في 2001، تعاطت المعارضة بحذر مع عرض قدمه الشيخ حمد إلى التصويت على ميثاق العمل الوطني لبدء مشروع سياسي إصلاحي يخرج البحرين من عنق زجاجة دام ربع قرن، وعبرت عن قلقها من أن يفسر التصويت على الميثاق كضوء أخضر للملك بأن يجري تغييرات دستورية من جانب واحد، ويلغي دستور 1973. أكد الملك للمعارضة أنه «ابن عيسى بن سلمان ولن يلغي دستورا أعده والده»، وصدرت تصريحات رسمية لابنه ولي العهد سلمان تؤكد بقاء دستور 1973، وأخرى لوزير العدل السابق عبد الله بن خالد آل خليفة الذي ترأس لجنة إعداد ميثاق العمل الوطني تؤكد حصر دور مجلس الشورى ــ الذي اقترح الميثاق إنشاءه ــ في الاستشاره غير الملزمة، ليكون التشريع والرقابة حصراً من اختصاص مجلس النواب المنتخب.اعتبرت المعارضة هذه التطمينات كافية للتصويت على الميثاق، متأثرة أيضا بأسلوب «الصدمة» التي اتبعها الملك حمد، بإغراقه المجال العام بجملة من الإجراءات «التاريخية»، حين ألغى قانون ومحاكم أمن الدولة وأفرج عن المعتقلين السياسيين وسمح للمبعدين بالعودة وخلق مناخا إيجابيا لحرية التعبير.
لقد شكل التصويت على الميثاق فرصة استثنائية لإعادة الاعتبار للشرعية الشعبية وتصحيح مسار العلاقة بين الشعب والأسرة الحاكمة، وكان مؤملا دعوة المواطنين لانتخاب المجلس الوطني (البرلمان) ليجري التعديلات الدستورية التي اقترحها الميثاق، ويصدرها الملك وفق الإجراءات التي ينص عليها دستور 1973.
لكن الملك فاجأ الحركة السياسية وأصدر دستورا جديدا في 14 فبرير/ شباط 2002، مخالفا وعوده بالحفاظ على دستور 1973، وتشكيل برلمان له صلاحيات تشريعية كاملة.
أضر ذلك كثيرا بالثقة التي بدأت تبنى بين العائلة الحاكمة والمعارضة، وحاليا، يصعب أن تصدق المعارضة المقولات والوعود والتطمينات التي يطلقها الملك أو أحد معاونيه بشأن الإصلاح.
وقد عمق من غياب الثقة، تجارب السنوات العشر الأخيرة، التي شهدت استئثار السلطة بالمجال العام، وإصدار القوانين المقيدة للحريات، والإخلال بالعملية الانتخابية وتزويرها، فيما قضى الحل الأمني السائد منذ 14 فبراير/ شباط 2011 على إمكان أن تكون المفاوضات غير المقننة والتوافقات غير الموثقة طريقا لميثاق جديد وآلية للخروج من الأزمة الراهنة.
إن غياب الثقة في الملك جعل الأخير يحيل ملف المفاوضات مع المعارضة إلى ابنه ولي العهد، وإصدار قرار ملكي بمنحه تفويضا كاملا لذلك (فبراير 2011)، بيد أن تكليفا لولي العهد لمتابعة الحوارات الوطنية كان قد صدر أصلا منذ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٠٤.
إن غياب الثقة هذه دعا المعارضة لأن تطلب من ولي العهد تقديم مبادرة مكتوبة تتم على أساسها المفاوضات، بدل الحديث الشفوي غير الموثق (مارس/ آذار 2011).
وساهمت دعوة قطاع مهم من المعتصمين في دوار اللؤلؤة (فبراير ــ مارس ٢٠١١) إلى اسقاط النظام وعدم الدخول في حوار فضفاض، في عدم الاستجابة الفورية إلى مبادرة ولي العهد غير المجدولة زمنيا.
إن أثر الإخلال بما تم التوافق عليه في الميثاق سيظلل العلاقة بين المعارضة والعائلة الحاكمة لفترات مقبلة. بيد أن هناك رأيا آخر يعتقد أن ذلك الإخلال سيجعل الأطراف المختلفة تبذل جهودا أكبر للوصول إلى صيغ مقننة. بيد أن هذا الفهم يتناسى أنه حتى في الصيغ المقننة يمكن أن تجد الأطراف من خلالها ثغراً للتهرب من التزامها.
