الدكتور غسان ملحم*مما لا شك فيه أن الصورة الضبابية التي تتراءى خلف الأحداث المتسارعة في ساحات وميادين الربيع العربي تعكس خطورة الوضع القائم في ظل تدهور الظروف السياسية والأمنية. المنطقة تعيش حالة غير مسبوقة من الغليان والفوضى بفعل الغموض الذي يكتنف مصائر الشعوب والدول، وليس الحكام وحدهم. فكيف يمكن تقييم هذه التجربة بميزان الانتصار والهزيمة؟ وكيف يمكن توصيف المعركة من زاوية الخلفية السياسية والتاريخية؟ وما الذي يمكن قوله في استشراف المستقبل أمام انعدام فرص إنتاج الحلول والتسويات في الداخل ومن صلب التجارب والشواهد؟
ما يجري اليوم في العديد من البلدان العربية، في سياق ما بات يعرف بالربيع العربي، يجعل المراقب السياسي للحدث الإقليمي في مختلف الساحات التي يحتدم فيها الصراع السياسي، يتوقف لزاماً أمام تطور الأمور في الميدان، في ما لو أراد توصيف واقع الحال بشكل موضوعي. المسألة لم تعد مجرد صراع سياسي بين مختلف القوى والتيارات على السلطة، وربما لم تكن كذلك في الأساس، بالنظر إلى تواصل بل اشتداد حدة أعمال العنف والصدام المسلح. ما يجري في الوقت الراهن هو استنزاف لقدرات وطاقات هذه البلدان المتفجرة في غياب الحل السياسي الذي يحقق الاستقرار ويؤمن استمرار عجلة الحكم بشكل طبيعي. وهو يعكس عدم قدرة شعوب المنطقة على استيعاب سيرورة التحول نحو الديموقراطية.
من هذا المنطلق، ما يحصل هو بعيد كل البعد عن مبادئ وأصول الممارسة الديموقراطية الصحيحة. الشعوب التي انتفضت على ظلم واستبداد الأنظمة التي كانت تحكم، ليست ملمة بأساليب وقواعد العمل الديموقراطي، بل هي لا تعرف شيئاً عن نظام الحكم الديموقراطي. في خضم هذه الفوضى، أو هذا العراك الذي لا يشبه على الإطلاق المنافسة السياسية في إطار اللعبة الديموقراطية، نجد معظم الأطراف تتخبط من خلال السلوك السياسي المضطرب والمتوتر، الذي ينم عن عدم معرفة الناس لماهية الفكرة الديموقراطية، وربما الفكرة الدستورية. الناس لم يعرفوا قبلاً التعددية الحزبية التي تفترض قبول الرأي الآخر. وهم لا يعرفون أيضاً سبل تنظيم المشاركة الشعبية في العملية السياسية حتى تكون فاعلة ومؤثرة، ومن ذلك التظاهر والاعتصام وغيرهما من أساليب التنديد أو المعارضة في التعبير عن الرأي. كما أن الناس لا يمتلكون وسائل ضبط وعقلنة الممارسة السياسية التي تحقق التداول السلمي للسلطة. كل هذه الملاحظات تفيد عن عدم مطابقة ما يحدث على أرض الواقع لما يفترض فيه أن يكون تعبيراً عن التطور السلمي أو الانتقال الثوري إلى الحكم وفق منطوق الديموقراطية.
هذا التخبط الذي تعيشه المنطقة بفعل انتشار عدوى الربيع العربي يلقي على الجميع مسؤولية العمل بصدق وبإخلاص من أجل الوصول بأوطاننا ذات الأجنحة المتكسرة إلى بر الأمان. والبداية تكون بطبيعة الحال بتحديد الأهداف وترتيب الأولويات. قد تختلف القوى السياسية التي تقود التغيير المجتمعي أو تطالب به وتعلي رايته، في مقاربة التحديات الوطنية. لكن من غير المقبول الوقوع في محظور الفتنة والاقتتال الداخلي، وإنما الإسراع إلى إنقاذ ما تبقى ووقف سفك الدماء والتدمير الممنهج. لقد تفاقمت الانقسامات الفئوية واحتدمت تالياً الحروب الأهلية، بحيث لم تعد تحتمل بلدان المنطقة مزيداً من النزاعات التي من شأنها ضرب وحدة النسيج الاجتماعي وتفكيك البنية التحتية للكيانات القائمة وغير المستقرة. في ظل هذه الأجواء، ثمة من ينادي بالتغيير الديموقراطي كحل للأزمات المستعصية، ولكن ثمة من يرفض هذا الخيار، ويرى في مشروع التحول أو التطور الديموقراطي مغامرة غير محسوبة أو خطوة غير مطمئنة. فالديموقراطية التي تبلورت في المجتمع الأوروبي، قد لا تكون ملائمة لمجتمعات المنطقة العربية لاختلاف الحيثيات السياسية والاجتماعية. لقد تمكن الغرب قبلاً من ترسيخ قاعدة فصل الدين عن الدولة وتصفية نفوذ الكنيسة واعتماد العلمنة في بناء مجتمعات متجانسة ومتماسكة، بينما تنقسم شعوب ومجتمعات المنطقة بشكل عمودي. وما أكثر الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية، بحيث يصعب القول بصلاحية أو إمكانية تطبيق النظام الديموقراطي الذي من شأنه تسعير الخلافات الفئوية وربما تفتيت وحدة الكيانات السياسية. الكثير من الجماعات السياسية والمجموعات الثقافية هنا لم تتمكن حتى الحين من فك الارتباط بين الشريعة والشرعية، وربما لا تريد ذلك، بل تسعى إلى إقامة الحكومة الدينية، كل على طريقته، لا الحكومة المدنية.
