شاهدنا أخيراً، عبر الإعلام الغربي، الكثير من النساء في شوارع مصر وتونس، كما سمعنا العديد من التساؤلات عن «مكانة» النساء العربيات ودورهنّ في الثورات الحالية. ما دوافع هذه الرغبة الغربية الدفينة، في اصطياد وجوه النساء يبن الحشود، وإبرازها في الصور؟ وما علاقة هذه التساؤلات، عن دور المرأة العربية في الثورة، بنا كنساء مقيمات في الغرب، تتعدّد اختلافاتنا الطبقية والعرقية والقومية والوطنية والدينية؟ كيف نتغلب على الصمت الناتج من الشعور المتكرر بأنّنا رموز، تحمل عبء معاني الديموقراطية الليبرالية؟ وكيف يمكن أن تسهم قراءة نسوية، تُعنى بهويتنا، في كتابة تاريخ ثوري أكثر إنصافاً لدور المهمشين وتأثيرهم فيه؟نتناول هذه الأسئلة، في هذا المقال، عبر تحليل نسوي لقضية هشاشة الهوية العربية ـــــ وخاصة النسائية ـــــ في المهجر، كما نعيشها في أميركا الشمالية. تؤثر الأحداث السياسية في العالم العربي، فينا في المهجر، من خلال تداخلها في هويتنا كما نعيشها، وكما تُصوّر لنا، من خلال العدسة الغربية. لذلك، فإنّ مشروعنا النسوي هو إدخال قرائتنا النسوية لعملية تأريخ هذه الفترة، التي يعيشها العرب أجمعون، وتدوين علاقتنا، كنساء في المهجر، بهذه الثورات الشعبية بأقلامنا.
نُعرّف التحليل النسوي برفضه التعامل مع قضايا النساء من منطلق كمّي، يهتمّ فقط بالتمثيل الصوري لدور النساء، ونعرّفه بالفكر النسوي الذي يتطرق إلى كلّ الأبعاد الاجتماعية والسياسية والنفسية للحدث. ينطلق هذا التحليل من منظار يرفض السلطة الأبوية، بجميع صورها، ويلقي الضوء على إعادة إنتاجه في الفكر والعمل الاستعماري، العنصري والرأسمالي.
لا يهدف انتقادنا الى تهميش دور المرأة العربية في العمل السياسي والاجتماعي الثوري، لكنّنا ننتقد سيطرة الأجندة النسوية الغربية، واحتكارها للخطاب العام، بشأن موضوع مشاركة المرأة العربية في الثورات الحالية.
الهوية هي علاقة الإنسانة بمحيطها، وعليها ترتكز مشاعر الانتماء. بناءً على ذلك، الهوية دائماً متغيرة وتعتمد أبعادها على السياقات المختلفة كالعائلية، والجندرية، والطائفية التاريخية والثقافية والمكانية، لذلك، فإنّ طبيعة الهوية مطاطة، وتخترق حدود التعاريف السائدة. نخرق، كنساء عربيات مقيمات في المهجر، التعاريف والمفاهيم الغربية، يومياً. لكن في هذه اللحظة الحاسمة، تتغيّر العوامل التي تبلور السياق الذي نواجهه بطريقة واضحة.
عقب ثورات ليبيا وتونس والبحرين واليمن، لاحظنا تغييراً في أربعة جوانب للخطاب عن الهوية العربية. لا يعني ذلك أنّ هويتنا تبلورت مع هذا التغيير، لكنْ هنالك تغيّر ملحوظ في شروط السياق الذي من خلاله ننتج، ونفكك لنعيد من جديد إنتاج هويتنا في المهجر.
أولاً، تتحدى الثورات العربية ضد الاستبداد، تمثيل الإعلام الغربي السائد للتغيّرات السياسية في الوطن العربي. لقد استغل الإعلام الغربي، مسبقاً، القمع الدكتاتوري والملكي ـــــ الموالي للدول الغربية ـــــ لعرض صورة مبسطة عن واقع الشعوب العربية. فصوّرت هذه الشعوب كمستضعفة، متخلفة ومقموعة سياسياً واجتماعياً، لعدم تحدّيها الأنظمة الحاكمة (على سبيل المثال، الخطاب الأميركي، عقب الحرب على العراق واستعماره، وأداء الولايات المتحدة دور المنقذ للشعب العراقي «المقموع»). وفي الوقت نفسه، صوّرت الصحافة الغربية أيّ تحدٍّ أو انتقاد صريح، عربي داخلي، للأنظمة الظالمة الحاكمة، على أنّه إسلامي وأصولي وهمجي (على سبيل المثال، تعميم فكر أصولي إسلامي على كلّ من انتقد الحكم المخلوع في مصر).
تحدّت التجربتان، المصرية والتونسية، هذه الاعتبارات الغربية الإعلامية. لم يكن من الممكن تجنب تغطية الأحداث بسلميتها وبتنوع مطالب متظاهريها، وخصوصاً بغياب مشروع إسلامي واحد، أو شخصية واحدة، يسهل تبسيط مفاهيمها بالتعاريف الغربية المعتادة. بالنسبة إلينا، كمشاهدات للأحداث، شعرنا بوجود حيّز أوسع في الخطاب الإعلامي، جراء هذا التحدّي غير المتعمّد.
