ما حققته الثورة المصرية المتفجرة فاق كل التوقعات. فقد تمكنت الثورة من حشد الملايين من المصريين خلفها، في أكبر حدث جماهيري منذ ثورة 1919. واستطاعت في الأيام الأولى حسم المعركة مع جهاز الأمن الرهيب وهمشته بالكامل. واضطر نظام مبارك، قبل تنحي هذا الأخير، إلى تقديم تنازلات مؤلمة لم يكن من الممكن تصورها قبل 25 يناير/ كانون الثاني: مثل إعلان مبارك عدم ترشحه أو نجله لرئاسة الجمهورية في نهاية العام. كذلك لم يتردد مبارك في إحالة ذراعه الأمنية، وزير الداخلية الراسخ حبيب العادلي، على المحاكمة مع وزيرين من حكومته، بالإضافة إلى أحمد عز، مهندس مشروع توريث الحكم، وذلك ارضاءً للجماهير الثائرة. وحُلت الهيئة العليا للحزب الحاكم، وتمت التضحية برجال مبارك الأقوياء، مثل صفوت الشريف وزكريا عزمي وغيرهما. إلى جانب ذلك، كان هناك عرض بإلغاء قانون الطوارئ القديم، مع خطاب مبارك للمواطنين الذي تضمن ما يشبه الاستعطاف لتركه ما بقي من أشهر في ولايته الأخيرة. هذه التنازلات وغيرها مما قدمه نظام مبارك، مثل الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع معارضة لم يعترف بها يوماً، لم يكن من الممكن تصورها قبل اندلاع الثورة الشعبية. وفتحت هذه الإنجازات الضخمة التي حققتها الثورة المصرية، في وقت قياسي، أبواب الأمل واسعة لتحقيق ما يطمح إليه المصريون الذين انتفضوا منذ 25 يناير/ كانون الثاني. فكل ما تنازل عنه النظام لم يكف لتهدئة «الغضبة» التي تحولت إلى اعتصام دائم بمئات الآلاف في ميدان التحرير، بالإضافة إلى تظاهرات حاشدة لا تتوقف في المدن والمحافظات. كذلك، باءت محاولات النظام للسيطرة على الحركة سواء بالأمن أو الجيش أو البلطجية. وظل الشعار الرئيسي الذي يتفق عليه كل المتظاهرين هو «الشعب يريد إسقاط النظام».الثورة المصرية التي دهمت نظاماً عُدّ دائماً إحدى أهم ركائز الاستقرار في المنطقة، جديرة بالفعل بأن تعقد عليها آمال التحرر من الاستبداد، ليس في مصر وحدها، بل في المنطقة ككل. لكن الآمال تلك ليست بلا مخاطر. ربما كانت نقطة القوة التي يتفق عليها الجميع في الثورة هي أنّها انطلقت بعيداً عن الأحزاب والقوى السياسية التقليدية، وأنّ مجموعات الشباب النشطة والمدعومة بوسائل الاتصال الحديثة هي التي نجحت في إطلاقها، متأثرة بنجاح الثورة التونسية التي فتحت الطريق لغيرها في المنطقة. هذه النقطة تحديداً هي نفسها التي تخلق فراغاً تنظيمياً في الحركة تتسابق القوى السياسية والأفراد لملئها، عبر ادعاء تمثيلها من مجموعات مختلفة والتحدث باسمها والتفاوض بدلاً منها وحتى من دون استئذانها. ذلك رغم أنّ القوة تكمن في أنّه لا سلطة لحزب أو قوة سياسية على الجموع، فتستطيع توظيف الثورة من أجل مصالح حزبية ضيقة أو المساومة عليها مع النظام، وهو ما يؤدي إلى النتيجة نفسها، أي توظيف الحركة لتحقيق مصالح حزبية. لكن ليس هذا أكبر الأخطار التي تتهدد الثورة المصرية؛ فالخطر الأكبر هو من النظام نفسه الذي لا يزال قائماً، رغم رحيل مبارك، وقد يحاول استعادة نفسه، بعد الصدمة التي أفقدته توازنه. وقد تكون متابعة تطور الثورة والثورة المضادة في تونس مفيدة في فهم الأخطار التي قد تواجهها الثورة المصرية، وخاصة أنّ الكثير من خطوات الثورتين المصرية والتونسية متشابهة.
