لا شك في أنّ الانتفاضات الثورية الشعبية التي تشهدها البلدان العربية، وفي مقدمتها مصر، سيكون لها الوقع الكبير، وبالأغلب الإيجابي، على الصراع مع إسرائيل. ولا شك في أنّها أحدثت ثورة سيكولوجية في الوعي العربي الجماعي (وهو وعي تعددي طبعاً) قد تمحو ما يزال عالقاً في النفوس من آثار نكسة 1967. فالنكسة لا تزال تمثّل بُعداً أساسياً لهذا الوعي العابر للأجيال، بالرغم من انكسار هيبة الجيش الإسرائيلي «الذي لا يقهر»، أمام صمود المقاومة في لبنان وفلسطين عبر السنوات، والانتصار المفصلي عام 2006. ذلك أنّ النكسة لم تكن مرتبطة فقط بالخسارة العسكرية، وعليه يمكن التغلب عليها بانتصار عسكري محدود ولو مدوياً. ارتبطت النكسة بانهيار مشروع الوحدة العربية وبأفول القومية العربية بما هي محرك أيديولوجي بقدر ما ارتبطت بالعجز عن تحرير كل فلسطين. النكسة، إذن، ليست هزيمة 1967 بحد ذاتها، بل ثقافة الهزيمة واليأس التي وُلدت من الهزيمة لكن ساهمت في ترسيخها وإعادة إنتاجها سياسات الأنظمة العربية التي تلت حكم عبد الناصر، والفكر النخبوي الذي بالغ في جلد الذات العربية بالحدّة نفسها التي بالغ الخطاب الناصري ما قبل الهزيمة في تبجيلها. وعليه، فإنّ تخطي النكسة يعتمد على العناصر المعنوية والمادية على حدّ سواء. وبالتالي، يحتاج ذلك إلى إعادة قراءة لماضي الصراع ورصد واقعي لحاضر الثورة، يُبنى عليهما تصوّر مثالي لمستقبل المقاومة. ويمكن البدء بوضع لبنات هذا التصور من خلال مقاربة علاقة الانتفاضات الثورية التي تجتاح المنطقة بالصراع مع إسرائيل عبر ثلاثة محاور.أولاً: فلسطين بما هي دافع أو هدف للثورة. «للقدس رايحين، شهداء بالملايين.» هكذا هتفت الجموع الغفيرة في ميدان التحرير خلال الاحتفال بسقوط مبارك يوم 17 شباط. نداء هدّار تقشعرّ له أجساد الحالمين بتحرير فلسطين المحتلة، ويثير ما يثير من آمال حول دور مصر وشعبها في مستقبل الصراع مع إسرائيل. وقد سارع العديد من شباب الفايسبوك وأصحاب الرأي وبعض القوى السياسية إلى ربط الحراك الشعبي بالقضية الفلسطينية، الى حد ادعاء أحد الأحزاب في لبنان أنّ انهيار الأنظمة العربية هو نتيجة تخلّيهم عن فلسطين. وهو ادعاء أقل ما يُقال فيه أنّه تسفيه للشعوب العربية تلك، ولطموحاتها بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، بمعزل عن تعاطفها مع فلسطين، وبمعزل عن لوم أنظمتها لتخاذل الأخيرة، بل ومشاركتها العلنية في حصار الشعب الفلسطيني وتجويعه، كما في الحالة المصرية. لكن ترجمة هذا التعاطف الى عدّه ركناً أساسياً من العمل الثوري هي قفزة فوق مراحل وتحديات عدّة لا ترتبط بمشاعر الناس وإدراكها لأهمية القضية الفلسطينية.
فلسطين، إذن، ليست محور الحدث بما هي دافع، والإصرار على عدّها أولوية بصفتها هدفاً عاماً قد يؤدي الى نتيجة معاكسة، عبر خلق تجاذبات وانقسامات بين قومية مصرية ثورية قيد التكوين وحماسة عربية زائدة في دول المواجهة، تتحوّل الى لوم وخيبة. وعليه، من الأجدى مقاربة الملف الفلسطيني لا عبر إسقاط كلام عام وبالجملة بل عبر الإصرار على تفكيك التحالف الإسرائيلي ـــــ المصري في كلّ أوجهه التفصيلية. هكذا، ينفرط عقد العلاقة، من دون الانجرار الى مواجهة عسكرية مبكرة غير مضمونة العواقب أو الانكفاء والتململ من تقاعس مصر عن أداء دورها الكامل. لذلك، الأجدى التركيز على استراتيجية ما يمكن أن يسمّى الحصار المضاد (فك حصار غزة ومحاصرة إسرائيل) إلى أن تتضح المعالم الحقيقية للنظام المصري الجديد وقدرته (ليس فقط إرادته) على خوض المعركة بكل أبعادها. وسيكون هامش المناورة المصرية مرهوناً أيضاً بجهوزية ما يعرف بمعسكر الممانعة وقدراته في ظل تداعيات الانتفاضات الشعبية عليه، ولو بعد حين، وهو موضوع المحور الثاني.
