دافعت الحكومة الفرنسية عن النظام في تونس حتى آخر لحظة، واتّسم الموقف الأميركي بقدر من التريث والانتباه إلى أنّ الوضع مقلق. لهذا دفعت واشنطن الى الصيغة التي تقوم على التخلّي عن بن علي، لكنّها تمسكت بأن يبقى رجاله في السلطة لقيادة المرحلة الانتقالية، مع إدخال بعض أحزاب المعارضة التي كان معترفاً بها، أي حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقاً) والحزب الديموقراطي التقدمي (الحزب الاشتراكي التقدمي سابقاً) وحزب لبرالي آخر.أدّت أحزاب دوراً في الانتفاضة (حزب العمال الشيوعي، وقواعد الحزب الديموقراطي التقدمي)، وكان هناك طيف واسع من الكادر الماركسي المشتّت نشط في فروع الاتحاد العام التونسي للشغل، وفي اللجان التي تألّفت تعبيراً عن «التنظيم الذاتي للانتفاضة». لكن تشتّت القوى الماركسية، والحساسيات التي تحكم العلاقة في ما بينها نتيجة تناقض التكتيكات في المرحلة السابقة من الصراع ضد نظام بن علي، أفسح المجال للقوى المساومة لأن تقبل القسمة الجديدة بحماسة شديدة. فحركة التجديد لم تشارك في الانتفاضة، وكانت مواقفها مهادنة الى أبعد الحدود (مع وجود قوى قاعدية فيها اتخذت موقفاً آخر). وبالتالي كان طبيعياً أن تقفز الى السلطة حين طُرح عليها ذلك. فهي لا تؤمن بطاقات الطبقات الشعبية، ولم تكن تعرفها أصلاً، وتعتقد بأنّ مشاركتها في الحكومة ستغيّر من طبيعة السلطة أو تحسّن من طبيعة الطبقة المسيطرة (البرجوازية المافياوية). وهي، أي الحركة، وافقت على إصلاحات بن علي ذاته ولم تطرح رحيله.
أما أحمد نجيب الشابي، فقد كان ينتظر، منذ زمن، اللحظة التي يصبح فيها شريكاً في السلطة، على أمل أن يحقق تغييراً عميقاً في المستوى الديموقراطي. هو لا يطرح مسألة تجاوز الرأسمالية أصلاً، منذ أن حوّل الحزب الى حزب ديموقراطي. ولقد قاد الحزب في هذا الاتجاه، معلّلاً ذلك بالتغيير من «الداخل»، ربما كما يفعل كلّ من يطمح الى المشاركة بالسلطة، بغضّ النظر عن طابعها. وهو أيضاً وافق على إصلاحات بن علي.
في المقابل، كانت قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل معيّنة من بن علي، أو على الأقل ليست في تناقض معه. وهي همّشت دور الاتحاد، ووضعته في سياق سلطوي، وبالتالي، ونتيجة ضغط القاعدة، حاولت تعميق التغيير، وأفلحت من حيث الشكل، لكنّها لم تطرح مطالب العمال الذين تعبّر عنهم.
