات أمان، بلا سقف يطمئن إليه الجميع، بلا وسطاء بين رأس النظام والمحتجين. تطرح المطالب ويُنتظَر الجواب عنها حيناً. مطالب شفوية هي في جوهرها إملاءات غير قابلة للتفاوض، والتماطل يرفع سقف المطالب بدل أن يضعفها: مطلوب إقالة محمد الغنوشي: حاضر. مطلوب استقالة أحمد شفيق: أمرك يا شعب، يردّ الباشا طنطاوي.
أقال سلطان عمان 13 وزيراً، وبدّل ملك الأردن الحكومة كاملة، وهو مستعد لأن يبدّلها كلّ شهرين. الطلب والجواب في الحين، هذا غير مسبوق.
تجلب الاستجابات المذعورة محتجّين آخرين للشارع. وتضخّم عدد المحتجين يزيد من احتمالات انتقال العدوى إلى مدن وبلدان أخرى. وهكذا، فإنّ البلدان العربية خشبية أيضاً، يمكن أن تحترق، بشكل أسرع، مما يتوقعه حتى أصحاب الخيال الواسع.
دعم المجتمع الدولي للثوار في ليبيا، بغض النظر عن المصالح والحسابات التي يجريها دبلوماسيون يشربون القهوة في فنادق خمسة نجوم، بينما عليهم أن يتخندقوا مع ثوار بنغازي ودبابات القذافي تقصدهم.
تدخل الغرب هنا مبرر تماماً، فلاديمير بوتين الذي سحق الشيشان ينافق بالحديث عن حملة صليبية. الآن، سيفكر أيّ نظام عربي ألف مرة قبل سحق شعبه. وهذا الوضع سيجعل الشباب ـــــ وهو مصطلح سيخرج من معجم الترفيه والسيكولوجيا ليحلّق فوق المفاهيم السياسية ـــــ قادرين على تقويض الاستبداد، والاستمرار في مراقبة الحكام الجدد. فالقوى المحافظة لا تزال قوية، وأيّ استرخاء سياسي سيمكنها من استرداد المبادرة.

* صحافيّ مغربي