ليس مستغرباً أن يؤثّر تحرّك سياسي شعبي في أحد الأقطار العربية، في المزاج الشعبي العربي العام. ويزيد هذا التأثير عندما يكون هذا التحرّك ناجحاً. ويتضاعف فعله بالتأكيد، إذا امتدّ هذا التحرّك إلى غير بلد عربي، مسجّلاً انتصارات سريعة وباهرة في أكبر الدول العربية على الإطلاق، على نحو ما حصل في جمهورية مصر العربية. والتأثير والتأثّر المتبادلان هما أمران قائمان بين بلدان متباعدة، فكيف بالنسبة إلى البلدان العربية وشعوبها. فهنا، تقوم روابط وعلاقات قومية ومصيرية، تبيّن أنّها راسخة، وأنّها قد صمدت في وجه كلّ محاولات الإلغاء أو الشرذمة. فالشعب العربي الذي توحّدت يوماً طلائعه ضدّ التتريك، عاد وأكد توحّده حيال العديد من القضايا العامة مع التيار الجارف الذي أطلقه القائد العربي الكبير جمال عبد الناصر، في الخمسينيات من القرن الماضي. وبدورها، حالة المقاومة مارست فعلاً توحيدياً لا جدال فيه. فقد خفقت قلوب عشرات الملايين، في الأقطار العربية كافة، ابتهاجاً بالنجاحات والانتصارات التي تحققت في لبنان ضدّ العدو الصهيوني، وكان آخرها في صيف عام 2006.كذلك احتلّت قضايا استعادة المواقع والثروات العربية المنهوبة أو المصادرة وتحريرها، حيّزاً مهمّاً في النهوض التحرّري العربي. وقد حظيت التدابير المتخذة في هذا الحقل بتأييد شعبي هائل. نذكر من ذلك تأميم قناة السويس، واستعادة الثروة النفطية في بلدان عربية عدّة من أيدي الشركات الاحتكارية التابعة للدول الاستعمارية التي كانت تهيمن على المنطقة. ويتصل بذلك أيضاً ما اتُّخذ من قرارات اجتماعية شملت تأميم قطاعات اقتصادية أساسية وإقرار خطط تنمية وتصنيع وتوزيع الأراضي على الفلاحين الفقراء.
لقد تنامى الشعور القومي الوحدوي العربي مع تجذّر طابعه التحرّري سياسياً واجتماعياً، وحين ابتدأت مرحلة التراجع مع نكسة عام 1967، تبلور سريعاً مضمونها، وخصوصاً مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، في عملية ارتداد كاملة ذات مضامين سياسية واجتماعية، هي الأخرى.
كانت عملية فعل وردّ فعل في صراع متداخل محلي وإقليمي ودولي، استخدمت فيها كلّ الأسلحة والإجراءات التي كان أبرزها إعلان قوانين الطوارئ وتعطيل ما أحرز من بعض المكاسب الديموقراطية في بعض البلدان العربية. وقد شمل ذلك طرفي الصراعات العربية ـــــ العربية، كلّ بذريعة والنتيجة واحدة: مصادرة الحريات وضرب الحقوق الأساسية للمواطنين وتعليق الدساتير وترسيخ الاتجاه لإقامة سلطات مفروضة بقوة العسكر والقمع والأجهزة الأمنية والاستخباريّة.
لقد تلازمت في هذا السياق، تلازماً واضحاً ومتصاعداً، التنازلات أمام القوى الاستعمارية والإمبريالية والعدو الصهيوني، مع تردّي حقوق المواطن والعمل بقوانين الطوارئ، وكذلك مع التصفية التدريجية للتدابير الاجتماعية والتنموية في كلّ البلدان التي نعمت بهذه التدابير. وفي مجرى ذلك، تفاقمت، إلى درجة غير مسبوقة، إجراءات التمديد والتأبيد والتوريث ونهب الثروات الفساد. وانتفخت بدون رقابة أو حياء، جيوب قلّة من المافيات المالية والعائلية والعسكرية التي أنشأتها السلطات كأداة للنهب ولحشو جيوب وحسابات الحكام والمقرّبين بعشرات المليارات، على نحو ما كُشف أخيراً من أرقام خيالية في مصر وليبيا، والبقية أعظم.
من بين الإجراءات التي وحّدت السلطات العربية، ولو اختلفت الأسباب أو الذرائع، تعليق الدساتير أو إلغاؤها والعمل بالأحكام الاستثنائية. وتمرّ السنوات بل العقود، ليستمرّ هذا الوضع إلى المستوى المخيف الذي شهدناه قبل الانتفاضات العربية، في مطلع السنة الجارية. أما في لبنان، البلد الذي جرت فيه المحافظة على شيء من الممارسة الديموقراطية، فقد اتخذ شكل الاعتداء على الدستور صيغة تعطيل العمل ببعض أبرز بنوده، وخصوصاً البنود الإصلاحية التي كانت قد أُقرّت في اتفاق الطائف عام 1989، وتكرّست في الدستور بعيد ذلك.