لقد استطاعت الثورة التونسية أن تطيح بن علي في ختام أربعة أسابيع من الاحتجاجات المستمرة، رفضت خلالها تهديدات الرئيس وتنازلاته حتى اضطر إلى الهرب من تونس، ما عُدّ انتصاراً للثورة. وقد كانت الثورة بالفعل تحقق انتصاراً كبيراً على نظام بن علي، لكنّه ليس نهائياً. فسقوط الديكتاتور لم يعنِ سقوط الديكتاتورية، وإطاحة رأس النظام لم تعنِ هدمه. فقد بدأ النظام بإعادة إنتاج نفسه وسياساته، فور هروب بن علي، ليس فقط عبر الحكومة بل أيضاً عبر محاولة حصار الحركة الجماهيرية والسيطرة عليها. ولعل ما حدث في الأسبوع الثاني بعد هروب بن علي كان إشارة مهمة إلى تبلور الثورة المضادة واستعادتها المبادرة. فقد تزامنت زيارة نائب وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، جيفري فيلتمان، مع ظهور رشيد عمار، قائد الجيش التونسي وحديثه عن عدم السماح بالفراغ السياسي. وهو ما تلاه هجوم ميليشيات حزب التجمع الدستوري على مقار اتحاد الشغل في بعض المناطق، وقمع الاحتجاجات في العديد من الأماكن.
الانتصار الكبير الذي حققته الثورة التونسية لم يدفع النظام إلى الاستسلام بعد، فقد بدأ في استجماع قواه بدعم حلفائه ومعاودة الهجوم على الثورة. النظام المصري من جهته، كان قد بدأ بترتيب أوضاعه مبكراً، قبل أن تحقق الثورة المصرية ما أنجزته شقيقتها التونسية. فتحت ضغط الاحتجاجات، بدأ نظام مبارك بتقديم التنازلات للحركة وبترتيب أوضاعه، ليضمن استمراره، حتى بعد رحيل الرئيس. فمع التنازلات التي قدمها مبارك، بإقالة الحكومة وإحالة بعض النافذين على المحاكمة وغير ذلك من إجراءات التهدئة، دفع من جانب آخر برئيس الاستخبارات لمنصب نائب رئيس الجمهورية، وهو المنصب الذي يؤهله لتولي الرئاسة عند غياب الرئيس. كذلك دفع بقائد سلاح الجو السابق لمنصب رئيس الوزراء. وهو بذلك يضمن أنّه في مأمن من المساءلة أو المحاسبة في حال رحيله اضطراراً. بالتالي، فإنّ غياب مبارك يعني استمرار السياسات نفسها التي كان يطبقها، خارجياً أو داخلياً، من دون الحاجة إلى إعادة ترتيب الأوضاع، ما لم تقترن إطاحة الرئيس بإطاحة الترتيبات التي وضعها. من جانب آخر، بدأ النظام في اتخاذ إجراءات مزدوجة في مواجهة الاحتجاجات المستمرة. فمن ناحية فتح حواراً مع قوى المعارضة، ومن ناحية أخرى بدأ في استعادة آليات القمع التي حطمتها الثورة. والغريب أنّ اليوم الذي بدأ فيه الحوار بين عمر سليمان وقوى المعارضة، ألقي القبض على ثلاثة من المتظاهرين في السويس واستشهد اثنان في الإسكندرية بالإضافة إلى تحرشات بالمتظاهرين في ميدان التحرير وتضييق دائم عليهم من الجيش. هذا بالإضافة إلى حملة تشهير غير مسبوقة بالمعتصمين في الميدان، تتضمن اتهامهم بتلقي أموال من الخارج مقابل اعتصامهم وتسببهم في إغلاق المحال وتعطيل العمل في المنطقة.
بدأت ترتيبات الثورة المضادة في مصر مبكراً، حتى قبل أن تنجز الثورة مطلبها الأساسي، أي إطاحة مبارك. وأصبحت هذه الترتيبات خطراً حقيقياً على الثورة التي، رغم تحقيقها أحد أهم أهدافها، لا تزال في طورها الأول. لقد قدمت الجماهير في مصر مفاجأة كاملة للجميع عندما خرجت الملايين في هتاف واحد «الشعب يريد إسقاط النظام». ورغم الصعوبات التي تكتنف طريقها، لا تزال الثورة قادرة على تقديم المزيد من المفاجآت. فالحركة التي فجرت الثورة وحشدت الملايين في التظاهرات والمواجهات مع الأمن وتفوقت عليه، تستطيع أن تعبر عن نفسها تنظيمياً وتقطع الطريق على القوى المساومة عليها. وكما تمكنت الثورة من مواجهة الديكتاتورية، يمكنها مواجهة الانتهازية. ومثلما تحدت النظام وواجهته بنجاح حتى الآن، تستطيع مواجهة ترتيبات الثورة المضادة. والمؤكد أنّ الثورة التي انطلقت في 25 يناير/ كانون الثاني، جعلت من الصعب أو المستحيل على النظام العودة إلى سابق عهده. لكن الأكيد أنّ ما بدأته الجماهير سيحتاج إلى بعض الوقت لإنجازه.
* صحافي مصري