قد لا تكون البحرين مشكلة عراقية فقط، بل لبنانية أيضاً. إذ أصبحت هذه الدولة وانتفاضتها والتدخل الخليجي العسكري الهادف لقمعها، موضوعَ سجالٍ وخلافٍ بين القوى السياسية. أضحت البحرين مشكلة سعودية أيضاً، ورفعت بقوة الخطاب والفرز الطائفي إلى مستويات عليا بين سكان المملكة. لكنَّ البحرين استحقت بجدارة أنْ تأخذ صفة المشكلة العراقية بامتياز، حتى كادت تعصف بالكثير من التوازنات والتوافقات (أو ربما التلفيقات؟) المنظومة بجهد ودقة.لم يظهر الاستقطاب الطائفي والمذهبي بين الساسة العراقيين منذ أيام الاحتراب الأهلي الطائفي (وذروته الدموية خلال عامي 2006 و2007) كما ظهر أخيراً خلال ردود الأفعال على التدخل العسكري الخليجي في البحرين. كان ردّ الفعل لدى الطبقة السياسية العراقية، وخصوصاً لدى الإسلاميين الشيعة، على حدث الاجتياح واسعاً ومباشراً وسريعاً على الجبهتين السياسية والدينية المذهبية. فعلى الأولى، هرعت قيادات الأحزاب والشخصيات المستقلة المقربة منها، إلى شنِّ حملة سياسية واسعة ضد ذلك التدخل العسكري. كان أغلبها، من الناحية الشكلية والاسمية، يعلن عن تضامنه مع الشعب البحرين عموماً، عدا تظاهرة كبيرة واحدة خرجت في مدينة كربلاء وتمكن منظموها من جعلها طائفية، إذ رفعت الشعارات فيها للدفاع عن «مظلومية شيعة البحرين».
في مقدمة تلك القوى الهارعة للتضامن مع شعب البحرين، كان التيارُ الصدريُّ الذي امتنع مناصروه عن المشاركة في التظاهرات الاحتجاجية والمطلبية العراقية، فكان ذلك مدعاةً لغمزٍ ولمزٍ ــ محقين في معظمهما ــ من جهات عدّة. نجحت تلك الحملة في دفع رئاسة البرلمان لإصدار بيان يدين التدخل السعودي والخليجي العسكري، ورفعت الجلسة لأيام عدّة احتجاجاً. وأصدر ممثلو أغلب الكتل البرلمانية بيانات في هذا السياق. أما على الجبهة الدينية الطائفية، فقد تداعت المرجعيات الإسلامية الشيعية قاطبة، وفي مقدمتها مرجعية السيد السيستاني إلى إدانة التدخل العسكري في البحرين وأصدرت بيانات التضامن والتأييد مع الشعب البحريني. ونقلت وكالات الأنباء أنَّ المرجع السيستاني أمر بإيقاف الدراسة في الحوزات الدينية في النجف احتجاجاً، وأنّه أبلغ قلقه حول ما يحدث في البحرين إلى الرئيس الأمريكي شخصياً، وأنّ هذا الأخير طمأنه، وحاول استرضاءه. وهنا أيضاً، تكرر الغمز واللمز حول سبب سكوت المرجع على احتلال العراق وارتكاب المحتلين للعديد من الفظاعات المشهورة.
غير أنّ حجم التحرك التضامني كان كبيراً إلى درجة استفزت الكثيرين في الجهة الطائفية المقابلة. فالنائب طلال الزوبعي من «العراقية»، رفض هذا «التركيز» على البحرين، ودعا إلى الاهتمام «بحل مشاكل العراق إذ أنّ لدينا مشاكل كثيرة». مثله فعلت النائب السيدة وحدة الجميلي من القائمة ذاتها، فقد لاحظت، في معرض انتقادها لدعم الحكومة العراقية للحملة الغربية المعادية للقذافي، أنَّ هذه الحكومة انتقدت التدخل الخليجي الذي جاء، كما قالت «وفق اتفاقيات مجلس التعاون الخليجي، الأمر الذي لا يجيز لنا التدخل في مسألة تواجده هناك». وطالبت السيدة النائب بـ«عدم إذكاء الحس الطائفي»، محذرةً من أنَّ «تلك القضايا يمكن أنْ تعيدنا إلى المربع الأول، وهو المربع الطائفي».
