دأب المسؤولون العرب على إنكار وجود تشابه ما بين الثورات الشعبية في الدول العربية، وتلك التي تجتاح بلدانهم. ولم يشذ الأردن عن القاعدة، فتحدث الكثيرون، رسميون أو معارضون، عن أنّ للمملكة خصوصيّتها، فهي لا تشبه تونس أو مصر أو اليمن، وأخيراً ليبيا، ومستقبلاً عُمان أو البحرين.وبقدر ما في هذا الكلام من صحة وموضوعية، فهو يعكس إلى حدّ كبير الرعب الذي يجتاح هؤلاء المسؤولين من إمكان هذا التشابه الذي أثبتته الأحداث المتتالية. في الوقت نفسه، لا يمكن أن ننكر خصوصية الوضع الأردني، إذ ينقسم المجتمع عمودياً لأسباب إقليمية ناجمة عمّا يدور تحت الرماد من صراع مفترض بين الأردنيين الشرقيين والأردنيين من أصول فلسطينية. لكن هذه الخصوصية لا تعدّ تفرداً في المنطقة، إذ بدا المجتمع المصري مقسوماً ما بين المسلمين والأقباط، وعانى من حالة من الاستقطاب تفوق ما يجري في الأردن. ويزداد هذا التشابه حدّة إذا أدركنا أنّ النظام القائم في البلدين كانت له اليد الطولى في إذكاء نار هذه الصراعات في المجتمع، وتكريسها من خلال قوانين وأنظمة كأنّها تسيطر على المشهد.
تتصرف الدولة الأردنية كأنّ سيناريو التغيير غير محتمل الحدوث. ويتبدّى ذلك من خلال مجموعة الخطوات التي اتُّخذت ابتداءً من تغيير الحكومة، مروراً بإطلاق المسيرات المؤيدة للنظام والاحتكاك بالمعارضين وتصويرهم على أنّهم يضرّون بمصالح الأردن، وانتهاءً بالتبنّي المسرحي لمسيرات المعارضة (الأمن يوزع العصير على المتظاهرين). وفي السياق نفسه، اتّخذت الحكومة الجديدة مجموعة من الخطوات التي توصف بأنّها إصلاحية، مثل تعديل قانون الاجتماعات وقانون الأحزاب، وغيرهما، في محاولة لاسترضاء المعارضة السياسية التقليدية. كذلك أقدمت الحكومة على خطوات أخرى تنحو نحو رشوة العشائر الأردنية من خلال طرح موضوع إعادة توزيع الواجهات العشائرية، معتمدة على الدور التاريخي للعشائر في حماية الدولة الأردنية، وخاصة مؤسسة العرش.
وبالطبع تروّج الموالاة وبعض المعارضة التقليدية التي تشعر بأنّ مكانتها مهددة بالانهيار أمام التيار المعارض الجديد، إضافة إلى جهات تخضع لضغوط من الأجهزة الأمنية، كلّ هؤلاء يروّجون لفكرة إعطاء الحكومة فرصة لتنفيذ وعودها والقيام بالإصلاح المطلوب.
في السياق نفسه، فتح المجال أمام المعارضة «المخيفة»، فارتفعت الأصوات التي تهاجم مؤسسة العرش وشخوص العائلة المالكة، وأصوات أخرى تهاجم الأردنيين من أصل فلسطيني، إما صراحة وإما مواربة، من خلال الهجوم على المسؤولين الأردنيين من أصل فلسطيني. وترافق ذلك مع ربط هذا وذاك خطاباتهم بالتهويل من موضوع التوطين والوطن البديل، ونفي عروبة الأردن والنظر إليها على أنّها أداة لإذابة الشخصية الأردنية المتميزة. وعلى غير العادة، تتعامل الحكومة مع هذه الآراء بسعة صدر، بل وتزوّدها بالإثارة، من خلال الاستمرار بمسلسل سحب الجنسيات الذي يستدعي ردود فعل من قسمي المجتمع. ويمنح الشقاق والجدل الظاهران الحكومة شعوراً زائفاً بالأمان من أن المجتمع يستحيل أن يتوحّد خلف قضاياه المطلبية، الاجتماعية والسياسية.
وفي الوقت نفسه الذي تنام فيه الحكومة في عسل أحلامها، تشاركها المعارضة التقليدية، بكلّ أطيافها، الأحلام ذاتها. فالمعارضة التقليدية نفسها مقسومة بالطريقة ذاتها، يحركها ويسيطر على بنيتها التنظيمية والفكرية الهاجس الإقليمي. وهي معارضة تملك، في غالب أطيافها، امتدادات خارج حدود المملكة، سواء كانت منقلبة من تنظيمات فلسطينية، أو مرتبطة بأحزاب قومية، أو الحركة الإسلامية المتماهية في بنيتها التنظيمية والفكرية مع حركة الإخوان المسلمين العالمية عموماً، ومع حركة حماس خصوصاً. تدرك الحكومة هذه الارتباطات وتتغاضى عنها، مقابل أداء للمعارضة يقع دائماً تحت السقف الحكومي.
هكذا، تتفق حكومة الأردن ومعارضته على إصلاح على طريقة «لا يموت الذيب ولا تفنى الغنم». ويعتقد الطرفان أنّ الشعب، أو ما يصطلح على تسميته الأغلبية الصامتة، غارق في تناقضاته وأزماته.
