تبادل الاتّهامات بين النّظام السوري والمعارضة حول «توريط» الفلسطينيين في الأزمة السوريّة، لا يغيّر شيئاً من واقع المأساة التي يعيشها اليوم سكّان مخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، جرّاء المواجهات العنيفة بين الطرفين، والتي عادت إلى شوارع المخيّم، بعد وقت قصير من الإعلان عن «اتّفاق» لسحب المظاهر المسلّحة من المخيّم، وتحييده عن العمليات العسكريّة.
لم يصمد ذلك الاتفاق طويلاً، فلا خطاب المتحاربين، ولا سلوكهم ارتقى إلى مستوى التعاطي الجدّي والمسؤول مع المخيّمات. ويحاول كلّ طرف اللعب بالورقة الفلسطينيّة لصالحه من دون الأخذ بالاعتبار حساسيّة الموقف الفلسطيني وخصوصيّته. والنتيجة: لجوء على لجوء، ومزيد من الدم الفلسطيني المسفوك في المنافي برصاص الأخوة الأعداء.
لم يكن مخيم اليرموك أول من اكتوى بنار الصراع الدامي الذي تشهده سوريا. سبق لمخيمات اللاذقية، وحمص، ودرعا، أن نالت قسطاً من أعمال العنف، وتعرضت لقصف أوقع ضحايا بين اللاجئين الفلسطينيين. على الرغم من ذلك، ورغم الانقسام في الموقف السياسيّ، لم تشهد المخيّمات مواجهات أو احتكاكات بين الفلسطينيين وبين جيرانهم السوريين، الذين يوجد بينهم من يؤيّد النظام. وإن ما تتناقله بعض وسائل الإعلام عن مشاركة فلسطينيين في القتال ضمن كتائب المعارضة المسلّحة لا يتعدّى الحالات الفرديّة، إذ لا توجد أيّة مؤشرات على عمل منظّم، أو قرار سياسيّ من أي طرف فلسطيني في هذا الشأن، نظراً لافتقار توجّه كهذا لدى الحاضنة الشعبيّة؛ فالتاريخ الفلسطيني القريب سجّل أثماناً باهظة دفعها الفلسطينيون في صراعات الآخرين، ما يقتضي رفض أي عمل من شأنه تحويل المخيّمات الفلسطينية إلى ساحات حرب.
راهن كثيرون، منذ انطلاق الحركة الاحتجاجيّة، على دور المخيّمات في التطورات الجارية، نظراً لخصوصيّة الشأن الفلسطيني في سوريا، سواء بسبب التعقيدات السياسيّة لعلاقة النظام بالقضيّة الفلسطينيّة، وبالفصائل الفلسطينية المختلفة، وتاريخ تحالفاته وصراعاته معها، أو لجهة الوضعيّة المتميّزة نسبيّاً للفلسطينيين المقيمين فيها، بالمقارنة مع أقرانهم في دول الجوار. غير أنّ ما يتمتّع به الفلسطينيّون من حقوق في سوريا ليس منّة من النظام الحالي، أو «مكرمة» منه، كما يحلو لبعض مؤيديه التباهي، وإنّما يعود ذلك إلى سنة 1956، حين أقرّ مجلس النواب السوري القانون رقم 260، وأصدره الرئيس شكري القوتلي.
نصّ القانون على أن: «يُعتبر الفلسطينيون المقيمون في أراضي الجمهورية السورية بتاريخ نشر هذا القانون كالسوريين أصلاً في جميع ما نصت عليه القوانين والأنظمة النافذة المتعلقة بحقوق التوظيف والعمل والتجارة وخدمة العلم مع احتفاظهم بجنسيتهم الأصلية». ومازال هذا القانون سارياً حتى اليوم.
انقسم الشارع الفلسطيني بين من يرى في النظام داعماً للمقاومة والحقوق الفلسطينية المشروعة، وبين من يتّهمه بالمتاجرة بالقضية من أجل استمراره. غير أنّ السلطة الفلسطينية أعلنت على لسان رئيسها أبو مازن «الوقوف على الحياد، وعدم الانجرار إلى الصراع». ومثله كان موقف معظم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية (الجبهتان الشعبية والديموقراطية لتحرير فلسطين وحركة فتح وجبهة النضال الشعبي)، التي أصدرت بياناً مشتركاً بضرورة «تحييد المخيمات الفلسطينية والتنظيمات المتواجدة في سوريا من الصراع الدائر بين النظام السوري ومعارضيه وعدم زجّهم فيه».
