«ان انتهاكاً قصير الأمد للحدود (الجوية) لا يمكنه، ابداً، أن يشكّل حجّة لهجوم»رجب طيب أردوغان، الغارديان، 26 حزيران 2012. بعد اسقاط الدفاعات الجوية السورية طائرة «فانتوم» تركية

«انتهكت الطائرتان ... المجال الجوي التركي بعمق 1.36 ميل وطول 1.15 ميل، ولمدّة 17 ثانية»
من الرسالة الرسمية التي رفعتها الخارجية التركية الى الأمين العام للأمم المتحدة حول اسقاط الطائرة الروسية يوم الثلاثاء


المرّة الأخيرة التي أُسقطت فيها طائرة مقاتلة روسية، على يد سلاح جو دولة أخرى، حدثت في آب 1988، حين ضربت طائرات اف ــــ 16 باكستانية قاذفة سوفياتية من طراز سوخوي ــــ 25، كانت اخترقت المجال الجوي الباكستاني، وأسرت باكستان الطيار.

يومها، لم يؤدّ الحادث الى مضاعفات أو ردٍّ سوفياتي مباشر، ببساطة لأن الهجوم جرى في سياق مواجهةٍ قائمة بين معسكرين كونيين، وباكستان تدعم علناً، وخلفها اميركا، قوى مسلّحة غايتها قتل الجنود السوفيات؛ فكان الفعل من طبيعة المعركة وقواعدها، والرهان أكبر وأبعد من تلك المواجهة المحلية في الأجواء.
بالمعنى نفسه، فإن اسقاط القاذفة الروسية فوق سوريا يوم الثلاثاء لن يكون السّبب، أو الشرارة، التي تغيّر مجرى الأمور، بل هو «نتيجة» لشيء آخر، أهمّ، انعكس تغييراً في «قواعد اللعبة» وسنلمس آثاره لسنوات مقبلة. من الواضح، ابتداءً، أن اسقاط المقاتلة الروسية لم يكن حادثاً عرضياً، بل نتيجة قرارٍ (أو تخطيط)، وهي فرضية يعززها الدعم الأميركي الفوري للموقف التركي وتصريحات دول الـ»ناتو». هكذا أمورٌ قلّما تحصل بالخطأ، وهناك بروتوكولات تحكم التعامل مع الاختراقات الجوية، بدءاً بالتحذير ووصولاً الى الإنذار بالإسقاط (تقول الحكومة التركية أنها حذّرت الطيارين الروس مراراً، وهو ما تنفيه وزارة الدفاع الروسية ورواية الطيار الذي نجا من الهجوم). أنت، كقاعدة عامة، لا تطلق صاروخاً باتجاه كلّ جسمٍ غريب يدخل الى أجوائك لثوانٍ، خاصة وأن طائرتين روسيتين لا يعقل أن تشكّلا خطراً داهماً، أو أن تكونا في طريقهما لاستهداف تركيا والسماء حولهما تعجّ بالطائرات المعترضة.
قبل أقلّ من شهرين، كانت المقاتلات الروسية تتحرّش بالاف ــــ 16 التركية، وتلاحقها بالرادار، والطائرات التركية تنكفىء؛ فما الذي تغيّر حتى يتم ضرب طائرة روسية، عن قصد وترصّد، بـ»دمٍ بارد» منذ يومين؟ حين دخلت روسيا عسكرياً الى المسرح السوري، وهو مكانٌ يعجّ بالمخاطر، لم تقتصر ضمانتها على القوة التي أحضرتها الى المكان. بضع طائرات سوخوي ـــ 30، مثلاً، لا تشكّل رادعاً ضد أي سلاح جوٍّ في المنطقة، بل هي أشبه بدرعٍ رمزيّ؛ فالحصانة التي كانت لروسيا، والإحساس بالمنعة الذي جعلها تطلق طائراتها بحرية في السماء السورية، يتعلّق بفكرة «القوة العظمى»، وأن روسيا، بترسانتها النووية وتحالفاتها الدولية، لن تتجرأ عليها دولةٌ من الصفّ الثاني أو تدخل معها في تصعيدٍ عسكري.
