ضربة واحدة كادت تطيح نظام الحكم الفرنسي، ورئيس البلاد فرنسوا هولاند عبر الهجمات التي ضربت العاصمة الفرنسية، وتبنتها الدولة الإسلامية ــ داعش، لكن زهاء خمس سنوات من الصراع، سقط خلالها عشرات آلاف الشهداء من الجيش العربي السوري وحلفائه، لم تستطع إسقاط النظام، ولا رئيسه بشار الأسد. غالبية الدول الغربية ما انفكت تطالب برحيله، وخصوصاً فرنسا.
مفارقة عجيبة، لكنها مطالبة مجهضة، من الغريب أن يدعي مطلقوها أنهم لا يدركون خطأها واستحالتها. فالسلطة تنبع من فوهة البندقية، مقولة لا بد أن الغرب يعرفها بدبلوماسيته وأكاديمييه وخبرائه.
والمطالبة برحيل الأسد أشبه بعملية هروب إلى الأمام، يتخبط فيه تحالف الدول الغربية، ولفيفه، ليؤكد عبر هذه المطالبة بالرفض غير المباشر للحل السوري، حيث فشل في تحقيق شعاراته التي بدأ يطلقها منذ بداية الأحداث السورية ٢٠١١، وعلى رأسها رحيل الرئيس الأسد.
بعد خمس سنوات من الصراع، تترسخ معادلات التصاعد لدول الحلف الشرقي عقب دخول روسيا على الخط بقوة دفع أثمرت تقدماً ملحوظاً للجيش السوري، وحلفائه في حزب الله، وقوى أخرى على أرض الواقع في الميدان السوري. بينما يبدو الحلف الغربي فاقداً لزمام المبادرة، متخبطاً في مأزقه، كل ما يسعه هو تأمين مزيد من الرجال المستعدين للموت والانتحار، وأسلحة تزداد تطوراً بين معركة وأخرى، يرفد بها قوى المعارضة المسلحة في سوريا. والحلف الغربي غير ممتلك لأي طرح واضح وجليّ إلا... الفوضى.
عقب هجومات باريس الأخيرة، تتصاعد نبرة فرنسية وبريطانية على لسان مسؤولين رفيعين فيهما ــ رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ونظيره الفرنسي مانويل فالس ــ تشير إلى أن الهجمات تم التحضير لها في سوريا، من دون الإشارة إلى من وأين في سوريا. يهدد الرئيسان بالتدخل، ويقول كاميرون إنّ تدخله سيكون فورياً، على أن يبلغ البرلمان في ما بعد، فهو يعرف أن البرلمان قد لا يعطيه حق التدخل في سوريا، ولذلك قد يتخذ خطوته من دون العودة إلى البرلمان.
الروسي لا تحتمل أوضاعه
ولا استراتيجيته خسارة
حليفه السوري


فالس أشار إلى أن الاعتداءات دبرت وخطط لها في سوريا. ووزير خارجيته لوران فابيوس يكرر الموقف الفرنسي أن لا توافق على مصير الرئيس السوري بشار الأسد.
الرئيس الروسي بوتين يحضر للرد بإعلان أن النتائج لفحوصات آثار من الطائرة الروسية المنكوبة في مصر، شارفت على الظهور.
منذ مئة عام، كانت الحرب العالمية الأولى مندلعة بقوة بين دول الغرب في صراع سيطرة على العالم. كان الغرب الرأسمالي في عز قوته وتصاعدها، مزخماً بتنامي مفاعيل الثورة الصناعية، وحاجتها إلى أسواق العالم. دول الغرب كانت فتية وقوية وصاعدة. بعد مئة عام، تلوح في الأفق بوادر مواجهة عالمية. لكن العجوز الغربي يحاول التدخل وهو مترهل، لا يستطيع الدخول في حروب مع قوى قوية كروسيا وإيران والصين. هو مأزوم، وتجرّه أزمته لعمل ما، يحفظ فيها ماء وجهه، ويدافع عما تبقى له من مصالح في العالم.
