«ثمة زلزال يدهم العالم العربي... ولا نعرف مآل هذه الأحداث». بهذا القدر من الوضوح والإبهام، جاءت كلمات رئيس وزراء الدولة الصهيونية، بنيامين نتنياهو، تعقيباً على الثورة الديموقراطية في مصر، التي أطاحت الحليف الأهمّ لهم في المنطقة.
هو زلزال بكل معنى الكلمة، بسبب الدور البارز على مر تاريخ الوطن العربي لـ«أم الدنيا»، وما سيعقبه من «هزّات ارتدادية» في أرجاء هذا الوطن المتعَب والمنهوب والمستعد للانفجار، سيجعل مآل الأحداث غير معروف على حد تعبير نتنياهو. فلقد فتحت الثورة الديموقراطية في تونس وفي مصر وليبيا، وغيرها، الباب واسعاً أمام المشروع القومي الديموقراطي العربي، لأول مرة في التاريخ العربي الحديث. ومصدر رعب نتنياهو ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية، هو أنّ هذا المشروع الديموقراطي العربي يشكل النقيض الموضوعي للدولة الصهيونية، وبالتالي لاستمرار الهيمنة الامبريالية الأميركية على العالم.
لقد ورثت الولايات المتحدة الأميركية، في مطلع القرن العشرين، كلّ شيء عن أوروبا. ورثت موقعها الاقتصادي كقوة أولى في العالم، وورثت الشمس البريطانية التي لا تغرب ابدأ، من خلال المستعمرات المنتشرة في كلّ بقعة من بقاع الأرض، وورثت كذلك الرعب الذي كان يقض مضاجع أوروبا من إمكانية بناء دولة عربية موحدة وحديثة في جانبها الجنوبي. وهو المشروع الذي حلم به محمد علي وتمّ تدميره وسحقه بشراسة مذهلة، لا تقل أبداً عن شراسة واشنطن في حروبها العدوانية التدميرية على العراق وأفغانستان.
لقد حاول محمد علي إقامة دولة صناعية حديثة، عن طريق انتهاج السياسات الصناعية الحمائية، فاحتكر كل الصناعات. ومع بداية 1830 أصبحت معامله تنتج منتوجات قطنية وصوفية وحريرية، بالإضافة إلى الورق والزجاج والسكّر والمصنوعات الجلدية وبعض المواد الكيماوية. كذلك أرسل نحو 300 مبعوث إلى أوروبا، وأدخل أضعاف هذا العدد إلى المدارس الحديثة التي أنشأها لدراسة الطب والهندسة والكيمياء.
لكنّ مشروعه انهار تحت وطأة الضغط الأوروبي، والبريطاني خصوصاً. إذ رأت بريطانيا في هذا المشروع تهديداً حقيقياً للرأسمالية الإنكليزية، ولسيطرتها على الأسواق عبر البحار. وتمكّنت بريطانيا، بالاتفاق مع الباب العالي العثماني، من فرض اتفاقية يالطا ـــــ ليمان) عام 1838، التي فُرِضت بموجبها على مصر سياسة حرية التجارة وخفض الضرائب على الواردات في حدود دنيا (5% فقط). وبذلك، تعرّضت المنتجات المصرية لرياح قاتلة من المنافسة الأجنبية، ثم ما لبثت أن دمّرت تماماً بتوجيه ضربة عسكرية إلى مصر واحتلالها، ولاحقاً، من خلال الغزو الوحشي الذي مارسته رؤوس الأموال الأجنبية لتسيطر على ثروات ومقدرات البلاد.
لكن سياسة «الوأد الصناعي» هذه (حسب تعبير الاقتصادي بول باران)، لم تطمئن بريطانيا تماماً. فالموقف العدائي والعدواني لأوروبا من كل محاولات التحديث في مصر لم يكن يستند فقط إلى أسباب جيوسياسية ـــــ اقتصادية، أي السوق المصري الواسع، وموقع مصر على طريق الهند بالأمس وبقرب النفط اليوم، لكن أيضاً لأسباب تاريخية استراتيجية مرتبطة بالخوف الكبير والهلع الأوروبي من احتمالات ولادة دولة عربية موحدة وحديثة. وارتبطت هذه الولادة على الدوام بمصر، إذ لا يمكن توقع قيام أي دولة عربية موحدة دون أن تكون مصر قاعدتها التأسيسية، وربما من دون أن تبادر هي تحديداً إلى ذلك (وجاء جمال عبد الناصر بعد أكثر من قرن ليؤكد صحة المخاوف الأوروبية). وهكذا لم يكن من باب المصادفة، ولا من باب حل المسألة اليهودية، أن اخترعت الدبلوماسية الإنكليزية عام 1839، مشروع قيام دولة إسرائيل، على أرض فلسطين، وفي قلب الوطن العربي، وبجوار مصر، لتوضع تحت المراقبة الدائمة وعزلها عن المشرق العربي، كما كتبت جريدة الغلوب اللندنية (ذكر ذلك الدكتور سمير أمين في كتابه «إمبراطورية الفوضى»). والتدقيق في تاريخ طرح فكرة قيام الدولة الصهيونية من قبل بريطانيا، الذي يعود الى عام 1839، هو مهم للغاية. ففي هذا العام بالتحديد، انتصرت جيوش محمد علي على السلطان العثماني، وباتت تمثّل خطراً حقيقياً على الإمبراطورية البريطانية ومصالحها. والأهم أنّ هذا حدث قبل نحو 60 عام على إطلاق الصهيونية السياسية (1897).
