كما حدث في تونس ومصر، تتكرر الأحداث في ليبيا. فالثورة الشعبية أفرزت حرباً إعلامية بين الجماهير والأنظمة، اتخذت أكثر من شكل، بدءاً من الإنترنت ومواقع الإعلام الاجتماعي، وصولاً إلى التناول والمعالجة الإخبارية. حقّقت تلك الحرب الإعلامية نتائجها في الحالة التونسية والمصرية، فالحراك الجماهيري المصاحب للحراك الإعلامي سرعان ما حسم القضية بإسقاط النظامين التونسي والمصري.أما في حالة الثورة الليبية، فنظراً إلى طبيعة التطورات الميدانية وانتقال النظام الليبي إلى سياسة القمع العسكري، انتقلت الثورة، ومعها الحرب الإعلامية إلى مربع آخر احتل الشاشات العربية بصيغ جديدة. صيغ خلقت مشهداً سياسياً وميدانياً مختلفاً عن المشهدين التونسي والمصري، لجهة التحوّل العسكري، والمواجهة المسلحة، وإن كان مشابهاً في الروح الثورية المطالبة بإسقاط بالنظام.
هذا ما يجعل الوضع في ليبيا يستحق التأمل، وخصوصاً في ما يتعلق بطبيعة الحرب الإعلامية وتطوراتها. فبلا شك، أصبح النظام الليبي، منذ اشتعال الثورة في 17 فبراير/ شباط، محاصراً إعلامياً وسياسياً، كما أنّه في ظل غياب استراتيجية إعلامية رسمية تستطيع التعامل مع الأحداث الميدانية المتصاعدة، اقتصر دور الرسالة الإعلامية الرسمية الليبية، في الأغلب، على تصريحات القذافي الأب والابن. ودون ذلك افتقرت التبريرات والتصريحات الرسمية إلى الإقناع أو حتى التكتيك الإعلامي، كما أنّ وسائل الإعلام الليبية استمرت في ممارسة الدور الدعائي للنظام، فيما انتقل مركز الثقل الإعلامي إلى الفضائيات العربية، كقناة الجزيرة التي تبنت أجندتها الإخبارية الخيار الشعبي، متحولةً في ذلك إلى مرآة إعلامية لنقل أحداث الثورة وتفاعلاتها.
لم يكن من السهل على النظام الليبي أن ينجح في صياغة رسالة إعلامية مضادة، في ظل تصاعد وتيرة الثورة العربية في المنطقة، بل على العكس، فإنّ لجوءه إلى وسائل القمع، من خلال الآلة العسكرية للقضاء على الثورة واستخدام القصف الجوي والمدفعي، والدخول في مواجهة عسكرية مع الثوار، أدى إلى إفراز حالة سياسية حسمت الصورة الإعلامية لمصلحة الثورة، بل وعززت من حضورها الإعلامي على المستوى العربي، كما أنّ تعدد حالات الاعتداء على الصحافيين، أفقدت الخطاب الليبي الرسمي أيّ مرجعية مهنية وأخلاقية، ما أدى إلى توالي خسائره في الحرب الإعلامية.
هذا إضافةً إلى أنّ استمرار اندفاع النظام في المغامرة العسكرية ضد الثورة أفقده أدوات الخطاب السياسي، وأفقد الرواية الرسمية الليبية الكثير من الصدقية. فما نراه يومياً على شاشات الفضائيات ومواقع الإعلام الاجتماعي، من صور وتقارير وشهداء وجرحى، جعل معركة القذافي ضد شعبه خاسرة بكل المقاييس، وجعل مغامرته العسكرية، لكسب الوقت من أجل المراهنة أو المساومة على واقع سياسي تفرضه قوته الميدانية، أمراً صعب المنال.
من جهة أخرى، أدى صمود الثورة والدعم المتصاعد لها إلى خلق أرضية جديدة للخارطة الإعلامية العربية، وضعت ليبيا في مركز الحدث بعد تونس ومصر، وجعلت من الحالة الليبية بؤرة اهتمام عربي ودولي. فنحن الآن أمام تجربة تستحق التأمل، نظراً إلى انعكاساتها الميدانية والسياسية والإعلامية على شعوب المنطقة، ولا سيما أنّ الشعب الليبي استطاع بثورته انتزاع الأجندة الإخبارية التي سرعان ما تلقفتها المؤسسات الإعلامية وصاغت من خلالها خطابها الإخباري.