غير أنّ «الكمين» الذي جرى كان، في جانب أساسي منه، يستهدف هذه الفكرة تحديداً، لتعود روسيا دولة «عادية»، لا تملك فعلياً الا عشرات الطائرات في الميدان، وخيارات الرد محدودةٌ لديها (الترسانة النووية قد تردع مطامع القوى العظمى، ولكنها لا تفيد في مغامرةٍ هجومية، والا لما تمكنّا من مقارعة اسرائيل. وان كانت روسيا بلداً كبيراً من 140 مليوناً، فإن تركيا بلدٌ كبير من 80 مليوناً، وليست «قزماً» أمام روسيا ـــــ حتى لو لم تكن مظلة الـ»ناتو» موجودة ــــ والتصعيد معها ليس مأمون العواقب). عملية «رفع الحصانة» هذه تقول لموسكو، بوضوح، إنّها قد دخلت (مع العالم الغربي بأسره، وليس مع تركيا) في لعبة الاستنزاف والاستهداف: طائرة مدنية في سيناء، طائرة عسكرية فوق سوريا اليوم، هجوم داخل روسيا غداً…
المعسكر الغربي لم يكن ليعتمد هذا المسار لو كان لديه بصيص أملٍ في أن تنضم روسيا الى الحلف الأميركي في سوريا، أو أن يكون وجودها العسكري مفيداً سياسياً لهم، أو أن تتناقض مع ايران. هنا الأساس: هجوم الثلاثاء كان نتيجةً، وليس مسبباً، و»رداً» على لقاء طهران حيث كانت لهجة الرئيس الروسي حاسمة حول المعسكر الذي اختاره، وكلامه عن «عدم طعن الحلفاء بالظهر» لا يصدر، كما لاحظ أحد العارفين، الّا لأنّه كانت هناك أسئلة حول الموضوع، ولأن بوتين يريد أن تستمع اليه أطرافٌ خارجية، وأخرى داخل نظامه وفي ايران وسوريا.
ان صحّت هذه الفرضية، فإن النقاش قد يجري في المستقبل عن «نقطة التحوّل» التي جعلت القيادة الروسية تقتنع بأن «التعايش» مع الغرب قد انتهى، وأن العالم الجديد يحتاج الى أساليب جديدة وحلفاء جدد: هل كانت حروب ليبيا وسوريا؟ أم الاختراق في الخاصرة ــــ اوكرانيا ــــ والعقوبات؟ بهذا المعنى، لا ضرورة للقلق من التصعيد الفوري، روسيا ستزيد من عملياتها في سوريا وتحضر الى الميدان معدات وقوى جديدة لخلق معادلة أكثر توازناً وردعاَ. يؤكد «مصدر سوري رفيع» أن نظام الاس ــــ 400 صار في طريقه الى اللاذقية، وهي المرة الأولى التي ينشر فيها هذا السلاح خارج روسيا، مضيفاً، من دون توضيح، أن «نظام اس ــــ 300 قد تمّ تشغيله الأمس ليغطي كل الأراضي السورية» (ما يعني انه ليس موجوداً على قطعة بحرية). ولكن المغزى الحقيقي لهذه الأحداث يكمن في مكانٍ آخر: يبدو أن الغرب قد فهم أن حلفاً قد تشكّل في المنطقة، وهو موجّه ضده وضد وكلائه، وقد أضيفت الى قواه وجيوشه وميليشياته على الأرض القدرة الجوية الروسية وكل ما تقدّمه دولةٌ رائدة عسكرياً. هذا السيناريو يعني شيئاً كبيراً في سوريا والعراق، وقد يغيّر شكل الإقليم في المستقبل، والغربيون ــــ ببساطة ــــ لن يقبلوا بهذا الواقع، وما حادثة الأول من أمس الا بدايةً لعهدٍ قادمٍ من العنف والصراع.