لذلك، نجح الحلّ المطروح أميركياً، وما تحقق هو انفراج ديموقراطي أوسع، مؤقتاً (وهذه «المؤقتاً» مهمّة لأنّ الطبقة المسيطرة ستقضم ما تحقّق في المرحلة المقبلة). لكن الأهم هو ثقة الطبقات الشعبية بذاتها، وبدورها، ثم ستكون لذلك نتائج لاحقة في سياق تطور الصراع. فالحلّ الأميركي يعتمد على إيجاد شكل ديموقراطي ينفّس أزمة المجتمع من خلال «الكلام». لكن هذه وصفة الثمانينيات والتسعينيات، الناجحة في بلدان أوروبا الشرقية وروسيا، حيث الوضع مختلف جذرياً عما هو في بلدان مثل تونس ومصر وكلّ الأطراف. وبالتالي فإنّ الحل «الشكلي» لن يطعم خبزاً، أو يوفر فرصة عمل لطبقات جائعة. في مصر، وقفت البلدان الأوروبية مع تغيير حسني مبارك منذ البدء، وظلّت أميركا تدافع عن النظام، وتؤكد قوّته إلى ما بعد أسبوع على بدء انتفاضة «25 يناير». كذلك أظهرت واشنطن كلّ ما يفيد بأنّها تدعم سلطة مبارك، وترفض التغيير. لكنّها توصّلت الى أنّ الأمور في تفاقم، والوضع يسير نحو انفلات السيطرة، وأنّ الشارع يفرض بديله بعيداً عن دورها وحساباتها. لذلك، اندفعت بنحو جنوني نحو فرض التغيير، انطلاقاً من رحيل مبارك أو اختفائه، وتسلّم عمر سليمان السلطة، وحلّ مجلسَي الشعب والشورى، والحكومة، وتأليف حكومة مؤقتة، تشارك فيها «المعارضة»، و«ممثلو الشباب»، من أجل انتخابات جديدة وانفراج ديموقراطي.
فالولايات المتحدة واضحة في دعمها للطبقة المسيطرة، ولكلّ السياسات التي مارستها في العقود الماضية، وهي معنيّة بأن تبقى في السلطة، وألّا يصل إليها إلا من يتوافق معها. الأمر الذي دفعها الى التأكيد أنّ أيّ تغيير يجب أن يلتزم الموافقة على كلّ الاتفاقات الموقّعة، من اتفاق كامب دايفيد الى الاتفاقات العسكرية، الى التوافق السياسي مع سياستها العالمية. هذا الوضع الذي يحكم الموقف الأميركي، فرض التسارع في تحقيق تغيير مضبوط، كما جرى في تونس، إذ تستفيد واشنطن من كلّ النشاط «الأيديولوجي» والدعائي السابق، ومن موجة الدمقرطة التي أطلقتها من أجل حصر المسألة في «الرئيس»، المستبد، الذي بقي طويلاً في السلطة. أما السياسة الاقتصادية التي ترسمها الشركات الإمبريالية، والسياسات الإقليمية والدولية التي تتبع ذلك، فيجب أن تكون خارج البحث، ويجب استباق تصاعد الصراع لإيجاد حل يحافظ عليها.
بالتالي، جاء التدخل الأميركي من أجل ذلك، وليس حباً بالشعب المصري، أو أملاً في تحقيق نظام ديموقراطي، بعد دعم طويل لنظام فاسد وبوليسي. ولن تتورع من أن تعيد الكرّة، بعد أن يهدأ الوضع وتستكين الطبقات الشعبية، إذ إنّ النهب المفرط يفترض شكلاً من أشكال الدكتاتوريات، لا النظم الديموقراطية. ولهذا تراجعت مواقف باراك أوباما الصارمة بضرورة رحيل مبارك بعد أيام من طرحها. بدأ التراجع حينما شعر بأنّ مبارك استطاع أن يحجّم الانتفاضة ويحصرها في ميدان التحرير، قبل أن تتوسع إلى حركة إضرابات عمالية واسعة، تبعتها حركة إضرابات طالت موظفي الدولة. لكنّه عاد وضغط من أجل رحيله، خوفاً من سيطرة شعبية شاملة على الوضع، وبالتالي انضمام الجيش إلى الشعب.
لذلك، كانت المراهنة على دور الجيش، والصيغة التي يمكن أن تُخرج الصراع من مأزقه، نتيجة أنّ الطبقات الشعبية صمدت ولا تزال صامدة، لكن ليس لديها خطة للتقدم من أجل فرض التغيير. وما كان يجري هو انتظار حلّ «مقبول» يطرحه الجيش أو من يعبّر عنه. حلّ يفترض إما مشاركة قوى معارضة في حكومة تقوم بعد رحيل مبارك، أو تأليف حكومة انتقالية من أطراف في السلطة مدعومة من الجيش وأطراف معارضة (مثل الأحزاب الشرعية، الوفد والتجمع وحزب الجبهة، أو نصف الشرعية مثل حزب الغد، وأيضاً الجمعية الوطنية للتغيير التي يرأسها البرادعي، وبعض هيئات المجتمع المدني والشخصيات المستقلّة). حكومة تشرف على مرحلة انتقالية يُعدّ فيها دستور جديد، ثم تجرى انتخابات جديدة.