إن التوافقات المكتوبة لا يمكن أن تكون بديلا عن حسن النية التي يفترض أن تسود أجواء الحوار وتنفيذ الاتفاقات. ومع ذلك، يتساءل البعض عما إذا كانت المعارضة تدير حواراتها مع السلطات على الطريقة الفلسطينية أم على الطريقة السورية؟ وكلتاهما لم تُعد الحق العربي! بيد أنه في الأولى يكاد يتحول الحوار إلى غاية وليس وسيلة، فيما الصفقات المرحلية سمة بارزة في النمط التفاوضي الفلسطيني، الذي قاد إلى مأزق «أوسلو».
أما المفاوض السوري، وقبل أن يبدأ التفاوض (وليس الحوار) فيَشترط أن تقود المفاوضات إلى انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الجولان، وإلا فإنه لا يدخل في مسار تفاوضي غير معلوم النتائج.
لا الفلسطيني ولا السوري تمكن من استعادة أرضه المحتلة، بيد أن الأول منح شرعية للاحتلال، ودخل دهاليز لا توصل إلى نهاية النفق، وخسر الكثير من الأرض والأرضية، فيما تمسك الثاني بمقولاته ولم يخسر الجولان رسميا.
ولعل الوفاق دخلت دهاليز «أوسلو» بحريني بمشاركتها في برلمان 2006، وقد تكون مكّنت السلطة من كسب الكثير من «المجد» المؤقت، لكنها في نهاية المطاف عرّت السلطات وكشفت زيف مشروعها، وسحبت منها لباس الشرعية الشعبية.
لقد أنقذ ربيع البحرين «الوفاق» من نفق «أوسلو»، ولست متأكدا أن ذلك سيقيها من التورط في «أوسلو» جديد. لقد قطعت استقالة كتلة «الوفاق» النيابية من البرلمان (فبراير/ شباط 2011) فرص العودة إلى المؤسسة التشريعية من دون تغيير قواعد اللعبة، وسيظل شارعها يسأل: ماذا تغير كي نعود للبرلمان؟
كما أن تجربة «الوفاق» النيابية بين ٢٠٠٦ و٢٠١١، لم تكن ناجحة بالقدر المأمول لجهة الانجاز التشريعي والرقابي. ولعل الأكثر تعبيرا عن احباط «الوفاق» تمثل في عدم قدرتها على إمرار تغييرات دستورية شكلية وثانوية (مايو/ أيار ٢٠١٠).
ويتجاوز الأمر ذلك إلى التجربة السلبية مع الملك، الذي جاء محملا بالوعود، لكن السنوات العشر الأولى من عهده طغت خلالها مشكلات سياسية جذرية.
وتبدو الضغوط الرسمية على المرجع الديني الشيعي الأعلى في البحرين الشيخ عيسى قاسم، وزعيم الوفاق الشيخ علي سلمان غير قادرة البتة على زحزحتهما عن مواقفهما المؤيدة للإصلاح، ولن تجد في تاريخ المعارضة ــ طوال مئة عام من النضال ــ لحظات تم فيها رفع الراية البيضاء، لكن تاريخها دون شك مليء بالتطبيع من أوضاع تتسم بالاستبداد.
ولا يساهم وجود رموز تيار «الممانعة» في السجن (عبد الوهاب حسين، حسن مشيمع، عبد الهادي الخواجه والآخرون)، الذين ساهموا في انطلاقة حراك 14 فبراير، في دخول المعارضة تسويات فضفاضة.
وصحيح أن «الممانعين» لن يتمكنوا ــ وفق الظروف الراهنة ــ من فرض تسوية تاريخية، بيد أن نفوذهم بات من القدرة بمكان أن يشكل فيتو حقيقياً لأي تسوية لا يقرّونها.
ولا تظهر حتى الآن أي بوادر انكسار عند الرمزين الشعبيين الأبرزين في السجن (حسين، ومشيمع)، بعد زهاء عام ونصف العام من اعتقالهما، ولعل وجودهما والآخرين في السجن سيظل مرتبطا بالقدرة على الحصول منهما على قدر من التنازلات تجبر الحركة المطلبية على تقديم تنازلات مؤلمة.