أكثر ما يخيف المهتمين بالأردن، أي الأفراد الذين لا يملكون جنسيات أخرى أو حسابات في مصارف خارجية يهرعون إليها إذا ما ساءت الأمور، إدراكهم الذي يتعاظم أنّ الطمأنينة المفترضة زائفة، وأنّ تحت الرماد ناراً تتلظّى، لا تلبث أن يستعر أوارها. فالوعد بالإصلاح الذي أطلقته كلّ حكومة، منذ ثلاثين عاماً أو أكثر، لا يصدقه أحد من الشعب، بل يتعاملون معه بنوع من الاستهزاء المر. وحتى لو حاولوا تصديقه، فإنّ الدولة الأردنية لا تبذل أي جهد لتجعل الشعب يبتلع الطعم. فالتغيير يأتي بالقديم الفاسد، ليحل محلّ الجديد الأكثر فساداً. وتوزّع بعض المنح هنا وهناك، فتمنح بعض شخصيات المعارضة المدجّنة وزارات لا تسمن ولا تغني من جوع، كوزارة البيئة أو الشؤون البلدية أو العدل، وتحتفظ الوجوه نفسها بالوزارات السيادية، كالمال والداخلية والخارجية. والغريب أنّ الدولة الأردنية، من السذاجة في التعامل إلى درجة تعتقد معها أنّ الشعب ساذج. فوزير الإعلام مثلاً، وهو شخصية محسوبة على الإصلاح، يستنكر أن يخرج إلى المسيرات أبناء عمان الذين يعودون إلى منازلهم بسيارات المرسيدس، من دون أن يبيّن لنا ما العلاقة بين نوع السيارة والاحتجاج على الحرمان من الحقوق الدستورية، والفساد، والمحسوبية. ولا يجيبنا الوزير عمّا إذا كان يعتقد أنّ الحكومات التي توفر الرفاهية لشعوبها لها حق في الفساد والاعتداء على الحريات، بل وحتى على دستور الدولة الذي يفترض أنّه الناظم لعلاقة الدولة بسكانها. المنطق نفسه تقريباً سمعناه من وزراء في نظامي مبارك وبن علي، ونسمعه من سيف الإسلام القذافي.
أما المعارضة التقليدية، فتصطفّ في الدور منتظرة حركة الإصلاح المقبلة، لعلّها تحصل على بعض المكاسب الفئوية أو الفردية، فيعيّن منها وزير أو أكثر. وفي سياق حالة الترقب، تسجّل الأحداث سابقة تغيّبت فيها كل أحزاب المعارضة والنقابات المهنية عن أول مسيرة أطلقتها المعارضة الجديدة في 14/1/2011، معلنة موقف المقاطعة لهذه المسيرة. ثم عادت لتركب الموجة ما إن لمست تسامح الحكومة معها، محاولة خطف الزخم الجماهيري لهذه المسيرات. وتكرر السيناريو نفسه في التجمعات التي كانت تقام أمام السفارة المصرية دعماً للثورة المصرية المجيدة.
وفي تطور لافت، اكتشفت المعارضة أنّ للأردن دستوراً أعدّ عام 1952، فالتفّت حول مطلب العودة إلى ذلك الدستور، علماً بأنّه لم يعلقه أو يلغيه أحد. وأصبح هذا المطلب حنيناً سلفياً، وحالة من التصوف السياسي الذي يطالب بالعودة بالتاريخ 61 عاماً، كأنّ الأردن لم يخضع لأيّ متغيرات طوال هذه الفترة. وأنشأت المعارضة حركات باسم الدستور وهيئات متابعة للملكية الدستورية، بل إنّ أفراداً من العائلة المالكة دخلوا على خط الدستور وانضموا إلى المحتفلين به. وبالطبع، تجنّبت المعارضة والموالاة الحديث عن الميثاق الوطني الأردني، وهو وثيقة غير دستورية، لكي لا تدخل في المنطقة المحرمة. وينطبق الموضوع نفسه على قرار فك الارتباط، وهو تعليمات غير دستورية حتى اللحظة.
لقد كان دستور 1952 إعلاناً لبداية الدولة الأردنية الحديثة ومثّل العقد الاجتماعي المؤسس لتلك الدولة. ماذا بقي من تلك الدولة الحديثة؟ وهل يمكن إعادة تأسيسها على القواعد والأسس نفسها؟
إنّ الجواب المنطقي هو النفي. فإذا كانت الأحكام العامة ثابتة، ولم يطرأ عليها الكثير من التغيير، فإنّ الكثير من التفاصيل بحاجة إلى مراجعة كاملة لتتماشى مع روح العصر، ولتقدم إلى الأردنيين الدولة التي حلموا بها. دولة ذات خصوصية، لا تنفي تماهيها مع محيطها العربي وتأثيرها وتأثّرها بكلّ ما يصيبه، من خير أو شر.
لقد تجاوزت الأحداث مفهوم الإصلاح، ليصبح المطلوب هو التغيير. وليس المقصود هنا تغيير الأشخاص، بل تغيير النظام جذرياً. إنّ مفاهيم مثل الديموقراطية البرلمانية وتوسيع صلاحيات الحكومة وتقليص صلاحيات الأجهزة الأمنية ووضع دستور جديد، تجيب عن أسئلة الحاضر وتمهد الطريق نحو المستقبل. كذلك فإنّ خلق آليات حقيقية ومستقلة لمكافحة الفساد، وإنشاء محكمة دستورية ومنع إصدار القوانين المؤقتة وإطلاق الحريات العامة هي البداية المتواضعة للتغيير الحقيقي الذي يسعى إليه الشعب دون منَّة من أحد.
يجب أن ندرك جميعاً أنّ الأردن لا يملك حصانة خاصة، حتى وإن كان يمتلك وضعاً خاصاً، وأنّ واجب الجميع أن يضمن حدوث التغيير بأقل ما يمكن من الخسائر. وهذا لن يحصل إلا بالامتثال إلى رغبات الشعب الحقيقة والاستماع إلى صوته لا إلى الهلوسات التي تدور في رؤوس شخصيات ومسؤولين فقدوا اتصالهم بالواقع.

* كاتب أردني