ولقد فرض الحلّ الذي جعل الجيش هو المتحكم بالمرحلة الانتقالية من دون تغيير حكومة أحمد شفيق التي عيّنها مبارك، الذي عمل على تحقيق أقلّ قدر ممكن من التنازلات (حتى استقال شفيق). هكذا حُصرت المسألة في رحيل حسني مبارك، واعتقال بعض رموز المرحلة الماضية، وتهميش الحزب الوطني، لكن مع إبقاء رموزه في الحكومة. فتحققت، لفترة، الخطة التي وضعها حسني مبارك، والقائمة على تعديل بعض مواد الدستور التي تتعلق بانتخاب الرئيس لا بصلاحياته، وحلّ مجلسي الشعب والشورى، وبالتالي الإعداد لانتخابات رئاسية وبرلمانية ف ي فترة ستة أشهر. ولا بد من ملاحظة أنّ هذه الفترة القصيرة لن تمكّن قوى الانتفاضة من أن تتنظم لكي تكون مهيّأة لانتخابات حرّة، وبالتالي ستكون النتيجة هي نجاح القوى المنظّمة أصلاً (الإخوان المسلمين) وبقايا الحزب الوطني، وبعض اللبراليين الذين برزوا في الإعلام، خلال السنوات الماضية. وعلى صعيد الرئيس، يبدو عمرو موسى هو الأوفر حظاً، وهو من صلب سلطة مبارك.
ما يمكن أن يعدّل في ذلك هو استمرار تماسك قوى الانتفاضة، وأقصد الطبقات الشعبية بالتحديد التي أظهرت قوّة هائلة وصموداً بطولياً، ودفعها إلى إسقاط هذه الخطة، وتأليف الحكومة الجديدة (برئاسة عصام شرف) قد يدخل في هذا الإطار. رغم غياب القوى الجذرية تماماً هنا، بدت المشاركة نشاطاً فردياً، لا بإعداد حزبي، أو رؤية واضحة. فقد كان الشك هو حاكم هؤلاء لإمكانية نجاح انتفاضة في هذا الوقت بالذات. والأسوأ هو الموقف المخزي لقيادة حزب التجمّع، برغم مشاركة أفراد منه في الانتفاضة منذ البدء، ومساهمتها في الدعوة إليها. وأظن أنّ الزمن قد تجاوز هذا الحزب، ويجب أن يصبح من الماضي. أما القوى الماركسية الأخرى، فقد اسهم بعضها في الدعوة إلى الإضراب يوم 25 يناير/كانون الثاني. كذلك شاركت فيها، لكن دون استراتيجية أو فاعلية، أو حتى الاستفادة في الدعاية لأهداف ورؤيات، أو محاولة تعميق الجانب الذي يهمّ معظم هذه الجموع الهائلة، أي من خلال التركيز على طرح المطالب التي تتعلق بالأجور والبطالة والفساد ونهب الطبقة المسيطرة، وبالدعوة إلى نمط اقتصادي جديد. وهو الأمر الذي بات يحصر المطالب في المطلب الديموقراطي، رغم أنّ انتفاضة الطبقات الشعبية انطلقت مما هو اقتصادي: البطالة والفقر والأرض والصحة والتعليم والتدمير الذي تحدثه الطبقة المسيطرة في كل مناحي الحياة.
إذن، الانتفاضة شعبية شاملة، والإخراج سيكون أميركياً ولن يقود الى تحقيق أي من أهداف الطبقات الشعبية. فقط متنفّس ديموقراطي، وهو متنفس قد يكون أقلّ كثيراً ممّا أراد الشعب.

* كاتب عربي