هذا بدوره أدى إلى اتساع رقعة الحرب الإعلامية، وهو ما انعكس على التغطيات الإخبارية العربية والدولية التي جعلت المشهد الليبي مشهداً ثورياً بامتياز. فمن خلال تغطية المعارك التي تحدث بين الثوار وكتائب القذافي، توافر الغطاء الإعلامي لمصلحة الثورة، فيما جرى التعامل مع القوات الموالية للنظام على أنّها أدوات الاضطهاد التي تكتمل بها صورة الدكتاتور. ويظهر هذا أيضاً في فضح اعتداءات المرتزقة والقوات الموالية للقذافي على الشعب الليبي، ومواكبة القصف العنيف للمدن والأحياء، ومتابعة أخبار الاستقالات لكثير من المسؤولين اللليبين وتأليف المجلس الانتقالي، وهو ما أفقد النظام الليبي أي محاولة للتأثير في الرأي العام العربي أو الدولي.
في ضوء هذه المعطيات نستطيع القول إنّ الدروس التي يمكن أن ترشح من حالة الثورة الليبية تأخذ أكثر من منحى، وقد تؤثر في مسار العمل السياسي، وأيضاً في مسار الثورة في المنطقة إعلامياً وسياسياً. فمن الجهة الإعلامية، عززت الثورة من دور وسائل الإعلام، ولا سيما بعد ثورتي تونس ومصر، كمحرك فعال للجماهير ضد سياسات القمع الرسمية. وهو ما قد يجعلنا نشهد مرحلة مخاض جديدة للإعلام العربي، في ظلّ الحراك الشعبي وتطور تقنيات الاتصال واتساع دائرة توفير المعلومات والصور عبر قنوات الإعلام الاجتماعي وغيرها. أما على صعيد التفاعل السياسي، سواء الإقليمي أو الدولي، فقد كشفت الثورة عن خارطة من العلاقات السياسية والاقتصادية المتمثلة في المصالح الاستراتيجية للعديد من الدول، للاستفادة من حالة التحوّل السياسي في ليبيا. يأتي ذلك مع انتقال الثورة الليبية إلى مرحلة جديدة، تمثلت في اللجوء إلى مجلس الأمن واستصدار القرار 1973 الذي يحظر الطيران فوق ليبيا، ثم بدء عملية «فجر الأوديسة» والضربات الجوية ضد أهداف معينة للنظام الليبي. يضعنا ذلك أمام سيناريو قد تصبح فيه الحرب الإعلامية أكثر حدة، والصورة أكثر تعقيداً. فاستمرار العملية العسكرية الجوية، وسقوط مدنيين جراء هذه الغارات، قد يربكان الصورة الإعلامية مع الوقت، ويضعان وسائل الإعلام العربية أمام بُعد جديد للمشهد الليبي. بُعد تتقاطع فيه مشاهد الثورة مع مشاهد التدخل الدولي، وقد ينعكس ذلك على طبيعة مشاهد الثورة برمتها. فحتى إن كان التدخل العسكري الدولي ناتجاً من مطالب ليبية وعربية، وحتى إن شاركت دول كقطر والإمارات في التحالف الدولي ضد القذافي، إلا أنّ طبيعة التدخل العسكري بحد ذاتها تعمل على إعادة إنتاج تلقائية لصور سابقة من تدخلات عسكرية وحروب تحت مظلات مختلفة للتحالفات الدولية. قد يؤثر كل ذلك في المشهد الإعلامي، ولا سيما بدخول مشاهد القصف الجوي وتداعياته حيّز التغطية الإخبارية، مما يجعل الحالة الإعلامية أكثر تعقيداً.
نحن، بلا شك، أمام تجربة جديدة للتدخل العسكري الدولي في المنطقة، يختلف فيه السيناريو عن سيناريو حرب الخليج 1991 أو أفغانستان 2001 أو حتى العراق 2003، لكنّه يقترب من سيناريو ضربات الناتو ضد نظام ميلوسيفتش في 1999. تطرح هذه التجربة أيضاً قضايا موازية، ذات أبعاد سياسية وجيوسياسية واقتصادية وإعلامية، عن كيفية استفادة الثورة من هذا التدخل العسكري في المرحلة الحالية، وأيضاً في المرحلة القادمة، دون أن يؤثر هذا التدخل في مسارها وحضورها الإعلامي، وأيضاً في كيفية تعامل وسائل الإعلام، وخصوصاً العربية منها، مع تداعيات الضربات الجوية. فلقد صاحب الحروب السابقة سقوط العديد من الضحايا المدنيين، كما صاحبها استهداف لمؤسسات مدنية وإعلامية، ما انعكس سلباً على طبيعة التدخلات العسكرية، ووفّر قاعدة مضادة للحرب الإعلامية ضد القوات المهاجمة. ووفر كذلك، أجندة إخبارية تركز فيها وسائل الإعلام على الضحايا المدنيين، وتداعيات العمل العسكري على الحياة المدنية، وهو ما مثّل تحدياً للاستراتيجيات الإعلامية للدول المتحالفة، في حروبها السابقة.
