دخل الدبلوماسي المخضرم الأخضر الإبراهيمي قصر الرئاسة السورية عابساً وخرج متجهماً. مضى زمن غير معروف على مقترح حل يحمله في جيبه، أراد أن يسوّقه لدى الرئيس السوري بشار الأسد. وطال انتظار تحديد موعد له من قبل الرئاسة رغم تكرار الطلب. ظنّ كثير من المولجين بالقضية السورية أن الأسد سيهرع لتحديد الموعد، فهو بنظرهم على مسافة قصيرة من انهيار نظامه، وجيشه، وحكمه، على ما روّجوا.
لطالما تحدثت وسائل إعلام معروفة التوجه عن مرحلة ما بعد الأسد، وكانت الزيارة المرجوة من الإبراهيمي منقذاً له، بنظرهم، من السقوط «بعد أسبوعين»، المسافة التي تكرر سماعها أكثر من عام.
يقال عن الإبراهيمي إنه لم يفشل في أي وساطة حل كلّف بها على مستوى عالمي. فهو معروف بحنكته، ودهائه، وطول أناته، ومعروف باجتراح الحلول المناسبة في الظروف المناسبة، مكاناً وزماناً. ومع ذلك، كاد أن يخرج في التجربة السورية من سباق الحل عندما هدد بالاستقالة ليلحق بكوفي أنان لأن الرئيس السوري تأخر في تحديد موعد لاستقباله لطرح مشروع الحل الذي يحمله في جيبه. ولم يكن نفيه خبر التهديد بالاستقالة بسبب تأخر تحديد الموعد مقنعاً فقد تبعه كلام من نبيل العربي ــ الأمين العام لجامعة الدول العربية ــ أنه هو الآخر طلب موعداً من وزير الخارجية السوري وليد المعلم الذي رفض تحديد موعد للقاء به.
وتأتي الطريقة التي تعاملت بها الدبلوماسية السورية مع زيارة الإبراهيمي إلى دمشق بعد صدور الكلام عن إبلاغ الرئاسة السورية له بالاستعداد لمقابلته، لتؤكد ما تردد عن تهديده بالاستقالة لأن الأسد لم يرد على عدد من اتصالاته بغية لقائه. فقد قال دبلوماسي سوري إن الجهات الرسمية في سوريا لم تكن على علم بوجود الإبراهيمي في دمشق، وتلت ذلك الموقف بموقف أكثر ملامسة للحقيقة عندما قالت إن الحل الذي تقبل القيادة السورية بانتهاجه لن يكون إلا حلاً سورياً يضعه الشعب السوري ويعبّر عن مصالحه، وليس حلاً مستورداً من الخارج، ومفروضاً على دمشق.
الأسد فاجأ خصومه بأنه ليس متسرّعاً للحل المفترض أن يكون الأخضر الإبراهيمي يحمله، فهو يعرف محتواه المستوحى من اتفاق جنيف ولا يوافق عليه، ويعرف قدرة جيشه على الصمود والاستمرار في المعركة لآجال طويلة؛ فكفى أنه يواصل القتال بعد عامين من الصراع وكأنه في بداية المعركة، ويتحضّر لتصعيد كبير في المدى المنظور بعد تعزيز وحداته القتالية بلواء عالي التجهيز والتدريب.
وهو يعرف أيضاً معنى ترجمة الصمود العسكري دبلوماسياً وسياسياً، فعندما سئل عن تصريح منقول عن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الذي ورد فيه احتمال انتصار المعارضة، رد بعبارة مقتضبة مفادها «إننا نمسك بالأرض، ومَن يستطيع الإمساك بها فليتفضل ويفرض شروطه».

