«هكذا، في عقول البروليتاريين الذين خلطوا الأرستقراطية المالية بالبورجوازية، في مخيّلة الجمهوريين الشجعان الذين أنكروا وجود الطبقات نفسها أو اعترفوا بها في أحسن الأحوال كنتيجة للملكية الدستورية، في العبارات المنافقة لأجزاء البورجوازية التي كانت حتى الآن مبعدة عن الحكم، وجدت «سيطرة البورجوازية» نفسها ملغاة مع تشييد الجمهورية. تحوّل في حينها جميع الملكيين إلى جمهوريين وجميع مليونيرية باريس إلى عمال. كانت الكلمة التي استجابت هذا المحو التخيلي للعلاقات الطبقية هي الإخاء، التآخي والإخاء الكوني».(كارل ماركس، صراعات الطبقات في فرنسا)

بروز الانتفاضة في لبنان

منذ أوائل شباط تقريباً، ومع تركيز التغطية الإعلامية العربية على أحداث تونس ثم مصر، بدأت مجموعات تتكوّن على الفايسبوك وتدعو إلى قلب النظام الطائفي في لبنان، أو «إلى تغيير الدستور» اللبناني. وهي مجموعات تعمل على ديناميّات الدعوة المفتوحة عن طريق منتسبيها وعلاقاتهم الاجتماعية (صداقاتهم على الفايسبوك). وقد حاز «غروبان» (مجموعتان) تحديداً عدداً كبيراً نسبياً من المنتسبين، ومشاركة متطورة في النقاشات الدائرة على «حائطيهما». ما لبث القيّمان على هاتين المجموعتين أن عقدا جهودهما، على ما جاء إعلانه في أحد البيانات الإلكترونية. والمجموعتان هما «من أجل إسقاط النظام الطائفي اللبناني ـــــ نحو نظام علماني» و«الشعب اللبناني يريد إسقاط النظام الطائفي»، وقد فاق عدد المنتسبين إلى كلٍّ من المجموعتين الـ13،000 منتسب (حتى تاريخ الرابع من آذار 2011 ـــــ وقد يكون قسم منهم من الأفراد المنتسبين إلى المجموعتين في الوقت نفسه).
لا شك أن أحداث تونس ومصر أعطت موقع الفايسبوك معنى آخر عند مستخدميه. من الداعين إلى التظاهر إلى المستجيبين للدعوات أو حتى إلى قارئي الدعوات من غير الموافقة على مضمونها، لا نرى في المجموعات الداعية إلى التظاهر سوى الجدية في التعاطي مع الدعوة. ليس هنالك بين المنتسبين للفايسبوك من يذمّ المشاركين، كما نرى في صفحات 14 آذار والمعارضة السابقة، أو من يستهزئ بهم. والشعور بالحماسة هو السائد عند المشاركين أنفسهم. فتبدو صفحات نقاش الفايسبوك كأنها تؤدّي الدور الذي أدّته «الكلوب»، النوادي الحزبية، منذ الثورة الفرنسية الأولى إلى الربع الثالث من القرن التاسع عشر، أي قبل تطور صحافة صناعية واسعة الانتشار في فرنسا وبعض مدن أوروبا. وكان لهذه النوادي الفضل الأبرز في تنمية راديكالية الفئات المدينية المختلفة، التي فرضت إرادتها أثناء الثورات والأزمات على قرارات المجموعات الحاكمة المتناحرة، عبر احتلالها شوارع العاصمة. مما يدل على أن المساحة الإعلامية العربية، من حيث تمثيلها منصة للنزعات الرمزية والمطلبية الشعبية بتفاصيلها، هي بحكم الغائبة، شأن مثيلاتها الأوروبية شبه الغائبة مادياً في بدايات القرن التاسع عشر (دون أن يعني ذلك دعوة إلى نظرية مفهومية «لما قبل حداثة» مخيلة أو إلى غيرها من الأنماط البهلوانية الفكرية على القافية نفسها). كذلك الأمر في لبنان، إذ كتب لتحرك المجموعات النقدية التوسع قبل أن تستوعب قناة «الجزيرة» التحرك في تغطيتها للثورات العربية، ولو عاد الفضل إلى الأخيرة لما كان شك في التسويق لنمط رمزي للانتفاضة.