ليس صدفةً إذاً، أنّ الانتفاضات في تونس ثمّ في مصر قد حصلت بعد توجّه النظام التونسي نحو التجديد، خلافاً للدستور، للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وسعي النظام المصري إلى اعتماد التوريث، وسط وقاحة لا مثيل لها في تزوير الانتخابات الأخيرة، فيصبح التوريث أمراً مستوفياً لكامل شروط «الشرعية» البوليسية، وكذلك الأمر في اليمن.
لقد سعى البعض، من الخارج أو من الداخل، إلى تصوير الوضع العربي عصيًّاً على الديموقراطية، والشعب العربي، بسبب الاستبداد القديم أو بسبب الدين الإسلامي (وهو دين الأغلبية العربية الساحقة) غير مهيّأ لممارسة الديموقراطية ولنيل الحقوق الطبيعية. ولقد جرى اختراع أو اشتقاق نظريات تدّعي أنّ ما يصحّ في الغرب لا يصحّ في الشرق. اجتهد في هذا السبيل حكام ومرتزقة. واستغلّ الصهاينة هذا الأمر على نحو كامل، من أجل تصوير إسرائيل واحة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط الذي يتحكّم فيه الاستبداد. ولاحقاً، جرى الربط في سياق «الحرب على الإرهاب» ما بين حركات التحرير وحتى الدين الإسلامي نفسه، وبين اللجوء إلى العنف. رافق ذلك تجهيل متعمّد لسبب هذا العنف الذي يتبلور أحياناً في صور عبثية أو إجرامية كردّ فعل على ظلم مزمن، وعلى قمع وعلى انحياز وعلى فقر وعلى قمع وإرهاب السلطات، التابعة في أكثريتها للمستعمرين والنهّابين والغزاة والمغتصبين.
إنّ الانتفاضة الحالية، التي تجاوزت المتوقّع والمحسوب من جانب السلطات المحلية وأسيادها في الخارج، ستكون بالتأكيد مرحلة في مسار تحرّري متصل الحلقات السياسية والاجتماعية ذات الطابع التحرّري. ويكفي في هذا السياق أن نشير إلى ما ينتاب الصهاينة من هلع بسبب المتغيّرات. وكذلك إلى مسارعة المنتفضين في أكثر من بلد عربي إلى طرح مسائل الأجهزة ودورها والفساد والمستفيدين منه، لتبدأ، في وهج الثورات نفسها، عملية محاسبة رائعة تقودها جماهير واعية ضدّ رموز وأجهزة وأوكار تجسّس وتعذيب وتسلّط وهدر وفساد.
إنّ الانتفاضات التي يمكن أن نصفها بأنّها ثورات دستورية، قد وضعت الإصبع على الجرح: فمقاومة الاستبداد هي المقدّمة الطبيعية لإطلاق مسيرة تحرّرية ستتكامل تباعاً في اتساعها وفي تجذّرها، ملقية في سلّة المهملات، ليس فقط رموز الاستبداد، بل أيضاً كلّ النظريات التافهة التي كانت تحاول إظهاره باعتباره طبيعة عربية أو شرق أوسطية خاصة. ويمثّل الوضع اللبناني في المسار المذكور حلقة مميّزة وإن لم تكن تخرج على هذا السياق إطلاقاً.
ففي بلدنا، تنوّعت التناقضات إلى درجة سريالية أحياناً. إذ أدّت ظروف تاريخية معروفة إلى إلباس جزء من الصراع السياسي والاجتماعي طابعاً طائفياً، فمذهبياً. وجرى تكريس ذلك مبكراً في نظام سياسي يتغذّى دائماً بسياسات وإجراءات وممارسات المستفيدين ممّن لا يتورّعون، كسواهم من الحكّام، عن التضحية بمصالح وحقوق الوطن والمواطن، خدمة لمصالحهم ولمصالح أسيادهم في الخارج.
ورغم ذلك، فقد حقّق الشعب اللبناني إنجازات باهرة في حقول عدّة، أبرزها حقل المقاومة والتحرير. وقد كشف ذلك المزيد من تناقضات وسلبيات النظام الذي أصبح يهدّد هذه الإنجازات كما يهدّد الاستقرار والسيادة والوحدة ولقمة عيش المواطن.
إنّ التحرّك اللبناني هو حلقة أكيدة في المسار التحرّري العربي. هو، كما ذكرنا آنفاً، يستفيد من النهوض العربي، لكنّه يمتلك أيضاً ديناميته الخاصة التي يجب تطويرها بجهود كلّ القوى الحريصة، وبمشاركة شعبية لن يقنعنا أحد بأنّها ممكنة في كلّ العالم ومستحيلة في لبنان.
* كاتب وسياسي لبناني