موقع سوريا
ويلعب موقع سوريا الجيو ــ استراتيجي دوراً هاماً في القدرة على المناورة والصمود واللعب بين متناقضات مصالح الدول التي تتقاطع غالبيتها في سوريا، حيث تحتشد فيها الصراعات على مصالح الدول العالمية، خصوصاً الصراع على الطاقة، إذ تعبر فيها وقربها مختلف خطوط الغاز والنفط المرتقبة للمرحلة التاريخية المقبلة. قربها خط نابوكو الأميركي، ونقيضه السيل الجنوبي الروسي، ويمر فيها خط تخطط له قطر لنقل غازها إلى المتوسط عبر سوريا، وتحديداً مدينة حمص، بمقابل خط إيراني ــ عراقي ــ سوري حتى المتوسط.
وعلاوة على خطوط النفط المذكورة، فإن ثروة نفطية هامة بدأ العمل على استخراجها في شرقي حوض المتوسط، وسيكون لها تأثير وتداعيات تقنية واقتصادية على خطوط النفط العالمية الأخرى، فضلاً عن دور سوريا التاريخي وتأثيرها في محيطها الذي يتضمن ست دول على الأقل، ولها امتدادات شعبية واقتصادية واستراتيجية فيها.
كل ذلك، يجعل لسوريا أهمية للدول ذات المصلحة المباشرة فيها، وأبرزها روسيا وإيران، وتحالف دول البريكس، دول تجد مصلحتها في سوريا بوجه ونظام معيّن. لكنه بالتأكيد ليس على الطريقة الليبية، ولا التونسية، ولا المصرية، بل تريد سوريا كما يريدها الأسد الذي عليه الحفاظ على مصالحه في نظامه، وأيضاً على مصالح حلفائه فيها.
ويمكن اعتبار ما يجري في سوريا حالياً هو قولبة للعالم بطريقة جديدة تلغى معها أُحادية القرار والنفوذ العالميين، ويتشكل عالم جديد ستتم بلورته في سوريا بنهاية أزمتها.

إيحاءات الأسد
والأسد يعرف أهمية بلده، وموقعه الاستراتيجي، وهو استخدمه سابقاً في العديد من المحطات إنْ على الصعيد الفلسطيني أم العراقي أم اللبناني لتعزيز وضع نظامه ومنع محاصرته. وفي هذا السياق، يرفض الأسد فرض حلول خارجية تتعارض مع توجهاته ومصالحه ومصالح مَن يمثل من حلفاء.
إضافة إلى ذلك، الأسد يعرف ما قال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لرئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي عن دهشة الدبلوماسية الفرنسية من صمود الأسد وجيشه، قائلاً إن بلاده تعترف بخسارة الرهان على سقوط الأسد، وإنها ستنظر باستراتيجية جديدة تجاه سوريا في العام 2013 مغايرة للسابق.
ولا يخفى على الأسد ما قام به الرئيس الأميركي باراك أوباما من استبدال في وزارة الخارجية وتعيين جون كيري ــ الصديق الشخصي للأسد ــ على رأس الدبلوماسية الأميركية. ومعروف أن كيري سبق أن نصح بالتعامل مع الأسد «لأنه رجل إصلاح» على حد وصفه.
ومنذ أن فاز الرئيس الأميركي أوباما بالرئاسة، انتظر العالم، خصوصاً المهتمين بقضايا الشرق الأوسط، ما الذي يحمله في جعبته من حلول للملف السوري. وقيل الكثير قبل فوزه عن دعم التحالف الشرقي له تفضيلاً على منافسه الذي قد يأتي بالحروب والويلات. وقد ترافقت الحملة الانتخابية الأميركية ببعض ممارسات في الخارج من قبل التحالف على الصعيدين الدولي والإقليمي، وافترض أن يكون لها أثر على المسار العام للانتخابات. وفي ضوء المعطيات الأميركية، يرتقب أن يكون لأوباما موقف غير معادٍ لتوجهات الدول التي دعمته في حملته الانتخابية، خصوصاً دول البريكس، وبالتالي لن ينخرط في تدخلات عسكرية ضد سوريا، هذا إذا كان قادراً على ذلك.