بيد أن الإشكال الذي سيواجه السلطة في ذلك، أن حسين ومشيمع كانا قد خاضا مفاوضات إبان انتفاضة التسعينيات عرفت بـ«المبادرة» (١٩٩٦)، كانت تقضي بقيام القادة الشعبيين بتهدئة الشارع، تليها حوارات سياسية للخروج من الأزمة. وكالعادة لم توف السلطات بوعودها، وأعادت القادة الشعبيين إلى المعتقل، بمن فيهم زعيم الانتفاضة الراحل الشيخ عبدالأمير الجمري.
أما الحوارات السياسية التي ساهم فيها حسين ومشيمع للوصول إلى تسوية الميثاق (2001)، فقد استثمرها الملك لإصدار دستور جديد. كان ذلك أمراً حاسماً للغاية في أن يتصدر عبدالوهاب حسين وحسن مشيمع دعوات المقاطعة لانتخابات ٢٠٠٢، ثم يصعّد من خطابهما في ٢٠١١، في لحظة تاريخية فاصلة، نحو مطلب تحول البحرين للنظام الجمهوري.
إن ذلك كله يقلل من قدرة المعارضة المعتدلة والسلطة على المناورة. ويعبر الأمين العام للوفاق الشيخ علي سلمان عن ذلك بوضوح حين يقول «إن الحكم المؤبد على حسين ومشيمع يعني بقاء الأزمة البحرينية مدى الحياة».. ويزداد الوضع قتامة بالنظر إلى تجربة آية الله قاسم والأمين العام الوفاق علي سلمان مع وعود الملك التي لا تنفذ، سواء تلك المتعلقة بتقرير البندر أو الإصلاح السياسي من خلال البرلمان.
بناء على ما سبق، يمكن الخروج بالنتائج التالية:
أولا، إن الوصول إلى تسوية أمر وارد، بالنظر إلى حدوث ذلك في ١٩٢٣، ١٩٧٣، و٢٠٠١، والمشاركة في انتخابات 2006 و2010. وذلك يعني توقّع أن تقدّم السلطات تنازلات قد تعتبر حاليا خطاً أحمر، ويعني أيضا احتمال أن تساهم الجمعيات السياسية المعارضة في الترويج للتسوية المنظورة، أو تتفهمها، أو عدم مواجهتها.
ثانيا، يرجح أن تكون التسوية التي قد يتم الوصول إليها هشة أو مؤقتة (أوسلو بحريني جديد)، عوضا عن توافق مجمع عليه وطنيا. بمعنى أنه يصعب أن تكون التسوية المرتقبة دائمة/ تاريخية، بل على الأرجح أن لا يتم الوصول إلى تسوية على الوصول إلى تسوية تاريخية. وفي حال اتسم الحل المفترض بصفة الرصانة والديمومة، فإن احتمالات نكوص السلطات عنه سيكون مرجحا، كما حدث في ١٩٧٣ بتعليق الدستور، و٢٠٠٢ بإصدار دستور جديد دون استفتاء الشعب.
ثالثا، لا يعطي المسار الحالي فرصة للقول بأن السلطات والمعارضة ستكونان مضطرتين لتقديم تنازلات تاريخية، لا أحد منهما يستطيع إجبار الآخر على الاستسلام.
وأرجح أن تستمر الحرب الباردة في البحرين حتى بعد ٢٠١٤، وقد تتخللها فترات من الحرب الساخنة، فالنظام عصي على الإصلاح، وهو لن يقدم تنازلات جوهرية في ظل حراك غير قادر على الوصول إلى العاصمة، ولا يهدد مركز القرار. أما المعارضة فقد خبرته وشربت من قمعه ومناوراته السياسية كثيرا، ولا يزال شارعها صامدا ومتمسكا بمقولاته في التحول الديموقراطي. وهذا يعني أن تحقيق «وثيقة المنامة» التي تعبر عن تطلعات المعارضة في مملكة دستورية لن يكون متاحا، أما اللعبة السياسية كما كانت قائمة قبل فبراير/ شباط ٢٠١١ فلا يمكنها أن تحقق الاستقرار والرفاه.
