الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1932 ـــــ 1977) ليس غريباً عن شرقنا. فهو، أولاً، من أصل يهودي. وحتى لو حُرم ورذل من أبناء ديانته، واتهم بالتجديف والإلحاد، يبقى فكره الفلسفي والتاريخي النقدي ملتصقاً بالعالم السامي. وهو، ثانياً، قُرئ في العالم العربي المشرقي والمغربي، وقد عرّبت كتاباته.لا عجب في أن يهتم مفكرون عرب بفكر سبينوزا. فالإشكاليات اللاهوتية السياسية التي يتناولها، لا تزال آنية في تضاعيف معضلات شرقنا الدينية والسياسية والطائفية، حيث صاغ الفيلسوف المتمرد أنظومة فكرية فلسفية علمانية، تحرص على احترام الدين ووجوده، مع تناولها له من زاوية نقدية متقدمة جداً، ومع إخضاعه التام للسلطة السياسية العلمانية. معضلة علاقة الدين بالسياسة شائكة في العالم العربي، إن كان من جهة تطبيق الشريعة الإسلامية، أو من جهة بنية النظام الطائفي. ولا شكّ أنّ المطّلع على السياق الديني والسياسي الأوروبي، الذي عاش فيه سبينوزا في القرن السابع عشر، يجد روابط قربى كثيرة مع أحوال اللاهوت والسياسة في العالم العربي. فالفكر الديني آنذاك كان ينادي بهيمنته على السياسة، وكان يؤسس حجته على «المقدّس»، أي على ما هو خاص بالله، خارج عن التاريخ، ومعطى عبر الوحي للناس، كشريعة دينية تسوس المدينة. أحوال الكثير من الأنظمة السياسية والأنظومات الفكرية في العالم العربي مشابهة لذلك حالياً، إذ يُطبّق أو يُنادى بمنطق يُخضع النظام السياسي لمحتويات فقهية أو لاهوتية، ويجري إخضاع «المدني» لـ«المقدّس». لذلك، تبدو فلسفة سبينوزا واقعية وكاملة المعنى في سياقنا الحالي. ولكن، لا شكّ أنّ صعوبة فكر سبينوزا وقلّة اهتمام أهل العروبة بالفكر وارتباط «المقدّس» بالعنف، لها الوقع الأكبر على التناول، الخفر جداً، لفكر الفيلسوف في العالم العربي.
كم كانت مفاجأتي سارّة عندما وقعت صدفة على كتاب الدكتور منذر شيباني، «سبينوزا واللاهوت»، وقد صدر عن منشورات وزارة الثقافة ـــــ الهيئة العامة السورية للكتاب، 2009. كلّ عمل فكري يبقى مرتبطاً بالقرائن التاريخية والاجتماعية والسياسية التي يولد في كنفها، لذلك، لا بدّ من التساؤل عن معنى حلول سبينوزا ضيفاً على سوريا في هذه المرحلة التاريخية بالذات، لكن قبل محاولة الإجابة عن هذا التساؤل، لا بدّ من عرض محتوى كتاب شيباني، وهو خير مرشد لفكر سبينوزا، الناقد للدين.
كنّا نتمنّى أن يأتينا الكاتب بتحليل جلي، ولو مقتضباً، للسياق العربي على ضوء الفلسفة السبينوزية، لكن ربّما دفعته اعتبارات عدّة، منها حساسية هذا الموضوع، الذي محوره النقد الديني، إلى الإعراض عن هذا الأمر. على الرغم من ذلك، يقدّم الكتاب معطيات فلسفية سياسية ومحورية للقارئ العربي، الذي يبحث عن سبل فكرية ناقدة لفهم واقعه الراهن. يبغي شيباني توضيح إلحاد سبينوزا عبر درس موقفه من علم اللاهوت، ولهذه الدراسة علاقة مع قرائن العالم العربي الحالية: «المأزق الحضاري الذي عاشه سبينوزا، الذي يتبدّى من خلال نصوصه وحياته، ربّما يقترب بشكل أو بآخر مما نعيشه راهناً، مع حفظ الخصوصيات التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية». يبدو الانتقال من حضارة النص اللاهوتي إلى القانون العلمي سبيلاً لحل هذا المأزق في الفكر السبينوزي. يوضح شيباني ذلك عبر أربعة فصول.