ولا تخفى على الأسد أيضاً تصاريح الدبلوماسية البريطانية التي أبدت تخوفها من تنامي جيل جديد من التيار القاعدي في سوريا، مع تكرار للموقف الأميركي من «القاعدة» وإدراج «جبهة النصرة» على لائحة الإرهاب، وماذا يمكنه أن يفعل مع المسلحين الذين يواجهون جيشه في بلاده في ضوء مواقف غربية كهذه، وإن كان يحتاج بعدها إلى استخدام السلاح الكيميائي أو سواه.
ويدرك الأسد أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لم يكن ليقول ما قاله عن غياب احتمال تدخل الدول الأجنبية في سوريا لو لم يكن متأكداً من موقفه، ومن متانة دعم تحالف الدول الشرقية له (البريكس + إيران). فقد قال لافروف إن الغرب يصلي لكي تظل روسيا والصين تمارسان الفيتو على التدخل الغربي في الشأن السوري، ويقصد بذلك أن الدول الغربية لا قدرة لها على التدخل، ولا تريد ذلك. وثمة معلومات أفادت عن اتصالات سرية بين سوريا والمملكة العربية السعودية من أجل سوريا، وأن سوريا تنتظر نتائج الاتصالات قبل أن تشن هجوماً كبيراً على قواعد المعارضة المسلحة بغية إنهائها في حال فشل المفاوضات مع السعودية.

برنامجان مختلفان
استوحى الإبراهيمي من اتفاق جنيف مسوّدة حل حملها معه إلى الأسد الذي يعرف مضمونها، وموقفه مسبق منها. وتتضمن المسودة مقترح حكومة انتقالية في سوريا تعطي حصة للنظام، وتوزع الحصص الباقية على أطراف المعارضة المختلفة، منها «الائتلاف السوري» و«المجلس الوطني» و«هيئة التنسيق». إنها محاصصة خارجية اعتبرتها القيادة السورية تدخلاً في الشؤون الداخلية السورية، وانتهاكاً للسيادة السورية، وتجاهلاً لموقف الشعب السوري من التسوية. لذلك لم يكن الأسد راغباً في استقبال الإبراهيمي فهو يعتبر أن موقفه الميداني متين ومتماسك، وليس بوارد قبول شروط تقدم له لصالح أطراف لا تتوازن معه في القوة على الأرض.
وفي الوقت الذي يطرح العالم المعروف بـ«الديموقراطي» حلولاً إذعانية الطابع، كتقاسم السلطة بين قوى غير متوازنة القوة على الأرض، تبنى الأسد مشروعاً ديموقراطي الطابع بإجراء انتخابات شعبية لمجلس شعب جديد ينتج حكومة وطنية، وبذلك يكون الشعب السوري ــ بنظر القيادة السورية ــ قد حدد ما يريد مع الحفاظ على سيادته وخارجاً عن أي تدخل أجنبي بشؤون بلاده.
وحتى اليوم لم يقبل الحلف المخاصم للأسد بهذا الطرح، رغم ادعائه بالسيطرة على الأرض، وتوقعه للسقوط القريب للأسد، غير أن الأسد، الذي يفترض أن يتهرّب من إجراء انتخابات كهذه في حال كانت توقعات خصومه صحيحة، يطرح الانتخابات الديموقراطية رافعاً بذلك وتيرة التحدي إلى ذروتها.
وبين موقفي الإبراهيمي والقيادة السورية تباعد كبير، في الشكل والمضمون. قيادة وصفت بـ«الديكتاتورية»، وتمّت التعبئة ضدها بالتعسف والترهيب، تقدم مشروعاً ديموقراطياً، بينما أطراف تتبنى الديموقراطية وتدعي أنها أمها وأبوها، تطرح حلولاً فوقية بعيداً عن رأي الشعب.
وحتى بلوغ الاستواء بين الموقفين ونضوج تسوية ما، تنتظر سوريا جولات عنف حامية، وربما من نوع جديد.
* كاتب لبناني