على كلٍّ، أفضت الدعوات على الفايسبوك للتظاهر في لبنان إلى تظاهرتين: تظاهرة أولى حصلت يوم الأحد 27 شباط، وقد قدّرت المشاركة فيها بـ2000 متظاهر ومتظاهرة، ذلك في يوم شديد الأمطار. تلتها تظاهرة ثانية بعد أسبوع، في يوم أحدٍ مشمس، كان في السادس من آذار، وقدرت المشاركة فيها بعشرة آلاف شخص على أقل تقدير. كان اللافت في التظاهرتين خروجهما على نمط المسلك المؤدي إلى وسط مدينة بيروت المصادر. وهناك من التظاهرات ما لا يتحرك إلا في وسط المدينة، نتيجة تطويق للحراك المديني عامةً اتّبعه رفيق الحريري بالتعاون مع القوى الطائفية والميليشياوية المحلية. فبعدما دعا السنيورة إلى التظاهر على شرفات المنازل، جاء الحريري الابن يسوق لتأجيل موعد تظاهرته إلى الأحد الثالث عشر من آذار احتراماً منه لقيمة العمل (اقرأها «احتراماً لأرباب العمل»). ذهبت التظاهرة الأولى لمنظمات الفايسبوك في مسلكها بمنطق رمزي، على «خط التماس» القديم. وذلك من مستديرة الشياح ـــــ مار مخايل إلى العدلية، مروراً بمستديرة الطيونة. والتظاهرة الثانية ذهبت من تحت جسر الدورة مروراً ببرج حمود وشارع مار مخايل، إلى مؤسسة الكهرباء، أيضًا للتدليل على مشكلة تصيب عموم المواطنين في عيشهم اليومي. والتظاهرتان تبيّنان مدى استيعاب التحرك لمطالب متعددة وتسليطه الضوء على مشكلات متنوعة، مثل خدمة الكهرباء الناقصة وتهديد الحرب الأهلية. وهي مسائل نجدها في الهتافات أثناء التظاهر. هذا التنوع في العناوين يأتي على عكس ما قد يوحيه الشعار الملتبس الذي اختارته المجموعات المتنوعة على الفايسبوك عنواناً لها: «إسقاط النظام الطائفي». وهو ما ينبّه إلى وجوب قراءة الانتفاضات الحاصلة الآن بأدوات معرفية مختلفة عن تلك المخصصة لتحركات الأحزاب النظامية. هذه التحركات المنسقة منذ أروقة البرلمان المعطل، إلى الأناشيد الهتافية أثناء التجمع، مروراً بالخطب التلفزيونية الببغائية، تتركز على مطلب واحد تفرزه خصوصيات اللعبة السياسية وحدها، إذ إنه عند مراقبة المجموعات النقدية الجديدة الولادة في لبنان، ومقارنة بروزها ببروز المجموعات العربية التي سبقتها، قد تظهر نزعة لا تقل «ثوريةً» عن مثيلاتها في مصر أو غيرها من الانتفاضات الشعبية التي «تحولت» ثورة، أو التي بقيت في حال «الانتفاضة» لأنها «فشلت» في التقاط اللحظة الثورية، أي اللحظة التي تحتوي على الفرصة للمنتفضين لقلب موازين الحكم في مصلحتهم. وهي انتفاضات ألهمت بعض المعلقين اللبنانيين بسهولة رومنطقية ووجدانية لم تعط الانتفاضات اللبنانية، ربما لبعد مسافتها عن أجهزة إدراك المحللين المفعمة بالتذاكي والأبوية تجاه شعبهم، وهو منحى إدراكي وتحليلي أدبهم عليه النظام.