ثانياً، أدّت الشعوب العربية دوراً قيادياً لتغيير مصيرها، وتعديل الخارطة السياسية للمنطقة، والعالم ككلّ. فمن يستطيع التنبّؤ بمصير موازين القوى، اليوم، بعد مرور بوارج إيرانية حربية في قناة السويس ووصولها إلى البحر المتوسط، وشواطئ سوريا بالتحديد؟ جعلت الثورات العربية الشعب العربي لاعباً أساسياً في لعبة الدول العالمية. والأهم من ذلك، أنّ المواطن العربي والمواطنة العربية غيّرا في الخطاب الداخلي للهوية العربية المهزومة بخيباتهما التاريخية. كان السياق الذي يعرّف هويتنا العربية، ملوّثاً بالخمول والاستسلام، لكنّنا نشاهد عودة آملة للمبادئ المثالية ولمواقف جريئة فعّالة، لتحديد المستقبل بأيادينا.
ثالثاً، نشهد اليوم نوعاً من التماهي الجديد، من جانب الشعوب الغربية مع الشعوب العربية. وربما يعود ذلك إلى الاعتصامات السلمية في مصر، واستعمال المصريين التكنولوجيا التي يعدّها الغرب من رموز الحضارة. فجأةً، بات العربي إنساناً يشبه الغربي في نمط حياته واستعماله فايسبوك وتويتر. فجأةً، ترقّى دمّ العربي في سلم الإنسانية، تاركاً وراءه، في نظر الغرب، فقراء الجنوب. نقول هذا وفي الوقت نفسه، تُهدر دماء العراقيين والفلسطينيين واللبنانيين والسودانيين، ولا تزال دموع أمهاتهم تُذرف. يتجسد هذا النفاق في جدلية نظرة الإعجاب الغربية بالثورات العربية، فيما نشهد، في الوقت ذاته، عملية تصنيف للعربي الجيد من العربي السيّئ، فيعرّف الجيد من خلال جودة خدمته ومناصرته للغرب. نشهد هذا التماهي مع العربي المصري ونبتسم، لكنّنا ندرك أنّ وجود البوارج والمعسكرات الأميركية في البحرين وشواطئ ليبيا يؤكد محدودية هذا التماهي.
بالنسبة إلى هويتنا كنساء في المهجر، نستطيع أن ندرك هذا النفاق، وأن نرى، في الوقت ذاته، المساحة الجديدة في الخطاب الغربي المخصصة للإنسان العربي.
رابعاً، تعكس التجربة الليبية هشاشة الهوية العربية. يتميّز تسلسل الأحداث في ليبيا بسرعته وزخمه. فمثلاً، في خلال أقل من أسبوع، شهدنا قتل المئات من متظاهري الحرية، تفوق أعدادهم قتلى تظاهرات مصر، لكن حتى الآن لم نشهد تنديداً عالمياً قوياً أو تعاطفاً مع الشعب الليبي. ولعل هذا الصمت أساسي في تراتبية عنصرية أو نفور من متظاهري ليبيا وخطابهم المختلف عن الخطاب المصري؛ فالكثير من متظاهري ليبيا، مثلاً، مسلحون. إضافةً إلى ذلك، تغيّب النساء في ليبيا عن شاشات الإعلام يُعطي صبغة رجولية عصابية، لنوعية التظاهرات، كما أنّ تمسّك المتظاهرين بشعارات دينية، يثير الخوف لدى الدول الغربية من نوعية التغيير الذي يطلبه المتظاهرون، في عصر تتفشّى فيه العنصرية ضد العرب والإسلاموفوبيا. فهذه العوامل، التي تجعل من الصعب على الرأي العام العالمي التعاطف مع الليبيّين، وتترك النقاش فقط على مستوى رؤساء الدول المستثمرة في نفط ليبيا، تُظهر نفاق العديد من شعوب الدول الكبرى. وبالتالي، تحاول نوعية الخطاب الغربي السائد أن تفرض علينا أن نتخذ موقفاً حذراً من التماهي مع نداءات شعبية، عُرّفت بالإسلامية أو الدينية. كذلك يدل ترقبنا لنصر الثورة الليبية، على خوفنا من الهزيمة، التي لها، بالتالي، دور في إضعاف هويتنا كعربيات، فيما نحاول التشبت بانتمائنا إلى مجتمعاتنا العربية على اختلافاتها.
جعلتنا نساء مصر وتونس نشعر بأنّه لا مكان الآن لفرضيات الغرب بشأن عدم تسيّس النساء العربيات، أو عدم فهمهن للسياسة، وعدم قدرتهن على قيادة ثورة لأنّهن يعشن في مجتمعات أبوية. وجعلتنا تلك النساء نفضح قوة عنصرية الفكر الأبوي الاستعماري الغربي، لا بل عدم صدقيته. واليوم، يجعل الليبيون الشعب العربي فخوراً من جهة، ومحط الانتقاد الغربي والتدخل الأميركي الاستعماري، من جهة أخرى. كل ذلك يضع قضية الهوية العربية المهجرية بين الفخر والقهر أمام المجتمعات الغربية، ليؤكد لنا هشاشة هذه الهوية. نعيش، كنساء عربيات، في قلب الاستعمار والاحتكار والرأسمالية والعنصرية. ولطالما رفضنا استضعاف المجتمعات الغربية لنا، ونقاوم اليوم الخطاب الإعلامي الغربي الذي يجعلنا نشعر بالفخر تارة، والقهر تارة أخرى. اليوم، نعلن تمسكنا بما جاد فقراء العالم العربي به، وهو رسالة عنوانها: مقاومة القمع بشتى صوره.

* نيروز أبو حاطوم باحثة فلسطينية وطالبة دكتوراه في علم الإناسة في جامعة يورك في كندا
ديانا يونس محامية وكاتبة لبنانية مقيمة في كندا