ثانياً: معسكر الممانعة وضرورة الإصلاح. لقد أدّت هجمات 11 ايلول وغزو العراق عام 2003 الى تبلوُر حادّ للمعسكرين المعروفين بمعسكر «الاعتدال» من جهة (أي الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما العرب كالسعودية ومصر والأردن وسلطة رام الله) ومعسكر الممانعة من جهة أخرى (أي إيران وسوريا وقوى المقاومة المسلحة كحزب الله وحماس). وتقف تركيا في مكان ما بين الاثنين. لن يختلف اثنان إذن على أنّ سقوط مبارك مثّل ضربة موجعة للمعسكر الأول. لكن تماسك معسكر الممانعة كان في جزء منه نتيجة بنيوية لوجود معسكر مناوئ ونتيجة سياسات أميركية وإسرائيلية متطرفة ووحشية. وكان غياب الديموقراطية والإصلاح السياسي والاجتماعي الحقيقي عن هذا المعسكر المقاوم يشفع له الغياب المزدوج للحرية والمقاومة عند الطرف الآخر (الأعور ملك بين عميان). أما وقد بدأت الدكتاتوريات التابعة للغرب بالتصدع، فبات لزاماً على قوى الممانعة أن تعيد النظر جذرياً بأدبياتها المتعلقة بالداخل. وقد تمثّل سوريا الخاصرة الأضعف في هذا المجال، نتيجة الغياب شبه التام لأي إصلاح سياسي جادّ، تليها إيران (تخيلوا إجراء استفتاء بنتائج تتعدّى 90% بعد اليوم). هذا مع العلم أنّ حركات المقاومة تعاني أيضاً عوارض مماثلة ولو بقالب مختلف وتحت ضغوط أكبر. فحزب الله متحالف مع أعرق وأعتق أميرين للحرب الأهلية وراعيين للطائفية السياسية ورمزين للفساد المؤسساتي المذهبي، وحماس تكاد تتحوّل إلى سلطة تصريف أعمال، لا مواجهة احتلال. لن يفيد إذن، بعد اليوم، شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» مع إسرائيل، فقد علا وأزبد صوت الشعب في المعارك ضد الاستبداد والفساد والحرمان، وكمّ أفواه الناس والوقوف في وجه مطالبهم المحقة تحت ذريعة مقاومة إسرائيل لن ينال إلا من هذه المقاومة ومكانتها عند الناس، لو صُورت كأنّها العقبة لهذا التغيير، وهي أبعد ما يكون عن ذلك. وهو ما يدعو إلى تجديد الفكر المقاوم نحو ما يمكن نعته بمعادلة المقاومة المتكاملة.
ثالثاً: العنف واللاعنف والمقاومة المتكاملة . إذا كان عقد التسعينيات عقد التفاوض و«السلام»، وإذا كان العقد الماضي عقد المقاومة المسلحة بامتياز، فيجب أن يكون هذا العقد عقد المقاومة المتكاملة بين الكفاح المسلح والكفاح المدني السلمي. فقد شهد عقد التسعينيات، ما بعد انتفاضة الحجارة، كلاماً كثيراً عن خيار التفاوض والسلام، وأدّى انهيار أوسلو إلى صعود نجم المقاومة المسلحة سبيلاً وحيداً لتحرير الأرض. لا شك في أنّ المقاومة المسلحة هي عماد أساسي في الصراع مع إسرائيل، لكن القول إنّها السبيل الوحيد أو الأنجع، بغضّ النظر عن المعطيات الميدانية (الصراع على حدود فلسطين ليس كالصراع داخلها)، هو كالقول بضرورة الابتعاد عن أي شكل من أشكال المقاومة العنفية. كلاهما يحدّ من خيارات المقاومة وحرية حركتها، في ظل ظروف ميدانية وجيوسياسية متقلّبة. وتؤكد الظروف الراهنة أنّ التحرير الكامل يعني تحرير الأرض إضافة إلى ـــــ وليس بديلاً من ـــــ إسقاط النظام الصهيوني العنصري المتمركز ضمن الخط الأخضر. وهنا، تؤسس الانتفاضات الشعبية لشرعية جديدة هي شرعية التحركات الشعبية الراديكالية لكن السلمية، وتتّصف هذه الاحتجاجات بأنّ راديكاليتها تكمن في مطالبها المثالية (تغيير جذري للنظام السياسي) وسبلها غير المؤسساتية وقيادتها الجماعية. وهي بذلك تصلح عماداً لمواجهة الأنظمة القمعية الدكتاتورية أو الاستيطانية العنصرية. ما الذي يمنع إذن حشد تظاهرات سلمية مليونية على حدود إسرائيل؟ لا يعني ذلك استنساخ التجارب في داخل البلدان العربية، بل يعني أخذ الكفاح السلمي الراديكالي (وليس الصُوري التي تمارسه قوى «الحوار» و«الاعتدال») على محمل الجدّ. فكما كانت المقاومة ضد إسرائيل في زمن التطبيع والتسليم مصدر فخر وإلهام لمن قالوا لا لحكامهم في زمن من يقولون نعم، فإنّ فلسفة المقاومة نفسها يجب أن يُعاد صوغها في ضوء العبر والدروس الميدانية التي أفرزتها الانتفاضات العربية الراهنة، حتى يكتمل ربيع الثورات العربية بتحرير ربيع الأرض العربية فلسطين.

* باحث لبناني