«شعب الثورة»

فالثورة بمعناها الماركسي «المنهجي» مثلاً، الذي قد يكون من أكثر معانيها تطلباً وقسوةً على المنتفضين، تأخذ صفتها من قلب الحكم وتوجهه العام بما يخدم مصلحة الثوار، وذلك لا يحصل إلا عبر احتلال الثوار مراكز الحكم وإطاحتهم مَن سبقهم. وهي نظرة إلى الثورة نمت من القراءة الموضوعية للثورة التي استوت عند ماركس، بعدما شهد حصول ثورات عديدة في منتصف القرن التاسع عشر، كانت مرجوة في حينه عند الفرق والأحزاب الجمهورية والاشتراكية في أوروبا، وباءت معظمها بالفشل (ذروتها كانت في ما سمي «ربيع الشعوب»). والنمط الموضوعي في قراءة الثورات وتعييرها بقدرتها على قلب النظام القائم عبر تبديل أسس وركائز ملموسة، هذا النمط إذاً من التحليل طوّرته الأحزاب اليسارية لأنه يتماشى مع منطقها التنظيمي الحزبي، وبتسويقها لنفسها «كأحزاب الثورة» في أوقات عادية غير ثورية في وجه خصم سياسي توجب توضيحه. كذلك يتماشى هذا النمط مع شعور الحنين «إلى تكرار الثورات» أو تكرار الانتفاضات السابقة، في حال كل بلد، وكانت الثورة الفرنسية المجيدة أو كومونة (عامية) باريس قبلتها الرمزية في حال البلاد التي لم تشهد سوابق ثورية. وبالتالي، أخذت هذه القراءات أساس منطقها من تعيير للثورات والانتفاضات عبر مقارنتها بالنتائج والتحولات التي تحققت مع سابقاتها: ما الذي استبدل؟ وما هي الحقوق المكتسبة؟ ماذا صمد في النظام القديم وما الذي سقط؟ وقد يكون في السؤال الأخير، في تعيين أعداء الثورة وأنصارها، الدور الأكبر أحياناً في خلق سوء التفاهم بين «الثوار العفويين» و«الثوار المهنيين» (الحزبيين أو الأكاديميين أو ذوي المهن الثقافية) الذي يكلف الجميع إضاعة اللحظة التاريخية الثورية. إذ إن مبادئ المهنيين، غالباً ما تذهب بالتعيير المقارن بين الماضي والحاضر حتى طلب التماثل، وهم أصلاً يستخلصون معاييرهم من تقويمهم للنظام، بحكم تجربتهم معه وممارستهم لشروطه، أو بحكم ما سبق من تجارب اصطدام به، وهو تقويم لا يمكن أن يشمل كل احتمالات التصادم الشعبي مع النظام ومع طبقته الحاكمة، بالرغم من سعة معرفته.
إذ غالباً ما تذهب المقارنة التاريخية الرمزية في مطابقة تامة لأبطال اليوم بأبطال سابقين، كأنّ المشابكات الاجتماعية تعيد نفسها. هذا ما حصل في فرنسا مثلاً في أزمة أيار 1968، وهي من أكبر موجات الأزمات والإضرابات التي هزت العالم الصناعي، عندما اتخذ الحزب الشيوعي الفرنسي لنفسه مسافات إدانة وحذر من انتفاضة الطلاب الجامعيين الذين أشعلوا التعبئة، بحجة «برجوازيتهم» (تعييرهم الطبقي الضيق) أو شعاراتهم «الماوية» وغير الجدية، وهي شعارات، اشتركت، في حينه، في إدانتها «للتسلط» دون «توحيد» تحديده. فأضاع الحزب الشيوعي فرصةً نادرة لقلب نظام الجمهورية الخامسة، وسمح لليمين الفرنسي باستجماع قواه التعبوية مع فهمه «لغة الشارع»، فنظم اليمين تظاهرة مضادة، بدل اللجوء إلى الجيش والقمع المفضوح. هذا عدا سقوط الحزب الشيوعي في فخ لغة النظام الأبوية، وإدانته الطلاب المنتفضين لابتعادهم كشباب عن تحسّس مسؤوليات عمال المصانع.
هكذا قد تصبح الطبقة الوسطى أو البورجوازية الصغيرة هذا الجسم الجامد منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا مثلاً، وتقع دائماً تحت شبهة الدور «الذيلي» لرأس النظام الرأسمالي بناءً على منحى أعضائها العام في اعتناقهم أسس النظام العقائدية. بينما تبرز الدراسات التاريخية أدواراً متعددة «للطبقة الوسطى» الفرنسية عبر القرن التاسع عشر وحده، من دور «الطليعة الثورية» عام 1789 إلى كتلة منتفضة على الملكية عام 1848، ثم ساكتة عن قمع البروليتاريا في السنة نفسها وضحية لخديعة البورجوازية. مع العلم أنّ الطبقات، باستخدامها الأكاديمي كمفهوم، تختلف معانيها ومعالم تحديدها بين الموقعة والأخرى. أما المناهج الحزبية وبعض الأنماط الأكاديمية، فألحقت بالطبقات فكرة «الوعي» ومعه «الوعي الثوري»، وهي فكرة قليلاً ما يمكن رصدها بين الأفراد. ونمط «الوعي» المفهومي لا يزال موجوداً في جميع النقاشات التعبوية ولو لم يُسمَّ بالاسم. مما جعل هذه النقاشات تدير ظهرها لما «للّاوعي الاجتماعي» من فضائل على النشاط الثوري والرفضي في لحظة تحققه (العبارة لبيار بورديو). هذا النمط لربما كان موجوداً أكثر في الكتابات «الليبرالية» مما هو متوافر في الكتابات اليسارية، وقد شهد الأسبوع الذي تلى التظاهرة الثانية وفرة من التحليلات في الخندق الليبرالي. تحليلات يائسة من الوضع، ولا تزال تفتي بـ«طائفية الشعب» و«بداوته» وابتعاده عن ذاك الوعي الذي عند منظمي المسيرات، كأنّ المسيرات يحركها «وعيٌ» واحد. ما أخذ أكثرهم خبثاً إلى الدعوة إلى المحافظة على طائفية النظام.
