كيف يمكن الشعوب العربية الخنوعة والمطيعة التي تعيش تحت وطأة الطغاة، كما في تونس ومصر، أن تصحو فجأةً وتزعزع الأنظمة التي تستبد بها؟ تَبادر هذا السؤال إلى أذهان الكثير من السياسيين والمعلقين الغربيين، في الأيام والأسابيع الأخيرة. فمن أبرز ما تبيّن خلال الانتفاضات المستمرة في العالم العربي أنّ الرأي العام العربي قد تعرّض للتشويه وأُسيء فهمه في الغرب. تكوّن تصوّر عن «الشارع العربي» في الغرب على أنّه بمثابة رعاع أو مجموعة عصابات، ينفعل بعنف في بعض المناسبات ويهدأ في أحيان أخرى، يغلو غضباً تارةً ويهدأ تارة أخرى، من غير أن تؤدي فوراته هذه إلى تغيير حقيقي. فقد صوّره معظم المعلقين، في السنوات الأخيرة، على أنّه وحش يجب تهدئته وإسكاته بدلاً من قوة لها وزنها في السياسة العالمية، ويجب أخذها على محمل الجد.
في بحث أكاديمي أجريته مع الزميل تيري ريغير (1) بيّنّا أنّ عبارة «الشارع العربي» أضحت العبارة الأكثر استعمالاً للإشارة الى الرأي العام العربي في الإعلام الانكلوفوني، منذ ١١ أيلول / سبتمبر ٢٠٠١. بالمقارنة، فإنّ عبارات مثل «الشارع الأميركي» و«الشارع الأوروبي» و«الشارع الإسرائيلي» معدومة أو شبه معدومة، في الخطاب السياسي الغربي.
أما ما هو أكثر دلالةً، فهو أنّ الأوصاف المرتبطة بهذا المصطلح سلبية للغاية. يوصف «الشارع العربي»، في معظم الأحيان، في الإعلام الغربي بأنّه «عنيف» و«متفجّر» و«فوّار»، بل ينعت حتى بأنّه «مختلّ» و«مهدّد». فقد بيّنت إحصاءاتنا أنّه من المحتمل أن ترفق عبارة «الشارع العربي» بصفات تدلّ على اللاعقلانية وعدم الاستقرار، وذلك مقارنةً بعبارة حيادية مثل «الرأي العام العربي».
لكن تبدو كلّ تلك الصفات والنعوت غير ملائمة البتة عند الحديث عن الثورات المستجدة في العالم العربي. فقد بدت معظم التظاهرات المصرية سلمية وغير صدامية، ونجمت المواجهات، في معظم الأحيان، عن تحرشات القوات الأمنية ولم تحدث بسبب أعمال عنفية من جهة المتظاهرين، بل تتوافر دلائل مقنعة عن أنّ النهب الذي حدث في مصر قد صنعته القوى الأمنية، لإثارة مشاعر الخوف مما قد يحدث لو سقط النظام ودبّت الفوضى في البلاد.
لو أخذنا في الاعتبار حجم التظاهرات ومدّتها لوجدنا أنّ الحشود برهنت عن تنظيم وانضباط، وبالتالي فأيّ محاولة للمساواة ما بين الرأي العام العربي وعصابات عنيفة تُعدّ مضلّلة في أحسن الأحوال، إن لم نقل مسيئة بطريقة متعمّدة، وبدلاً من الاستمرار في إساءة قراءة الرأي العام العربي، على النخب السياسية في العالم الغربي والولايات المتحدة تحديداً أن تعترف بأنّ عامة الشعب في العالم العربي تطالب بالمطالب عينها التي يطالب بها المواطنون في كل أقطار العالم، وتحرّكها المشاعر نفسها التي تحرّك باقي شعوب العالم.
ماذا قد يعني هذا الاعتراف بالنسبة إلى السياسة الأميركية في الأسابيع والأشهر القادمة؟ من الطبيعي أن تهرع الإدارة الأميركيه لتتأكد أنّ الانتفاضة الشعبية المصرية لن تضر بمصالحها في المنطقة. فقد حصلت مصر سنوياً على حوالى ملياري دولار أميركي من الولايات المتحدة منذ إبرام اتفاقيات «كامب ديفيد»، مما وضعها في المرتبة الثانية بعد إسرائيل بين المستفيدين من السخاء الأميركي. وقد حصلت في ٢٠٠٩ على ١،٣ مليار دولار من المعونة العسكرية، بما فيها معدات كطائرات ف ـــــ ١٦ التي استُعملت أخيراً في محاولة لترهيب الحشود المجتمعة في ميدان التحرير في القاهرة.
إذاً، للولايات المتحدة مصلحة كبيرة في حماية استثماراتها في مصر، ولا بد أنّها سوف تبذل كل الجهود لتفعل ذلك، لكنّها يجب أن تفكر مليّاً قبل محاولة فرض نظام بديل يلائم سياستها الخارجية في المنطقة. ومع أنّ الحشود في جميع أنحاء مصر تبدو كأنّها بلا قادة ورؤساء، لا شك أنّها تعلم ما تريد ولن ترضى بأنصاف الحلول. حتى الآن، تبدو الإشارات مشجعة بالنسبة الى الفترة القادمة، إذ إنّها تنذر بأنّ الحركة الشعبية لن تتخلى عن مطالبها المتمثلة بالحرية والعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية والحكم التمثيلي وإسقاط النظام الحالي على نحو كامل.
ومع ذلك يبقى التخوف من أن تخطف انتفاضة مصر قوى داخلية أو خارجية لا تمتّ إليها بصلة. إنّ عملية إضرام نار الثورة مختلفة عن مشروع إقامة مجتمع حر وعادل، كما قال العربي بن مهيدي لزميله علي عمار (أو علي «لا بوانت») في فيلم جيل بونتيكورفو «معركة الجزائر» عن الثورة الجزائرية: «من الصعب أن تبدأ ثورة، ومن الأصعب أن تستمر فيها، والأصعب من ذلك أن تنتصر الثورة، لكن لا تبدأ الصعوبات الحقيقية إلا بعد الانتصار».
أما الآن، فثمة قوى عدّة تحاول أن تلتفّ حول «الشارع العربي» لتحصد الانتصار في مصر، وتوظّف الثورة المصرية لتخدم مصالحها، لكن لا بد أنّ يكون «الشارع العربي» أذكى وأعقل مما يحلو للبعض أن يتصوّر.
* أستاذ الفلسفة في جامعة يورك في تورونتو
هامش
(1) نشر في مجلة ميدل ايست جورنال في عام ٢٠٠٩ http://muse.jhu.edu/journals/the_middle_east_journal/v063/63.1.regier.html