في ما يتعلق بالحالة الليبية، قد يجوز القول إنّه من المستبعد أن يكون هناك تحوّل في طبيعة التعامل الإخباري مع الثورة. بمعنى آخر، لن يختلف النهج الداعم للثورة في وسائل الإعلام العربية، لكن استمرار الضربات الجوية ضد الأهداف الليبية قد يخلق تدريجياً تغطية إعلامية موازية، لا يمكنها تجاهل العمليات العسكرية وتداعياتها. بالتالي، قد يمنح ذلك النظام الليبي الفرصة لتطوير خطاب سياسي أكثر مناهضة للمصالح الغربية والتدخل العسكري، مما قد يؤدي إلى تصعيد لهجة الحرب الإعلامية، ولا سيما مع سقوط ضحايا مدنيين جراء عمليات القصف الجوي.
ما يمكن قوله في هذا السياق إنّ الحالة الليبية أصبحت تقدم نموذجاً جديداً ليس فقط للثورة العربية في المنطقة، بل أيضاً لخارطة العلاقات الإقليمية والدولية. هذا النموذج مرهون بمدى اتساع العمليات العسكرية أو انحصارها في أهداف معينة، تشل قدرات النظام الليبي، كما أنّ طبيعة هذا التدخل في صيغته «الإنسانية» لحماية المدنيين، مثلما يروَّج عادةً لهذه التسمية لوصف التدخلات العسكرية، تؤثر تدريجياً في طبيعة المشهد الإعلامي. فليبيا مرشحة الآن لخوض معركة أكثر تعقيداً ضد النظام الليبي. هذه المعركة قد تخلق معركة سياسية أخرى تبدأ في مرحلة ما بعد القذافي. فما قد تنطوي عليه الضربات الجوية لعملية «فجر الأوديسة» يشير إلى بداية تكوّن خارطة استراتيجية جديدة في المنطقة تستفيد من الحراك الجماهيري من أجل خلق حالة سياسية بديلة. وقد يضع ذلك الثورة الليبية أمام تحديات سياسية واستراتجية بالغة الأهمية، تتعلق بتحولات المشهد السياسي الخاص بليبيا والمشهد السياسي العربي.
قد لا تحسم العملية العسكرية وحدها النتيجة لمصلحة الثورة، بل أيضاً قدرة الثورة نفسها على الاستفادة من المتغيرات الدولية والإقليمية من أجل تطوير وتعزيز قنوات الاتصال السياسي محلياً وعربياً ودولياً. يحدث ذلك من خلال العمل على إيجاد آليات واستراتيجيات سياسية مرحلية، تسمح بخلق برامج وطنية تخدم هدفها في المرحلة المقبلة، ولا سيما أنّ الثورة العربية أصبحت تمثّل واقعاً سياسياً جديداً في المنطقة. وقد يتطلب ذلك أيضاً تطوير خطاب إعلامي يعمل على تعزيز ودعم وتوسيع جبهة الثورة الداخلية من أجل الاحتفاظ بالزخم الشعبي بما له من دلالات سياسية تعزز من مكانة الثورة وتوفر لها مساحات أوسع من التأثير في الرأي العام العربي والإسلامي والدولي. إنّ التدخل العسكري الدولي «لحماية المدنيين» تحت مظلة قرار مجلس الأمن 1973، وفي ظلّ تباين المواقف الإقليمية والدولية حيال العمليات العسكرية، قد لا يوفر حلاً سياسياً، مهما كان سقف هذا التدخل العسكري، بل قد يضعنا أمام تطورات وتداعيات أخرى، تستحق أن ننتبه لها من وحي التجربة التاريخية والسياسية. فليس مطلوباً أن تتحول الثورة الليبية تدريجياً إلى أزمة سياسية، لأنّ في ذلك ما قد يؤخر تفتّح ورد الربيع العربي في المنطقة.
* أستاذ في جامعة «كارديف»