وتكثر المقالات الصحافية التي تطلب من المنظمين تجميع سلة مطالب واضحة «تحاصر النظام» من كلّ الجهات، كأنّ نقيض النظام في منهج واحد، بينما اختبار المنتفضين للتجمع يملي عليهم عدم التوضيح لكثرة الآراء الموجودة.
اليوم، في موضوع العالم العربي، يعزو الكثير من المعلقين الانتفاضات (المسماة «ثورات») إلى تحرك «الطبقة الوسطى». وهو تعبير، إن كان يجب تلمّسه بشيء من الجد، قد يشترك عند الجميع بتمييزهم الانتفاضات القائمة حالياً في العالم العربي عن الانتفاضات الجزئية، العمالية أو الفلاحية أو الطلابية، التي اعتادتها لغات المعلقين المهنية. طبعاً، ذهب تفسيرهم مع إعطاء أفضلية دعائية للمجموعات الشبابية الموصولة بالإنترنت، وبالتالي «الوسطى» طبقياً، في القيام بالانتفاضة وبالتالي في «امتلاك» الانتفاضة وغايتها. ذلك على حساب دعاية «الطبقات» أو الأجزاء الأخرى من المجتمع. وهذا قد ينطوي على فتك بـ«نجاح» الانتفاضة وبلحمة شعبها عندما تطرح الاستحقاقات السياسية مسألة «تمثيل الثورة» أو ملكية الثورة وغاياتها ومطالبها على طاولة الفحص.
لكن من الأكيد أنّه مهما كان السبب الأول لاندلاع الانتفاضات (والسبب بنفسه ليس تفصيلاً)، يبقى من الواضح أّن المشاركة فيها تشمل فئات عديدة من المجتمع. أكان الأمر في تونس، أم في مصر. تشهد على ذلك أخبار النقابات المتضامنة، والمهن المعطلة، ومواقع المناطق المنتفضة من النظام الاقتصادي الاجتماعي الخ. (وقد يكون من المفيد رصد هذه بتفصيل في أوقات وأماكن دخولها حيز الانتفاضة والتعبئة لمعرفة أكثر دقة بتكون «كرة الثلج» التعبوية).