هكذا، أنشئت الدولة الصهيونية أداةً في خدمة السيطرة الرأسمالية الأوروبية على العالم، فقامت أساساً لمنع أيّ ثورة شعبية عربية وأيّ محاولة تجديد عربية، وورثت الولايات المتحدة الأميركية هذه الأداة، مع انتقال مركز قيادة الامبريالية لأميركا.
وعلى مدار النصف الثاني من القرن العشرين، أي بعد نشوء الدولة الصهيونية وحتى اليوم، عملت هذه الدولة بوصفها مركزاً إقليمياً مضاداً لحركة الشعوب العربية، فكانت أشبه بثكنة عسكرية ضخمة جداً منها لدولة، واحتوت هذه الثكنة على أعداد هائلة من الجنود. ولعل ملاحظة المفكر الياس مرقص في مكانها، عندما أشار إلى أنّه، لأوّل مرة في التاريخ، يكون عدد الجنود المحتلين (المستوطنين هنا) أكثر من عدد شعب البلاد المحتلة. وفي هذا تأكيد طبيعة الدور الذي تؤديه هذه الدولة، من حيث هو دور موجه ضد كلّ الوطن العربي، وليس ضد الفلسطينين فقط.
عقود طويلة مرت على إنشاء الدولة الصهيونية، ونحو قرن على المواجهة مع المشروع الصهيوني، فيما النظام الرسمي العربي يتابع إخفاقاته في التصدّي لهذا المشروع. ويمكننا القول بأنّ هذا النظام العربي، بشكله الرث والبائس الذي قام واستمر عليه، هو الوجه الآخر، والمتمم الطبيعي لقيام الدولة الصهيونية، ضمن استراتيجية تأبيد الهيمنة الامبريالية على الوطن العربي. وبالتالي، لم يكن هذا النظام على الإطلاق هو الشكل التنظيمي المناسب للمواجهة مع المشروع الصهيوني، بل كان النقيض للشكل التنظيمي الضروري لخوض الصراع، أي المشروع القومي الديموقراطي العربي، المنبثق من هواجس وأحلام وطموحات الطبقات الشعبية، وليس من طموحات وأوهام بعض رجالات الجيش «الوطني».
وهذا هو مصدر حرص الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والدولة الصهيونية، على بقاء هذه الأنظمة، ودعمها ـــــ على المستوى الأمني فقط ـــــ بمليارات الدولارات. دولارات مخصصة لقمع الحريات، التي تتغنى بها الدول الرأسمالية، ولتعزيز الأنظمة الكمبرادورية الدكتاتورية الحاكمة، وبالتالي لإنهاء أي إمكانية لقيام المشروع القومي الديموقراطي العربي.
وإذا كان تشابه الظروف الاقتصادية ـــــ الاجتماعية البائسة، التي تعيشها الطبقات الشعبية في الوطن العربي، هو السبب الرئيسي لانتقال الثورة اليوم من بلد عربي إلى آخر، ففي هذا تعبير واضح أيضاً عن تشابه وتماثل ظروف وأسباب نشوء الدول العربية القطرية، بهذا الشكل الأمني الفج. وهو شكل يمثل ركناً أساسياً من أركان منظومة السيطرة الامبريالية على الوطن العربي.
إنّ الزلزال الذي يتخوف منه نتنياهو، هو بالتحديد «الديموقراطية». وليست أيّ ديموقراطية، إنّها ديموقراطية الطبقات الشعبية الفقيرة. واليوم، في ظل الهجوم الامبريالي المتصاعد على الوطن العربي، فإنّ كلّ ديموقراطية ستولد عندنا ستكون خاصة بالطبقات الشعبية (بعكس الديموقراطية المقززة في لبنان والعراق). وستكون هذه الديموقراطية الشعبية قادرة على تلمس مستقبلها وطريق تطورها، لتحدد أمنها القومي العربي، ولتجده متناقضاً بنحو لا يقبل التسوية مع الدولة الصهيونية. وإذا كانت بعض النخب والأحزاب اليسارية، منذ زمن بعيد، قد وقعت على هذا التحديد لدور الدولة الصهيونية بما هو جزء من منظومة إمبريالية عالمية لاحتجاز تطور الوطن العربي، فإنّها فشلت، على الدوام، في إنشاء الجهاز التنظيمي المناسب للتصدي لهذه الدولة. كذلك كان النظام الرسمي العربي يؤدي دوراً حاسماً في هذا الفشل المتكرر.
لقد جاء انتصار الثورة الديموقراطية في مصر، وقبلها في تونس، ليعبّد الطريق «الرئيسي» المقطوع نحو المستقبل، وفي هذا يكمن «زلزال» رئيس حكومة الدولة الصهيونية نتنياهو. فاليوم، بات قطّاع الطرق ناشطين وفاعلين على مستوى عالمي، وكلّ الدول الإمبريالية ساهمت، وستساهم، في قطع هذا الطريق وتدميره وإزالته من على الخريطة، كما من وعي الطبقات الشعبية والنخب الممثلة لها. نحن نعيش حالة ثورية فريدة وغير مسبوقة من النهوض العربي، فالزلزال ليس في العالم العربي يا سيد نتنياهو، إنّه عندكم.

* كاتب عربي