ولكي نأخذ صورة عن حالة الاستقطاب الطائفي الحاد التي تركتها المشكلة البحرينية في العراق، يمكن لنا أنْ نقابل الانحياز الذي عبرت عنه السيدة الجميلي، فدافعت عن القذافي في مواجهة التدخل العسكري الغربي والعربي، لكنّها لم تقل شيئا يذكر عن الانتفاضة الشعبية السلمية في البحرين ولا عن شقيقتها في ليبيا (نذكر هنا أنَّ البعث العراقي/ جناح الدوري، كان قد صرّح عن تأييده المبكر للقذافي حتى قبل صدور قرار مجلس الأمن والتدخل العسكري في بيان نشرته يومية «القدس العربي» في 4/3/2011 ، معلناً فيه عن فتح باب التطوع في العراق للجهاد إلى جانب «الأشقاء الليبيين» ويقصد قوات الكتائب الأمنية للقذافي ضد ما أسماه «العدو الإمبريالي الصهيوني الفارسي»، كما وجهت إحدى حفيدات الرئيس السابق صدام حسين رسالة صوتية عبر إحدى الفضائيات إلى «العم الحبيب المجاهد معمر القذافي أطال الله عمره» في ذات الاتجاه). وفي مقابل انحياز السيدة الجميلي، نجد انحيازا معاكساً لدى الطرف الآخر، عبّر عنه النائب الصدري بهاء الأعرجي الذي صرح، في ردٍّ غير مباشر على كلام السيدة النائب، قائلا إنَّ الحملة التضامنية التي قام بها معسكره لم تقتصر على البحرين لأنَّ فيها شيعة، بل امتدت لتشمل اليمن وليبيا فهنا ــ كما قال حرفياً ــ «سمعنا شعوباً مضطهدة تصرخ فتضامنا معها ولكن هذه الصرخات لم نسمعها في إيران». ولا نعتقد أنّ الأمر يتعلق بمشكلة مرضية في حاسة السمع لدى السيد النائب الصدري تجعله يسمع صراخ المضطهدين في البحرين واليمن وليبيا، ولكنّه لا يستطيع سماع صراخ المضطهدين والرافضين للحكم الاستبدادي الطائفي في إيران، الذين بلغت أعداد قتلاهم العشرات، بل هي مشكلة مختلفة وتتعلق بالانحياز والولاء الطائفي والسياسي.
تجلى الاستقطاب الطائفي الحاد أيضاً، في قضية مطلب إغلاق السفارات. فرداً على مطالب عدد من الساسة الشيعة بإغلاق السفارتين البحرينية والإماراتية، ردّ عليهم ساسة من الجهة المقابلة بمطلب إغلاق السفارة الإيرانية في بغداد.
يطول سرد الشواهد والمناسبات التي برز فيها الاستقطاب الطائفي والمذهبي في العراق بالمناسبة البحرينية. لكنّنا حتى لو اكتفينا بما سردناه، سنتوصل إلى الاقتناع بأنّ هذا الاستقطاب والاستعداء عميق وراسخ جداً على مستوى النخبة السياسية الناشطة داخل ما يسمى «العملية السياسية الأميركية القائمة على آليات حكم المحاصصة الطائفية والعرقية»، ولكنّه ليس بهذا العمق ولا ذاك الرسوخ على مستوى الشارع. الدليل على ذلك نجده في ما شهده العراق خلال الأيام ذاتها، حين احتفل العراقيون بعيد النوروز وبداية السنة البابلية سوية، عرباً وكرداً وتركماناً وآشوريون وكلدان وغيرهم، رغم عداوات وتصريحات السياسيين الطائفيين المتشنجة، في ظاهرة عادت بقوة إلى الظهور وتوقفت عندها مطولاً وسائل الإعلام والمحللون والمراقبون للشأن العراقي. ثانياً، أكد هذا الاستقطاب عجز القوى الوطنية، أو ما تبقى منها، عن تقديم بديل معقول وواقعي في مناسبات تضامنية كهذه، ففشلت في تسيير تظاهرة مختلطة طائفياً وقومياً واحدة للتضامن مع الشعوب العربية المنتفضة، ومنها شعب البحرين، بل شاهدنا اشتباكات بالأيدي بين مجموعة من المتظاهرين ضد حكومة المحاصصة في ساحة التحرير ومجموعة أخرى كانت ترفع علم البحرين!
أما بخصوص شعب البحرين وانتفاضته السلمية، فيبدو أنّ «خطيئته» التي سببت كل هذا الاستقطاب والانحيازات الجامحة تتلخص في الطبيعة المجتمعية للأغلبية السكانية التي يمثلها المسلمون الشيعة، وهم عرب في أغلبيتهم الساحقة. إنَّ واقع البحرين المجتمعي هو ــ كما يبدو ــ ما جعل الشيخ القرضاوي يطرد الانتفاضة البحرينية من واسع تضامنه، لأنّها كما قال «انتفاضة مختلفة فهي انتفاضة شيعية تستهدف السُنة». قد لا يشفع للبحرينيين المنتفضين أنْ يكون القيادي المعارض الذي قرأ بيان المعارضة، ووصف الاجتياح الخليجي بالاحتلال، من العرب السنة، أو أنْ يكون عدد من قياداتهم المعتقلة من العرب السنة. لكن هل سيشفع لهم أن يُعَدِّلوا نسبتهم السكانية في المجتمع بطريقة «جذرية»، كتلك الطريقة التي لجأ لها العرش البحريني حين هدم نصب اللؤلؤة ليهدم معه الانتفاضة، بأنْ يلقي البعضُ من البحرينيين الشيعة أنفسهم في مياه الخليج العربي ليصبحوا أقلية فينالوا رضا الشيخ القرضاوي وسواه؟ أما عروبة البحرين، التي يتباكى عليها البعض، فهي ستكون مهددة فعلاً، ولكن هذه المرة ليس من قبل أهل البحرين العرب، بل من قبل الشقيق العربي الذي أرسل إليهم الجيوش المدججة بالسلاح لقمع صرختهم، فجعل منهم ومن بلادهم لقمة سائغة للجار غير العربي المتربص.

* كاتب عراقي