انتفاضة عابرة للطبقات

يمكن مما يلي استنتاج أنّ ما يميز هذه الانتفاضات عن سابقاتها، وهو ما صنع حجمها وحسم نجاحها، هو طبيعتها «العابرة للطبقات»، العابرة للأماكن والفئات الاجتماعية. وهذه الصفة للانتفاضة يتلمسها المنتفضون قبل غيرهم، ولها عندهم تعبيرها الاحتفالي. فبينما قد يُشغل بعض المعلقين المهنيين في انتقاد «وطنية» الانتفاضات أو، وهذا أكثر شيوعاً في لبنان، اقتراب رموزها من رموز تعبئة 14 آذار «الوطنجية» و«الفارغة»، قد تجدر الإشارة إلى أنّ ما رأى فيه بالمقابل المعلقون «الليبراليون» من «حس مواطنة»، كما يدرس في كتب التربية المدنية في المدارس هو حقيقةً، وقبل كل شيء، مجرد «اختبار» للحظة الانتفاضة، كلحظة مكونة لعالم خاص (وجديد) المعاني والإمكانات. لحظة قد تكون قريبة من اختبار العرس والدبكة (وهي ممارسات موجودة في التظاهرة)، وقد يسودها شعور غير أيديولوجي، غير مستوي «الوعي»، بالتحايل على ما صنعته الأيديولوجيا المهيمنة من شعارات ورموز لفرض هالتها، كما نرى في الشعارات المكتفية بـ«المسخرة» على «شهر آذار» وغيرها من الشعارات «البسيطة» في نظر المحللين، لكنّها الفعالة عند وقوع الحادثة. مما يعني أنّ نتائج هذا «الاحتفال الوطني»، هذا الهتاف بالنشيد وحب الوطن والعلم، لن تؤدي بالضرورة إلى نزعة «وطنية لبنانوية» عند معظم المشاركين في الانتفاضة ولا إلى وعي «مواطني» مكتمل. كذلك الأمر في مصر وتونس. مع التنبيه إلى أنّ الانتفاضات في جميع الأقطار لن تؤدي في حال «اكتمالها» إلى النتيجة نفسها. فلكل بلد ولكل مدينة خصائصها وتشابكاتها، ولو وحّدت اللغة الإعلامية العناوين. أمّا «الوطنية» ومعها «القومية»، فليس صدفةً أن يكون الثوار الفرنسيون هم أول من أقامها عقيدةً، لتغيير السلطة الرمزية القائمة. هذا أيضاً لم يعن أنّ شعب فرنسا توحد سياسياً بعد انتهاء الثورة و«نجاحها».
يشترك الشعار المرفوع في لبنان، إسقاط النظام الطائفي، مع الشعار المرفوع في مصر، بأنّه فضفاض وغير محدد. والشعار قد يعمل بطريقة فضفاضة، غير محددة، كما تُظهره أحداث مصر الآن مثلاً، فبالرغم من وجود دكتاتور في شخص واحد وحزب حاكم يعاونه، لم تعمل التحركات الأولية للمنتفضين فعل الفيتو على كلّ الجسم الحاكم القديم، فقد استُثني الجيش، وهو الذي في نظر الكثير من المحللين من ركائز النظام السابق. قد يكون لبعض الثوار المصريين أسباب في ذلك، مثل التحايل على الحس المحافظ الذي يخاف الفراغ، لكن الأرجح أنّ لموضوع الشعارات منطقاً آخر، غير منطق قراءة الثورات المعيارية ـــــ الامتثالية. فالتعبئة الجماهيرية العابرة للمناطق وللفئات الاجتماعية، في مجتمع شديد التجزئة الرمزية لا يمكن أن تحصل إلا من خلال شعارات بسيطة وغير واضحة المعالم. إذ لا يمكن التدقيق فيها وقلبها على أصحابها، عبر إبراز مكامن القسمة بينهم في مضمون الشعار: إنّ هذا الشعار يميز أحداً عن الآخر، أو يعطي أولوية لفئة على أخرى. أي إنّ ما ينتقد على أساس أنّه ساذج ومغلوط عند المنتفضين، بعين نظرية، هو في أساس الفعل «الثوري»، وهو ضمان حصول الفعل «الثوري»، إذا كان للانتفاضة أن تنتهي ثورةً.
إذا أردنا أن نستخرج صفات جامعة أو قابلة للتعميم من الشعار، فهي دعوته إلى الفعل، إلى تحويل الأشياء وتغيير السلوك، التي يحملها في تركيبته اللغوية، في فعل نطقه. وهو، عدا استخدامه من جانب المنتفضين الذين غلب رصد سلوكهم في هذا المقال، قد يجدر التنبه إلى استخدامه مثلاً عند أطفال المدارس في «مزاحهم» مع أساتذتهم، أو عند الكتاب اليوميين وكتاب الرأي في الصحف، مثل ذاك المقال لجورج قرم في جريدة «السفير» (11/02/2011) المعنون «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي»، الذي قد يكون بين من ألهموا المجموعات على الفايسبوك. ينبغي التنبه حتى إلى تزاوج الشعار، وجزئه «الشعب يريد إسقاط»، مع تغطية الصحافيين، وهم جمهور شديد التهذيب ومن مسوّقي المحافظة، لأحداث لا علاقة لها بالسلطات الطائفية اللبنانية أو للسلطة المصرية. هكذا أصبح الشعار تجسيداً لغوياً لفعل اجتماعي جديد، كاسر للأنماط اليومية، أو تجسيداً لغوياً لأفعال اجتماعية قديمة وعادية لكنّها داعية إلى كسر النمط اليومي فوجدت في الشعار رافعةً لصوتها من التهميش.

