أغدق رئيس الوزراء التونسي السابق محمد الغنوشي، في حديثه الأخير على الجزيرة قبل استقالته، الأوصاف الجزلة على الثورة التونسية. فهي ثورة كرامة تارة، وثورة لأجل الديموقراطية تارة أخرى. غير أنّ هذه الأوصاف أتت في سياق اعتراضه على ما يحصل الآن من تجذير، وإصرار على استمرار الثورة، حتى التخلّص من كلّ النظام لا من رأسه وحسب. كذلك اعتراضاً منه على المباشرة في طرح مطالب اجتماعية، انزوت قليلاً خلال سياق الثورة، لمصلحة المطلب السياسي المباشر والمتمثل بإطاحة الرئيس ونظامه، وهو ما لم يتحقّق منه حتى الآن إلّا جزؤه الأول.فرار الرئيس المخلوع زين العابدين جاء مبكراً جداً، وربما بغاية حصر الثورة في أضيق إطار ممكن لها: التخلّص من رأس النظام لمصلحة بقاء النظام. وهذا ما ظهر مع استمرار الغنوشي برئاسة الحكومة، وتسلّم رئيس البرلمان فؤاد المبزع رئاسة الجمهورية مؤقتاً، وكلاهما كانا من دعامات نظام بن علي.
ما أغدقه الغنوشي من توصيفات الثورة، ومفردات الكرامة والديموقراطية، يبدو محاولة منه لحصر الثورة في الجانب السياسي من جهة، والسعي إلى تجزئة قواها من جهة أخرى. تجزئة تحصل عبر تمليك الثورة للطبقة الوسطى وشرائحها العليا، وإثارة خوفها ممّن هم أدنى منها اجتماعياً، أي من الفقراء والعاطلين من العمل الذين بدأوا بطرح مطالبهم الاجتماعية والنضال من أجلها.
الحيلة نفسها شهدناها ونشهدها أيضاً في مصر. تأخر مبارك في تنحّيه، محاولاً جرّ كلّ طبقة النظام إلى مواجهة مفتوحة مع المعتصمين. وقد نجح، إلى حدّ كبير، في ما يتعلق بطبقة رجال الأعمال التي جلبها، بل أنتجها نجله جمال مبارك. الجيش، بما هو ممثّل للجناح العسكري/ الأمني، أجبر مبارك في النهاية على التنحّي، وقرّر التضحية بالجناح المدني الأضعف في النظام من أجل الحفاظ على حظوظه. وها هو الآن يتحدث عن الثورة المباركة التي يض حاولات التخريب والتعطيل، وهي في غالبيتها احجاجات اجتماعية وطبقية متصاعدة، تسعى إلى زيادة أجور، أو تثبيت أو تغيير علاقات القوة مع إداراتها، التي كانت حتى الأمس القريب جزءاً متنفعاً من النظام البائد.
المجلس العسكري المصري، كالغنوشي التونسي، يتحدث عن الثورة كأنه هو الذي أنجزها ولم تأت رغماً عنه، ويقدّم نفسه بوصفه هو القادر على تمييز الغث والسمين منها، كأنّه يعرف وجوه الثوار فرداً فرداً. كلاهما يتوسل لغة الكرامة والديموقراطية في حديثهما عن الثورة. حديث حقّ يراد به باطل، غايته فصل قوى الثورة وتفتيتها ووضع بعضها في مواجهة بعض.
لغة الكرامة هي لغة الثورة نفسها، اللغة التي استخدمها التونسيون والمصريون في احتجاجهم ورفضهم للطغيان والذلّ والعسف. شعاراتهم كانت شعارات كرامة وحق أخلاقي. ليس عبثاً أنّ البوعزيزي أحرق نفسه احتجاجاً على الإهانة والشعور بالعجز عن تحصيل حقه، وليس بسبب الفقر.
يحيل الشعار المركزي للثورات، «الشعب يريد إسقاط النظام»، إلى الهوية السياسيّة البرجوازية لخطاب الثورة. البرجوازية التي تعني الدولة الوطنية وفكرة المواطنة. البرجوازية هنا معنى سياسي، ولا تحيل إلى الجذور الاجتماعية للثورة. استعادت الثورات العربية الشعب إلى مركز الخطاب السياسي. خطاب صيغ حول الديموقراطية وحق الشعب في السيادة وسلطته على مصيره، لكن لديه أيضاً ما يقوله حول كرامة الأفراد وحرّيتهم واستقلاليتهم. إنّه أيضاً خطاب عن الفرد كذات أخلاقية وسياسية مستقلة. بهذا المعنى، الثورات الحالية هي ثوراتنا البرجوازية. هي تسعى إلى بناء الدولة لا إلى تحطيمها، إلى توسل الشعب لا طبقات بما هو ثورية.
البرجوازية وحدها، كما لاحظ كارل ماركس، تحيل إلى الشعب، وتجعل من نفسها الشعب بأكمله. ليس هذا انتقاصاً من راديكالية الثورات العربية، على العكس تماماً، فما ينقصنا هو «مؤسسات» ديموقراطية، وهوية وطنية و«مواطنون» بما هم ذوات سياسية وأخلاقية مستقلة وأفراد أحرار. بكلمة أخرى، الدولة البرجوازية نفسها.
لدينا الكثير من الديموقراطيات الشعبية التي آلت إلى مجالس مصفّقين، والكثير من الطبقية التي انتهت إلى بلطجية يحشدهم الحزب الوطني وغيره. وفي مقابلهم، قلّة قليلة استولت على الثروة الوطنية، والكثير من مشاريع التنمية الاشتراكية التي انتهت إلى مزارع للرئيس وعائلته ومحيطه من المتنفذين.
