كشفت الانتفاضتان التونسية والمصرية أنّ العلاقات المشبوهة لبعض أقطاب الطبقة السياسية الفرنسية مع دكتاتوريّتَي مبارك وبن علي، كانت تتجاوز الدعمَ السياسي الانتهازي إلى الانتفاع الشخصي. فوزيرة الخارجية السابقة، ميشيل إليو ـــــ ماري، سافرت في الطائرة الخاصة لأحد أقارب أسرة الرئيس التونسي السابق، والوزيرُ الأول، فرنسوا فيّون، لم يتردّد في قبول عروض ضيافة الدولة المصرية إبّان زيارة قام بها إلى مصر برفقة عائلته لا كرئيس للحكومة. قد يدفع الرئيس الفرنسي، على الصعيد الانتخابي، ثمناً باهظاً للتورط الشخصي لاثنين من مقرّبيه مع نظامَي الرئيسين المخلوعين، لكنّه بالتأكيد بدأ يعاني عواقب دعمه السياسي لهما. أهمّ هذه العواقب انهيارُ أحد أعمدة ديبلوماسيته، الاتحاد من أجل المتوسط
، الذي ترأسته مصرُ مبارك (بالاشتراك مع فرنسا) حالَ تأسيسه، وكانت تونسُ بن علي تتأهب لاستقبال مقر أمانته. لا يبدو أنّ صحيفة «El Pais» الإسبانية (7 فبراير/ شباط 2011) بالغت كثيراً وهي تصف هذا الانهيار بـ«غرق ساركوزي المتوسطي». وليس أدلّ على حقيقة هذا الغرق من أنّ موقف الاتحاد من انتفاضات الشرق الأدنى والمنطقة المغاربية، رغم كلّ ما تَعِدُ به من تغييرات للخريطة الجيوسياسية المتوسطية، بعيدٌ كل البعد عن الصراحة والوضوح.
ولا يقتصر الاقتناعُ بمأزق الاتحاد من أجل المتوسط (28 دولة أوروبية و16 غير أوروبية، معظمها من المنطقة العربية وإن كان بعضها غير متوسطي كموريتانيا والأردن) على جريدة كـ«El Pais»، فهو يشمل حكومة ساركوزي اليمينية. إذ اعترف أحدُ أعضائها (وكالة الأنباء الفرنسية، 12 فبراير/ شباط 2011) بأنّ هذا المشروع «ضحيةٌ جانبية لسقوط اثنين من أساطينه، مبارك وبن علي». كذلك يشمل الاقتناع البرلمانَ الأوروبي، الذي كان متحفظاً على الاتحاد، إذ دعا الرئيس الفرنسي، في لائحة صوّت عليها في 17 فبراير/ شباط 2011، إلى ما لا يطيق سماعه، أي «أداء دور أنشط في ترقية الديموقراطية وحقوق الإنسان».
وأكّد انتهاء حكم مبارك وبن علي أنّ «الفكرة المتوسطية»، العزيزة على ساركوزي، قوامُها دعمٌ مقنَّع لأنظمة استبدادية تحمي مصالح أوروبا مقابل إضفاء هذه الأخيرة عليها بعض ما ينقصها من شرعية. يجري ذلك عبر إشراكها في مخططات بعيدة الأمد، كالتوحيد الاقتصادي للمنطقة المتوسطية و«محاربة التطرف الديني» فيها وتسوية مسائلها السياسية العالقة، وخصوصاً المسألة الفلسطينية. ويظهر هذا الدعمُ في أجلى صوره له في بيان ميلاد الاتحاد (13 يوليو/ تموز 2008) وتطرُّقه المستعجل المقتضب إلى الديموقراطية وحقوق الإنسان، ما يعني عدم اعتبارهما من أولويات «البناء المتوسطي» مقارنةً بـ«مكافحة الإرهاب» مثلاً أو حتى «التلوث البحري». ويُشار إلى أنّ هذا الموقف يُعدّ تراجعاً عن مواثيق مسار برشلونة، التي تبقى، رغم طابعها الشكلي، مرجعاً مهمّاً للمنظمات الحقوقية في حملاتها التي تُدين دَوس أوروبا «مبادئها» حالما يتعلق الأمر بحماية مصالحها في جنوب المتوسط وشرقه.
وبقدر ما تُذكِّر انتفاضاتُ الشرق الأدنى والمنطقة المغاربية بعلاقات أوروبا المُريبة بأنظمة هاتين المنطقتين، تفرض على الحكومات، التي قد تولد من رحمها، إعادةَ تأسيس العلاقات السياسية والاقتصادية مع هذه الكتلة ككل، ومع كل عضو من أعضائها على حدة. تهاوي الدعائم التي استندت إليها هذه العلاقات بدءاً من 1995 (تاريخ انطلاق مسار برشلونة) يوجب بناءها بناءً لا تتكفل به أوروبا وحدَها، على أساس من مخاوفَ أمنية (الإرهاب) أو عنصرية (الهجرة السرية) ومطامحَ اقتصادية أنانية (فرضت هيمنتها على الاقتصادات غير الأوروبية بتعميق تبعيتها لها) واستعمال «معونات التنمية» المقدمة إلى بعض بلدان ضفتي المتوسط الجنوبية والشرقية لابتزاز حكوماتها والحصول على امتيازات اقتصادية وجيوسياسية.
ورغم عدم تناسب الوزن الاقتصادي لدول المنطقة العربية المتوسطية مع الوزن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، لديها من وسائل الضغط ما يمكّنها من إعادة تحديد علاقاتها به بما يحقّق مصالح شعوبها لا مصالح رأسماليته التوسعية. ومن أهمّ وسائل الضغط هذه تحكّمُ دولتين كالجزائر وليبيا (ليستا بحاجة إلى الرساميل الخارجية) في جزء لا يستهان به من واردات أوروبا البترولية والغازية (الغاز الجزائري يمثّل حوالى 15 بالمئة من استهلاكها) واحتمالُ تحكّمها مستقبلاً في وارداتها الطاقوية الأخرى (الكهرباء الشمسية). وكذلك تحكّمُ دولة كمصر في أحد شرايين التجارة العالمية، قناة السويس. من هذا المنطلق، لا مانع منطقياً، بعد انكشاف جور الاتفاقيات التي تربط هذه الدول بالاتحاد، من إعادة التفاوض بشأنها، بما يُحوّل «أتباع» أوروبا إلى «شركاء»، و«مناطقَ نفوذها» إلى كيانات ذات سيادة، تطمح إلى قطيعة جذرية مع وضعها الحالي كسوق كبيرة للسلع والتكنولوجيا الأوروبية.
* صحافي جزائري