بدأ الحكّام العرب، جميع الحكّام العرب، يتلمّسون رؤوسهم. فما حدث في تونس كان يمكن أن يبقى في تونس. أمّا ما يحدث في مصر، فستحمله مياه النيل إلى كل الصحارى المحيطة. الحكّام العرب يعرفون ذلك تماماً. لذلك، برغم أحقادهم المتبادلة، لا نسمع همسة شماتة واحدة بحسني مبارك. فمبارك اليوم ليس رئيس مصر. إنّه الحصن الأخير للديكتاتوريّة العربيّة. ولأنّ الحكّام العرب يعرفون ذلك تماماً، بدأوا بإغداق الوعود على شعوبهم: رفع حالات الطوارئ المستمرّة منذ عقود في أكثر من مكان، التراجع عن فكرة التمديد والتوريث، إقالة حكومات، وقرارات اقتصاديّة تصبّ في خانة تخفيف الأعباء عن عامّة الناس. لكنّ الغريب أنّ إجراءات كهذه بدأ يُطلَق عليها اسم «تنازلات». وكأنّ الحكّام يتخلّون عن حقوق لهم، فيما هم، في الواقع، يعيدون إلى الناس بعض ما اغتصبوه منهم. هذا ليس تنازلاً. هذا تخلٍّ قسريّ عن صلاحيّات مصادرة، وتوقّف قسريّ عن ارتكاب بعض الجرائم. الحكام الخائفون من ملايين ميدان التحرير والسويس والإسكندريّة يميلون إلى الانحناء قليلاً أمام العاصفة حتّى لا تقتلعهم من جذورهم. هذا ليس تنازلاً. إنّه بعض الخوف الذي شرّبوه لشعوبهم. فليتذوّقوا من مرارته قليلاً.
متعة التفرّج على ما يجري في مصر متعتان. متعة يبثّها مشهد الجماهير الغاضبة والصامدة، ومتعة تخيّل مشهد الحكّام المرعوبين داخل قصورهم، والذين ينتظرون بلا حول ولا قوّة موعد هبوب انتفاضة شعبيّة في وجههم. موعد لا تفيد في تأخيره وسائل القمع التقليديّة التي وقفت عاجزة عن تأخير لحظة الحقيقة في القاهرة وتونس.
لحظة التفاؤل هذه يعوقها أمران. فالخوف قد يتحوّل هوساً، فيحضر القمع كلّما اجتمع اثنان على فنجان قهوة مخافة تحوّل اجتماعهما إلى انتفاضة. أمّا الأمر الثاني، فهو ما بدأ يظهر منذ أعوام لدى بعض أنصار الحرية والحداثة في العالم العربي، والذين بات يربط تحالف موضوعيّ بينهم وبين حكّامهم مخافة وصول تيّار «رجعيّ» إلى السلطة. فالديكتاتور، بالنسبة إليهم، يبقى من اللاهثين وراء الغرب، والمنفّذ الأمين للوصفات الاقتصاديّة الدوليّة، وحارساً لدولة مركزيّة قويّة، وإن ربط الكثير من مؤسّساتها بشخصه.
الثورة حين تأتي، لن تكنس الحكّام وحسب، بل أذنابهم أيضاً.