رابعا، تعول المعارضة المعتدلة (جمعيتا الوفاق ووعد وشريكاتهما في الائتلاف) على كونها تسير في الاتجاه الصحيح من التاريخ، لكن هذا ليس كافيا لإنجاز انتصار تاريخي. إن نموذج الأحزاب الكلاسيكية (مثل حزب النهضة التونسي، وحركة الإخوان المسلمين المصرية، والوفاق البحرينية، وحزب العدالة والتنمية المغربي، وحزب الدعوة العراقي)، رغم كونها أحزاباً معارضة للأنظمة الديكتاتورية على امتداد زمني طويل، وتجذرها شعبيا، ونفوذها مؤسسيا، وعلاقاتها الإقليمية والدولية المهمة، فلا يمكنها أن تحقق انتصارا في ظل ظروف أمنية خانقة.
لقد انتظر «الإخوان المسلمون» ثمانين عاما للوصول إلى الحكم بفضل ثورة 25 يناير/ كانون الثاني، وهكذا حال «النهضة» التي تقود الترويكا في تونس بعد ثورة لم يتوقعها زعيمها راشد الغنوشي، ووصل حزب العدالة والتنمية المغربي إلى رئاسة الوزراء بفضل حراك ثوري اختار محمد السادس أن يستجيب ــ نسبيا ــ له طوعا، أما حزب الدعوة العراقي فتسلم الحكم في بغداد بعد إطاحة أميركا صدام حسين.
إن الطلب من «الوفاق» (أو أي حزب كلاسيكي) تحقيق انتصار ثوري أشبه بالطلب من طيار إجراء عملية جراحية، فلم ينجز أي من الأحزاب الكلاسيكية انتصاراً ثوريا، لكن انجازها المهم تمثل في رفض الرضوخ للأمر الواقع، ورفد الصراع بكوادر ومال وغطاء سياسي وشرعي.
وإذا كان الحزب السياسي الكلاسيكي لا يحقق انتصارا تاريخيا على السلطات الديكتاتورية، فإن النموذج البحريني الممانع مكبل، ولا يمتلك أدوات التغيير، كما امتلكها في فبراير ومارس 2011.
خامسا، لعل النموذج القادر على التغيير الجوهري هو الحراك الثوري، على غرار ذاك الذي أطاح الرئيسين السابقين المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي، والذي ساد البحرين بين فبراير ومارس ٢٠١١، ومازالت مفاعيله وارتداداته وآثاره وتداعياته بارزة.
إن قوة الحراك الشعبي على الأرض ستكون حاسمة في المسار الذي هو قيد التشكل حاليا، وقد يكون جاهزا للإشهار في ٢٠١٤، كما أن الحراك الشعبي المستمر قد يهب عاصفة من جديد في أية لحظة على شاكلة أحداث 2011.. بيد أنها لحظة قد تنتظرها البحرين فترة ليست بالقصيرة إلا إذا ساد اقتناع بأنه حتى الثورة يمكن التخطيط لها مسبقا، إذ ليس صحيحا أن الثورة كالزلزال الذي لا يمكن التنبؤ به. تقديري أنها حدث يمكن تخليقه وتهيئة الأرضية لانطلاقته.
سادساً، كل ذلك لا يعني، بالضرورة، تحصين الجمعيات المعارضة من الذهاب إلى «أوسلو» جديد، لظروف بعضها موضوعي، وأخرى تتعلق بطبيعة البنية الحذرة للمعارضة، ذلك أن تيار الاعتدال يقوم أصلا على فكرة التسويات المرحلية للوصول إلى نتيجة أفضل، إلا إذا تهيأ للمعارضة فرصة لتسديد ركلة جزاء قد تحقق منها هدفا غير متوقع.
لكن «أوسلو» جديداً يمكن أن يقصم ظهر «الوفاق»، والأهم أنه قد يوجه ضربة قاصمة للحراك الشعبي، كما حجّم «أوسلو» القضية الفلسطينية وأرهق حركة «فتح».
سابعاً، إن غرور السلطة يمنعها من قراءة المتغيرات المحلية والدولية، فيما طموح الحراك الشعبي يمنعه من توقع تعرضه للانكسار، مع أن ذلك حصل في الخمسينيات والتسعينيات، لكن هذا لم يمنع تجدده بصورة أكبر. ولا يساعد ذلك إلا على القول بأن الأرض البحرينية ستظل مسرحا لتوتر لن يحل إلا بتسوية «رصينة» وتاريخية وتقوم على التوافق الوطني.
* صحافي وكاتب من البحرين مقيم في لندن
(المقال جزء من تقرير موسع ينشره قريبا
مركز البحرين للدراسات في لندن)