أصول الانتفاضة وأفولها

لا يمكن تعيير اللحظة الثورية، ولا الانتفاضة، بأفضلية لمفاهيم الوقت العادي، ولا بأفضلية لبنى الوقت العادي الطبقية أو الرمزية أو الثقافية، التي هي غالباً، في نظر «الباحث» والمحلل، البنى الأكثر بروزاً التي قد تحجب بإشعاعها منظر بنية أخرى. هكذا وقع بعض المحللين في تبسيط فاضح في رؤيتهم لتظاهرات فريقي النزاع في لبنان في الأعوام الستة الماضية، مصورين جمهورهما جماعات مرصوصة، مغلقة «التفكير» وخاضعة لزعامتها ومشيئة هذه الزعامة، مما أسهم، بلا شك، في تثبيت الحراك السياسي الشعبي على هذه السكة. ماذا أصبحت هذه النظريات في جمهور الفريقين الآن، بينما تظهر نقاشات المنتسبين إلى مواقع الانتفاضة على النظام الطائفي الإلكترونية أصول ميولهم المتعددة والموزعة بين فريقي النزاع السياسي؟ ما يبرهن على احتواء جمهور الفريقين منذ لحظات التجنيد الأولى في 8 و14 آذار 2005 على مناحٍ عقائدية وحسية متعددة، لا تختصر بمستخدمات الإعلاميين والسياسيين وبحجج منازعاتهم.
قد تكون هناك أسباب للانتفاضة في لبنان، على مستوى رمزي، وبالتوازي مع ما قدمته مصر وتونس وليبيا من صورة باهرة لـ«سلطة الشارع»، تكمن في درجة إفلاس أصابت ممارسات فريقي النزاع عند من يختبرون السياسة من الشعب، دون صلة مباشرة بمؤسسات التعبئة التابعة للفريقين (خدمات بيروقراطية، معونات، نشاط حزبي، كشافة، مدارس وجامعات)، فيما أصبحت تظاهرة 14 آذار فقط لذكرى رفيق الحريري، وحين تأخر تأليف حكومة نجيب ميقاتي، لأنّ التحليلات تجمع على القول إنّه يريد أن «يأخذ وقته»، من وقت الناس طبعاً. فأصبحت بالتالي المواقع السياسية المعروضة لا تلبي النزعات الرمزية المتكونة على الأرض الاجتماعية كما فعلت من قبل... أو لم تفعل. هكذا قد تضم أيضاً تظاهرات الغد جمهوراً لم يشارك في تعبئة فريقي الحكم من قبل، فلا يمكن رصد هذا الجمهور عن طريق لغة تشير إلى انتمائه السابق لأنّ هذا الانتماء لم يكن له لغة معروفة ومعروضة في الإعلام.
طبعاً، يمكن التحليل الموضوعي أن يذهب في رد الانتفاضات الشعبية والثورات إلى تفشي الفقر، إلى نمو بورجوازية مالية وقحة الثراء، إلى تفشي الفساد الإداري دون أن يستفيد منه الجميع ... إلخ. وهي أسباب تشترك فيها دول مصر وتونس ولبنان، لكن التحليل الموضوعي لا يفسر لماذا اجتمعت هذه الأسباب في غير مناطق وأماكن ولم تؤدّ إلى ثورة. قد يصلح تفسير نجاح انتشار الانتفاضة الشعبية في كل من مصر وتونس إلى تماس الطبقة الوسطى بكل طبقات المجتمع، جيرتها والطبقات الأخرى واحتكاكها بها جميعاً، وهي حال تنفرد هي بها، كما أنها تنفرد بحيازتها معتقدات رمزية توازي رموز الطبقة الحاكمة، ولها أشخاص (أبطال) يوازون أشخاص الطبقة الحاكمة وجاهةً. أما القراءات البنيوية، فرغم محدوديتها في تحليل مسرى الديناميّة المتحولة التي هي الانتفاضات والحركات الاجتماعية في لحظات حصولها، يجدر تفضيل تحليلها في موضوع واحد على الأقل: إنّ النظام، أيّ نظام، الذي سيخرج من الثورة والانتفاضة، أكان النظام القديم منتصراً أم نظاماً جديداً مستمداً من الشرعية الثورية، سوف يستخدم التقسيمات الاجتماعية العادية وسيلةً لفك تعاضد المتظاهرين وجمهورهم وإعادة الهدوء إلى الشارع. هذه التقسيمات التي يفنّد حدودها التحليل البنيوي، التي تتلمّسها أبواق النظام على طريقتها لأنها ظاهرة، معروضة، ومحفورة في زاوية من الرؤوس.