لقد فشلت بلدان المنطقة العربية في تنفيذ مشروع بناء الدولة الوطنية وفق نظرية الحداثة في الغرب، والتي تتجسد في صورة مؤسسة الحكم المركزية التي ترتكز على قاعدة الاتحاد الوطني للأمة. فهي بمعظمها كيانات مصطنعة لا تستند إلى الحقائق الموضوعية التي تكمن في أساس نشوء الدول والأمم، ولا تعبر عن مضمون الوحدة الوطنية التي تحيلنا إلى رابطة الانتماء للوطن وفريضة الولاء للدولة. من هذا المنظار، لا تستطيع هذه الكيانات السياسية أن تدّعي تمثيل تلك الوحدة الوطنية التي تكفل انخراط جميع المواطنين في بوتقة العملية السياسية، كما لم تتمكن من المحافظة على مقومات الاندماج والتكامل بين مكونات النسيج الاجتماعي الوطني. هذا الفشل الذريع في تطبيق النموذج الغربي لمنظومة الدولة الوطنية الحديثة هو أحد أبرز الأسباب لانعدام الاستقرار والتماسك في العديد من الدول العربية والإسلامية التي تتخبط في صراعاتها الداخلية. وما ظهور الأصولية الإسلامية منذ عدة عقود مضت وانتشارها سريعاً في صلب المجتمعات العربية والمشرقية سوى نتيجة الفشل في تقليد تجربة الدول الأوروبية والأميركية في استكمال البناء الوطني الجامع لمؤسسة الدولة المدنية العصرية.
لعل السبب الرئيسي لذلك الإخفاق في مشروع بناء مؤسسات الدولة على طريقة الغرب في الحداثة هو الاختلاف العميق في السياق الحضاري والثقافي بين الشعوب والبلدان في هذه المنطقة والمجتمعات الغربية، وقد لا يتسع المجال عند هذا المقام للبحث في مجمل تلك الأسباب. لقد أخفقت النخب السياسية التي حكمت البلدان العربية منذ مرحلة الاستقلال وزوال الاستعمار المباشر حوالي منتصف القرن المنصرم في قيادة السفينة عبر التعبير عن تطلعات الشعوب وتحقيق النماء الحضاري والاقتصادي. وهي تنتمي إلى مختلف التيارات السياسية والأيديولوجية، فمن هذه النخب العربية التي تقبض على نظم الحكم، تلك التي تعتنق الليبرالية والاشتراكية والقومية العربية أو التي انبثقت عن الانقلابات العسكرية في الكثير من الحالات. عجزت هذه النخب وهذه الأنظمة في جميع الأحوال عن تقديم نموذج تجربة يحتذى به. في هذا السياق، يأتي صعود الحركات الإسلامية إلى الحكم في هذه اللحظة الفاصلة، ومن هذه الحركات السياسية التي تندرج تحت مسمى الإسلام السياسي، التنظيمات الراديكالية التي ترفض حتى الحلول الوسط أو التسويات السياسية.
تسعى هذه الحركات الإسلامية، كسائر القوى السياسية والتيارات الشعبية في الساحات المحلية الإقليمية، إلى الإمساك بزمام السلطة. وهي شرعت بالترويج لفكرة صعود الإسلام السياسي إلى الحكم، فدخلت سوق التنافس السياسي من خلال الانخراط في الحراك السياسي الشعبي بقصد الوصول إلى سدة الحكم بطريقة بانورامية. في هذا الصدد، ربما تعكس سلوكيات تلك الأحزاب، على أرضية المنطلقات الأيديولوجية، عدم قدرة الحركات الإسلامية على قيادة التحول نحو الديموقراطية. وهي لما تقدم قد لا تمثل بنظر الكثيرين البديل الصالح للأنظمة البائدة في التطوير السياسي والدستوري المفترض. الخلفية السياسية والفكرية التي تنطلق منها هذه الحركات، كإطار لتنظيم العمل السياسي على أسس دينية مستقاة من نظرة معينة إلى الشريعة الإسلامية، قد لا تتسق مع مبدأ الحكم للأكثرية في مقابل معارضة الأقلية. بعبارات أخرى، فكرة الحكم بطريقة الديموقراطية قد لا ترد ضمن مخططات تيارات الإسلام السياسي لإعادة بناء السلطة والدولة، مثل جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين وغيرهما، ما لم تقدم هذه الأطراف فعلاً على تقديم تنازلات مبدئية لتتماشى مع صيغة النظام الديموقراطي في ظل الدولة المدنية.
قد يتعارض الإسلام السياسي مع محاولة نشر الديموقراطية في بلدان المشرق، فالإسلام نفسه لا يتبنى هذه النظرية في الأساس. لكن القوى التي ترفع شعار الإسلام للخروج من المأزق الراهن مطالبة بالمبادرة إلى المجاهرة بكل صراحة وجرأة بمشروع الإصلاح وإعادة البناء الذي تتبناه بما يتناسب مع المعتقدات التي تؤمن بها. أما إذا كانت تدرك استحالة هذا الأمر في التطبيق، فلتعلم حينئذ أن المرحلة تتطلب قرارات شجاعة من أجل الوصول في نهاية المطاف إلى صيغة فضلى تحفظ ماء الوجه وتصون الأمانة وتأخذ العبر من التاريخ البعيد والقريب تبعاً للقناعات التي تشكلت لديها!
* باحث سياسي