ومنذ أن أفلتت «الدولة الإسلامية» من عقالها، وانطلقت نحو الشمال العراقي، أطلق الغرب تحالفاً لمواجهة «داعش»، وراحت القوات المتحالفة تشن هجمات أشبه بالزكزكة لـ»داعش»، فنما الأخير، وقويت شوكته، وتمددت قواه، وبات متدخلاً في سوريا بقوة، وفي أنحاء من العالم. الضربات الغربية للتنظيم ــ النسخة الثانية من «القاعدة» ــ الذي ولد على أيدي أربعة ضباط عراقيين كانوا مسجونين في السجون العراقية التي كانت في حينه تحت الإشراف الأميركي، لا يمكن أن تكون قاصمة لتنظيم تأسس في عهدتها. ثم جرى تدعيم «داعش»، وكذلك بقية التنظيمات المسلحة المعارضة في سوريا، ورفدت بالمقاتلين، وبالأسلحة المتطورة، فشكل الدعم، المعروف المصادر، إرباكاً كبيراً للنظام وحلفائه، وتمكنت التنظيمات المعارضة من التمدد في بقع لم تستطع الوصول إليها سابقاً، وخصوصا في الشمال السوري، مهددة اللاذقية، ومسقط رأس الرئيس بجوارها.
الروسي، لا تحتمل أوضاعه ولا استراتيجيته خسارة حليفه السوري، وإلا تقوقع في بلده، تهدده التنظيمات المتمددة عبر دول آسيا الوسطى. تصاعدت العمليات التي اتفق على تسميتها الأعمال الإرهابية عالمياً، ودخل الروسي على الخط لضرب «الإرهاب» كحق مشروع عالمياً لمن يريد ذلك، لكن الروسي جدي موجع في ضربات متلاحقة، سرعان ما ظهرت مفاعيلها على الأرض تقدماً للجيش السوري وحلفائه، واستعادتهم لعدد من المناطق الحساسة.
القوى المدعومة من التحالف الغربي تتراجع، والغرب لا يستطيع التقدم مباشرة لنصرتها، والجيش السوري وحلفاؤه يتقدمون، والأميركيون ينسحبون في السنة الأخيرة من الولاية الثانية لرئيسهم، ولا يسعهم التدخل ــ ذلك لو كان باستطاعتهم التدخل أساساً.
الروس وحلفاؤهم يتقدمون في سوريا، حيث يرتسم العالم الجديد ــ الغامض الأفق، مع تحالف متنامي القوة اقتصادياً وعسكرياً، والغرب مرتبك، فاقدة أطرافه الثقة بعضها ببعضها الآخر. «نمو الدول الأوروبية اقتصادياً صفر ولا يعوّل عليها»، على ما يصفها الرئيس الأميركي أوباما الذي لا يملك مقومات استراتيجية واضحة في السنة الأخيرة من ولايته، ولم تتهيأ لبلاده مشاريع إنعاش لاقتصاد متخبط، لا في آسيا ــ الباسيفيك، ولا في الشرق الأوسط.
الخصوم الآسيويون يتقدمون، والغرب متراجع، مترهل، مأزوم. من الطبيعي أن لا يكون «الستاتيكو» الذي بلغته ميادين الصراع العالمية الحامية متناسبة مع المصالح الغربية الأميركية والأوروبية وحلفاؤها من دول. في هذه الأجواء، يتصاعد التوتر بعيداً عن الميدان الرئيسي في سوريا، فتتفجر الطائرة الروسية، وتقع أحداث برج البراجنة، وتتلوها هجومات باريس. واضحة معالم التوتير الناجمة عن ثقافة «الفوضى الخلاقة» التي رسختها الاستراتيجية الأميركية لتحالفها، ونفذت في ضوء هذه الثقافة اجتياح العراق، وفعلت الأحداث التي أعقبت ذلك.
قبل وقوع الخسارة المطلقة بقليل، أي الحسم السوري، يتفجر عدد من الساحات، وتتعمم الفوضى حيث لا يسع التحالف الغربي المترهل التدخل المباشر بعد فشل تدخله بالوكالة. تتصاعد نبرة التدخل الفرنسي والبريطاني في سوريا، وتتصاعد المطالبة برحيل الأسد. أجواء تريد أن تقول الوداع لفيينا، المؤتمر الثالث لحل الأزمة السورية، لأنه بنظرها لم يحن الوقت المناسب لها للحل، وتداعيات ذلك تعميم الفوضى التي لا نزال في بداياتها.
* كاتب لبناني