ومع التداخل الجغرافي للمخيمات مع المناطق المحيطة بها، حتّى أن معظمها يعدّ امتداداً للمدن أو جزءاً من أحيائها، بالإضافة إلى تداخل النسيج الاجتماعي الفلسطيني والسوري، عبر علاقات العمل والمصاهرة، فإن ما يقع على السوري يقع أيضاً على الفلسطيني في مستويات حياته كافّة، الاقتصادية والاجتماعيّة وتالياً السياسيّة، مما يجعل وقوف أبناء المخيّمات على الحياد، أمراً على غاية من الصعوبة. ومنذ تصاعد حملة النظام الأمنية العسكريّة لقمع الحركة الاحتجاجية، ولاحقاً المعارضة المسلّحة، شكّلت المخيمات ملاذاً آمناً للسوريين القادمين من «المناطق الساخنة»، ولعبت المخيمات دوراً هامّاً في أعمال الإغاثة واحتضان عدد من النشطاء وعائلاتهم.
زاد من هشاشة احتمال البقاء على «الحياد» اصطفاف أطراف فلسطينية على ضفّتي الأزمة السورية، وتأييدها لهذا الطرف ضدّ ذاك.
الموقف المؤيّد للنظام بالقول والفعل، أعلنته جهات فلسطينيّة محسوبة أساساً عليه، وفي مقدّمتهم الجبهة الشعبية ــ القيادة العامّة. وتحت ذريعة «حماية المخيمات» عملت القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل، مع غيرها من الفصائل الدائرة في فلك النظام السوري، على تشكيل «لجان شعبيّة» فلسطينية شاركت في قمع الاحتجاجات وضبط الشارع الفلسطيني.
في المقابل، أعلنت حركة حماس انحيازها إلى المعارضة ورفضها لممارسات النظام وحلّه الأمني، وعززت حضورها على الساحة الإخوانيّة، بصفتها التنظيم الفلسطيني للإخوان المسلمين، بعد أن نقلت مكاتبها ــ وخيارها السياسيّ أيضاً ــ من دمشق إلى الدوحة، لتنسج تحالفاتها الجديدة مع قطر وتركيّا الخصوم الأبرز للنظام، وهي التي كانت أكثر الفصائل قرباً منه.
إنّ سلوك النظام السوري، وتقاطع المصالح الإقليميّة والدوليّة وتناقضها في سوريا، إضافة إلى انجرار أطراف من المعارضة السوريّة إلى فخ العسكرة، ودخول عناصر إسلاميّة متشدّدة على خط الأزمة، كلّ ذلك قطع الطريق على ربيع الياسمين الدمشقي، ذلك أنّ ما بدأ كثورة شعبيّة سلميّة تحوّل تدريجيّاً إلى حرب أهليّة، وإن رفض أطرافها الاعتراف بذلك. وإنّ مسؤوليّة تحييد المخيّمات وتجنيبها الانجرار إلى العنف والفوضى تقع بالدرجة الأولى على عاتق فرقاء الأزمة السوريّة، وأيضاً على عاتق القوى الفلسطينيّة التي تصرّ على الزجّ بنفسها في هذا الصراع، متناسية الدماء الفلسطينيّة التي سُفكت على مذابح «الأشقّاء» وحروبهم الأهليّة.
وفي غياب قدرة أيّ من أطراف النزاع على الحسم عسكريّاً يبدو أن البحث يجري اليوم عن تسوية سياسيّة من نوعٍ ما لإنهاء الأزمة. تسوية لن يكون للفلسطينيين رأي فيها، أو «مفاوض» عنهم في شأنها. ربّما سيكون من الأفضل للفلسطينيين، والحال هذه، النأي بأنفسهم عن هذا الصراع وعدم الخوض فيه تحت أي ظرف. لا شكّ في أنّ ما يحدث في سوريا ينعكس عليهم مباشرةً لأنهم باتوا جزءاً أساسيّاً من المجتمع السوري، لكن حصر مشكلتهم في تداعيات الأزمة السورية الحالية يفقدها بعدها الدولي والقانوني. لا بدّ من الإصرار دوماً على الحل الجذري لقضيتهم، المستند إلى الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة: حق العودة إلى فلسطين.
* كاتب سوري