الخطر على الثورات الآن هو أن تتوقف عند السقف السياسي بأبسط أشكاله الحقوقية، كما كان يرغب رئيس الوزراء المصري السابق أحمد شفيق، مختزلاً إياها في حركة تغيير. عليها أن تستمرّ حتى تتمكن من حماية ما أنجزته الآن. لا يمكن هنا الاكتفاء بإصلاح سياسي أو تعديل دستوري، الثوار أنفسهم يعرفون هذا ويسعون إلى الحفاظ على الطاقة الثورية. لكن الحفاظ على طاقة الثورة هو بالضرورة تجذير للثورة. إنّ التغيير الذي تطرحه الثورة على نفسها لا يُنجز إلا عبر تغيير علاقات القوة السائدة في المجتمع كما في الدولة نفسها. لا يمكن الاكتفاء بإطاحة رئيس أو حتى حلّ حزب وترك المؤسسة البيروقراطية كما هي، وعدم النظر في وضع الجيش وعلاقته مع جهاز الدولة. ولا يمكن فعل كلّ ذلك بإهمال علاقات السلطة التي تسود في المجتمع وأماكن العمل والتوزيع المفرط في لامساواته للثروة. فرض تعديل أساسي وبنيوي على علاقات القوّة في المجتمع وجهاز الدولة، ضرورة من أجل بناء الدولة الديموقراطية نفسها، ومن أجل كسر شوكة بقايا النظام السابق مرة واحدة وللأبد، ومنع إعادة إنتاج شبيه للنظام الزائل.
لاحظ ماركس في معرض حديثه عن الثورة الفرنسية أنّ البرجوازية الفرنسية اعتدت على الحق المقدس لديها، أي حقّ الملكية، عندما انتزعت ملكية الأراضي من النبلاء. لقد اعتدت البرجوازية على قيَمها نفسها، غير أنّ هذا الاعتداء كان السبيل الوحيد للوصول إلى المجتمع البرجوازي. كسر شوكة النبلاء لم يكن ليكون إلا من خلال تحطيم عماد قوّتهم الاقتصادية، عبر الاعتداء البرجوازي على أقدس حقوق البرجوازية، الملكية.
ما يحصل مع الثورتين المصرية والتونسية (وسيكون على الأرجح مما يجب أيضاً على الثورات العربية اللاحقة أن تفعله) هو شيء مشابه. فمن أجل حماية مشروع الدولة الديموقراطية، عليها أن تحطّم علاقات القوة المستقرة حالياً داخل جهاز الدولة وتحمي نفسها باسم الدولة. كذلك عليها أن تفرض تغييراً جذرياً على علاقات القوّة في المجتمع، التي تحمي نفسها أيضاً عبر اللغة نفسها التي يفهمها ويقبلها الثوار.
البرجوازية السائدة (القطط السمان) لا تقبل أن تُفصَل عن جهاز الدولة الحالي وعن علاقات الفساد التي كانت سبباً لنشوئها. كذلك هي لا تمثّل القيم التي تسعى الثورة إلى تثبيتها، بل تدّعيها، تتخفّى خلفها لكنّها ما إن تشعر بقوتها، حتى تحطمها وتزدريها. فهي اغتنت على حساب الشعب، وبنت تسلطها وثروتها لا من خلال السوق البرجوازية (رغم كلّ لاعدالته)، بل من خلال الفساد الذي جمعها بجهاز الدولة. تحتكر قيادة الجيش المصري، هي الأخرى، قطاعاً هائلاً من الاقتصاد الوطني المصري، يستنفع منه أعضاؤها، كما يستفيدون من العقود والتسهيلات الأميركية الممنوحة لهم. يبقى ذلك كلّه خارج الرقابة، وخارج سلطة الدولة.
تجذير الثورة هو السبيل لحمايتها، أمّا التوقف الآن فلا يعني إلا مقتلها. وما يسعى إليه المجلس العسكري المصري وبقايا النظام التونسي ومن يقفون خلفهما، هو اقتصار الثورة على السياسة بأدنى أشكالها، وعلى الكرامة بحيث لا تمسّ بنية علاقات القوّة التي يتكئون عليها. لهذا يسعون إلى بثّ الشقاق في صفوف الثوار، وإخافتهم بالطبقات الدنيا والمغرضين والمخربين، وتعطيل الاقتصاد وأعمال الناس. لكن هؤلاء الناس، الذين يخرجون مطالبين بزيادة أجورهم وتغيير مديريهم، هم القوّة الحقيقة التي تسند الثورة وتتيح استمراريتها. ومطالب هؤلاء (على ألّا تغلب على الوجهة الواضحة وتشتت الجهود المنصبّة على تغيير بنية الدولة، تغيير السلطة السياسية في الدولة والظفر بالديموقراطية) هي الممرّ الإجباري لتحطيم علاقات القوة السائدة في المجتمع. يجب ألّا ننسى (وخصوصاً مع تضخم الخطاب السياسي حول شباب الفايسبوك) أنّ نقطة البداية للحركات الشبابية، كـ«شباب 6 أبريل» التي تقدّمت مع «كلنا خالد سعيد» إلى الصف الأول في الثورة، هي انتفاضة عمال المحلّة الكبرى. لم تكن هذه الثورات لتوجد من دون تراكم النضال العمالي والفلّاحي وانتفاضاتهم المستمرّة طوال العقدين الأخيرين. بل لم تكن لتدفع الجيش إلى فرض الأمر الواقع على مبارك، لولا الإضرابات العمّالية التي تسارعت منذ الأسبوع الثاني في مصر، من ودون المساهمة الحاسمة للاتحاد العام التونسي للشغل.
هي ليست ثورات جوع، لكن حذار أن تقتصر على الكرامة وحدها.

* باحث سوري مقيم في ألمانيا