فالثورة والحركة الاجتماعية، مع تطوّرها ومرور الوقت، سوف تفقد «عفويتها»، وارتكازها على اللحظة الجديدة الفاتحة لكلّ الاحتمالات. كثيرة هي ديناميّاتها التي تتكل على هذا الخروج من الوقت العادي للأحداث والسلوك والذي يعطي الانتفاضة نكهة «أنّ كلّ شيء أصبح ممكناً» عند جمهورها وعند أعدائها: الموعد العشوائي في مكان جديد مع جمهور غير متوقع عدده. الشعور بالفوز على تقسيمات النظام مع نزول وجوه غير معتادة إلى التظاهر. ردات فعل السياسيين الأولى، في ضياعها، ونفاقها المفضوح، ونكاد نقول في «سذاجتها»، مثل ذاك التصريح لنبيه بري المتضامن مع المتظاهرين (بعدما كان عناصر من «أمل» قد اعتدوا على ناشطَين وهما يوزعان المناشير) الذي مثّل مناسبة على الفايسبوك للمّ الشمل عبر شتمه. أو ذاك التصريح «لوزير المجتمع المدني» الذي خاف على «مقام» المنصب فلم ينزل إلى التظاهرة.
مع الوقت، قد تصبح الانتفاضة «روتيناً»، موعداً يومياً تلبيةً للازمة احتلال الشارع لأنّ الثورة والانتفاضة أصلاً لا تستمدان قوتهما في مواجهة النظام، إلّا من خلال إبراز نفسيهما في الشارع ،إن لم يكن من خلال احتلاله وتعطيله. قد يبدو هذا الروتين مسلياً في البداية، منشطاً، إذ إنّه كالموعد مع حفلة يومية، لكنّه سيسمح للعناصر التنظيمية المتبارزة المتعددة بأن تستوعب الأحداث الثورية أو أحداث الشارع في دعاياتها، أو أن تكيّف دعايتها وتحركاتها مع الأحداث التي باتت في معظمها متوقعة. في خطب النظام الذي سيتكون من اختبار الانتفاضة سوف يعود العمال المشاركون في التظاهرة أولئك «الكسالى» المعطّلين لأعمال الناس ولكسب رزقهم الكريم، كما يحصل الآن في تونس. سوف يعود الفلاحون والقرويون ليصبحوا هؤلاء «الهمج» و«الأوباش» الحاقدين، ذوي الوجوه الداكنة، الذين تعدهم العنصرية اللبنانية «سوريين» و«فلسطينيين» جاؤوا ليتدخلوا «بشؤوننا».
مع الوقت، ستصبح هذه التقسيمات عادية، محققةً لذات شكلها، حجر ارتكاز نظام جديد للحياة اليومية وللمواقع الاجتماعية تخدم المجموعة التي تبوأت لتوها الحكم. لمَ لا؟ ألم نقل إنّ لكل «طبقة» أدواراً متعددة عبر الزمان؟ هكذا هي الثورات، فيها من انقلاب الأقدار والأدوار ما لا تشتهيه النفوس الرومنطيقية، المتربصة للمثال الثوري. في بعض الأحيان، بالعين النظرية «الموضوعية»، يكون الفلاحون هذه القوة الكبيرة التي يصعب السيطرة عليها والتنبؤ بحركة موجاتها وانتشار عصيانها، وفي أحيان أخرى يصبحون أداة القمع الرئيسية التي يستنجد بها الطغاة لطمر تمرد بؤساء المدن.

خاتمة

قد يكون لكلام ماركس أعلاه وقع شديد على النفوس، كاسر للابتهاج. هو غاضب ولو لم يكن محبطاً. الرجل يتحدث بعد خبرة وخيبات، لكن هل هذا سبب كاف لينتظر المرء تسطيح الأرض الاجتماعية إلى بروليتاريا في وجه بورجوازية لكي يحسّن وضعه؟ ماركس نفسه لم يتخلَّ عن عمله التنظيمي، وأغلب الظن أنّك لو سألته هل كان بمستطاع الأمور أن تؤول إلى نجاح الثورة في باريس عام 1848، لكان قد أجاب بحتمية تحليله، الذي جاء على ضوء نتيجة الثورة، مع أنّه آمن بالعكس قبل انتهاء الثورة، عندما كتب بيانه الشهير مع إنغلز. هذا لم يمنعه من استخراج عبرةً من الثورة، وضعها في بداية نصه: إنّ الحزب الثوري نجح من حيث أنّه فضح عدواً واحداً وموحداً. وسيتابع ماركس منطلقه هذا عبر عرضه في النص كيف أن هذا العدو استنفد خديعته.