يتناول الفصل الأول الظروف التاريخية التي أدّت، في عصر النهصة، إلى ولادة النقد اللاهوتي عموماً، والنقد السبينوزي خصوصاً. ويذكر منها التغيرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، ونشاط الطبقة البرجوازية والفكر الإنسانوي. ويشير الكاتب إلى أهمية العامل الجغرافي الذي أسهم في توسيع آفاق الإنسان الذي اكتشف أنّه ينتمي إلى عالم أوسع. أسهم ذلك في زعزعة مطلقية المسيحية التي أيقنت أنّها ديانة قارة صغيرة (أوروبا). أضف إلى ذلك جواً من الحرية الفكرية والفلسفية.
يتكلم الفصل الثاني عن نقد سبينوزا للنص المقدس، وهو نقد قائم على ثلاثة محاور: النقد التاريخي، النقد الفيلولوجي (فقه اللغة)، والنقد البنيوي. الفصل الثالث يتناول النقد السبينوزي للإيديولوجية المبنية على «المقدّس». ففيما يقدّس أتباع هذا المنطق، العالم، لأسباب تعود إلى الهيمنة السياسية، ويربطون كلّ فعل بالتقوى الدينية، يعيد سبينوزا الإنسان إلى مكانته «الطبيعية».
أمّا الفصل الأخير، فيتناول علاقة الكتاب المقدّس بالحقيقة. فيرى سبينوزا أنّه لا حقيقة علمية في الكتاب المقدّس، بل حقيقة أخلاقية وأسس للتعايش الإنساني المسالم. لذلك هو يرفض المفاهيم اللاهوتية الأساسية كالوحي أو العناية أو المشيئة الإلهية، ويرى أنّ الأنظومات اللاهوتية ما هي إلّا بناء ناتج من مخيلة الأنبياء الخصبة.
تستحثّ فلسفة سبينوزا الناقدة التفكّر في أوضاع الدينيّات والسياسيّات في الشرق العربي، وتدفع الباحث إلى طرح تساؤلات تتخطّى إطار الوحي اليهودي والمسيحي وتصيب الإسلام، وما هو مقدّس لديه، لكن، إن كان المفكّرون السبينوزيون وأعداؤهم قد ألفوا فكرة نقد سبينوزا لليهودية والمسيحية، ويمكن هذا النقد أن يُعنى بالصهيونية أو بالنظام الطائفي اللبناني، فإنّ عالم الفكر لم يألف بعدُ تطبيق هذا النقد على الوحي القرآني. ولهذا المنسلك حقول خصبة جداً وآفاق عسيرة حقاً. فطرح مسائل النقد الفيلولوجي للقرآن والاستقصاء التاريخي عن جذور الشريعة الإسلامية والحيز الإيديولوجي للديانة الإسلامية وانصياع الدين لحكم مدني لاديني، وغيرها من الإشكاليات السبينوزية، يمكنها أن تكون مصدر توترات كثيرة. لذلك، نحن لا نظنّ أن نشر كتاب عن النقد اللاهوتي السبينوزي في سوريا هدفه التأسيس لمرحلة نقد شاملة للأنظومة الدينية في الشرق، لكن، لا بد من الإشارة إلى الأحداث الأخيرة في سوريا، حيث النظام يقوم بإجراءات لتعزيز العلمانية وللحد من المظاهر الدينية لعلّها تحتوي بعض النزعات الأصولية. فقد قرأنا أنّ الحكومة السورية اتخذت عدداً من القرارات التي طاولت سلوكيات دينية متعددة، كمنع النقاب في الجامعة، واتخاذ إجراءات بحق المعلمات المنقبات التابعات لوزارة التعليم، وتنظيم الارتياد إلى الجوامع ومنع الاعتكاف فيها، وتنظيم المآدب الرمضانية، والتأكيد على ممارسة الشعائر الدينية في دور العبادة فقط، ما يعني منع وجود مصلى في المطاعم وممارسة الطقوس الدينية في أماكن أخرى، ومنع إبراز الأفراد للشعارات التي توحي بانتمائهم الديني، مهما كان هذا الانتماء. تدفعنا، كلّ هذه المعطيات، إلى الاعتقاد بأنّ سبينوزا لم يحل صدفة ضيفاً على سوريا، وأنّ التطرّق إلى فكره النقدي، في هذه المرحلة بالذات، له دلالات لم ننته بعدُ من قياس كل أبعادها.
هل يحل سبينوزا ضيفاً على لبنان وعلى كل الشرق؟ من العسير دعوة الفيلسوف إلى ديار تأنس، يوماً بعد يوم، معاشرة التطرّف الديني والأصوليات، وتستطيب مسامرة الطائفية بتجلياتها المتعددة، لكن، إن حلّ ضيفاً أو إن بقي غريباً، تبقى تساؤلاته مجدية ونصب كل معضلات الشرق العربي الدينية السياسية.

* دكتور في الفلسفة