هل هذا هو وضعنا الآن في لبنان؟ وكلام ماركس يرن في آذان الأفراد الخارجين من خديعة فريقين استمدا شرعيتيهما من النزول إلى الشارع ومن التجنيد الشعبي. ألم يكن في يوم 14 آذار ٢٠٠٥ «كلّ مليونيرية بيروت عمالاً» و«ثوريين»، والغول المالي أصبح شهيداً محبوباً لدى الجميع؟ ألم تكن في كانون الأول من عام ٢٠٠٦ طفيليات النظام من المحرومين وشيوخه وكهوله وإقطاعييه في جسم الدولة من الواعدين بالتغيير والإصلاح؟ هل ستعاد كتابة السطور الآنفة من جديد عند رواية انتفاضة «شعب يريد إسقاط النظام الطائفي»؟
قد تكون أبلغ عبرة للانتفاضة الجارية الآن أنّ التظاهرات التي نزل إليها مئات الآلاف من اللبنانيين في السنين الماضية قد صودرت، خطفت. وبناءً عليه يجب أن يكون الحفاظ على ملكية التظاهرات اللاحقة في أعلى الأولويات. وحفظ الملكية في العمل السياسي، ومن تفرعاتها ما يسمى «الذاكرة» في المهن الثقافية، إلى الآن، لا بديل له من الحزب والتنظيم الحزبي، وهو شكل من المأسسة.
وفيما تكثر المقالات والتعليقات على الفايسبوك التي تناشد المنتفضين تسمية الخصم السياسي، أو أركان النظام، والتهجم عليهم، وبينما تملي عليهم تجربتهم العملية للتجمع أن يبقوا على شعارهم «الفضفاض» (وقد أكد تمسك بعضهم بهذا المسلك تعليقاً لأحد القائمين على مجموعة «الشعب اللبناني يريد إسقاط النظام الطائفي» في مساء 9 آذار على حائط المجموعة الأخرى) بسبب ما تشعل مزايدات التسميات من فتن بين المنتسبين، قد يبدو للبعض أنّ التنظيم الحزبي للمسيرات مضر. وهو مبدأ صحيح في حال الحركة الاجتماعية الحالية، لارتباط نجاحها بحركتها التوسعية، لكنّه لا يمكن أن يصدق في المطلق، لا بل إنّ معاداة التحزب، وأخصه التحزب في حزب مبدئي، هي من أدوات النظام اللبناني في تجزئته للمجتمع وعزله للأفراد. وهو نظام يعتاش، انطلاقاً من دستوره ووصولاً إلى خطابه الإعلامي والسياسي، مع أشباه تناقضات مسلكية، ليستوعب كل سلوك تحت مظلته. هو نظام طائفي لكن دستوره يدعو إلى إلغاء الطائفية. هو نظام يتغنى بتنوعه فيما يفرض الجوع والكفاح نفسيهما على الجميع. وهو نظامٌ يسمح بالحياة الحزبية والتنظيمية، لكنّه يقيم لها زعماء ووزير عمل، فيشوه رمزية التحزب والتنظيم ومعها رمزية العمل الجماعي في جميع أشكاله.
بلغة مباشرة: التنظيم ليس مضراً طالما لا يأتي وحيه من موسكو، طهران أو الرياض. لا تنشئوا حزباً واحداً، فهذا مستحيل بسبب تنوعكم، لكن أقيموا صداقات جديدة وأحزاباً، ولو بالمئات، تنسق بعضها مع بعض انتفاضة الآن حتى موعد الانفصال الذي لا بد له: المهم أن تخرج قاعدة الانتفاضة بمؤسسات لها، مؤسسات وأحزاب تكون قراراتها ووحيها من الشعب، تمنع أركان النظام من «خطف التظاهرة» ومن لبس لبوسها، وتفتح الباب لتظاهرات مطلبية مقبلة. فالشارع يجب أن يبقى لكم.

* باحث لبناني