يمر الاقتصاد الأردني بأزمة تبدو مصيريّة، وهو مهدّد بالتراجع الحاد نتيجة النّهج الاقتصادي الرأسمالي الليبرالي الذي حرّر السوق وباع مقدرات وثروات البلد بأبخس الأثمان. وأرهقت الميزانيّة بفوائد قروض صندوق النقد والبنك الدوليين، اللذين ينهبان العالم ويفرضان شروطهما التي تؤدي إلى انسحاب الدولة من الاقتصاد ورعاية المجتمع، وذلك من أجل ضمان سداد فوائد قروضهما. وقد أفرزت هذه السياسة الفاسدة فئة ضيقة جداً، أشبه بالعصابة، نهبت البلد وباعت مؤسساته لرؤوس أموال وشركات أجنبية باتت تتحكّم في كل الموارد الأساسيّة لهذا البلد الصغير.لقد أدّى النهج الرأسمالي الليبرالي إلى تدمير واسع لقطاعات الاقتصاد المحلي والإنتاج المختلفة، كالزّراعة والصناعات والحرف، وزيادة أعداد العاطلين من العمل، مترافقاً مع زيادة جنونيّة لتكاليف المعيشة، وتسبّب بمعاناة الغالبيّة الساحقة من أبناء المجتمع من مزارعين وعمّال وموظفين، وتراجع أو انهيار الطبقة الوسطى لمصلحة الطبقة البرجوازيّة الحاكمة. رغم كل ذلك، فقد شدّدت النّخبة الحاكمة في أكثر من مناسبة، على تمسّكها بنهجها الاقتصادي الفاسد ــ رغم أنّه ينهار عالمياً ــ حتى تتمكّن هي من الاستمرار في نهبها للمال العام. وذلك في الوقت الذي تبدو فيه غير مكترثة بحقوق الشعب الأساسيّة التي وضعها النظام في عهدة الشركات الأجنبية والبنك الدولي... لقد أدى هذا النهج، مترافقاً مع الاستبداد، إلى انتفاضة تشرين الغاضبة، تماماً كبقية انتفاضات شعوب العالم.
انفجرت قطاعات واسعة من الشعب يوم الإعلان عن رفع الدعم عن أسعار المحروقات، كما كان متوقعاً. وتعاملت معها السلطة باستعداد وذكاء نسبي قياساً بذكاء الأنظمة العربية الأخرى. ربما تكون السلطة قد نجحت في احتواء الغضب الشعبي، لكنها تتوّهم لو كانت تعتقد أنّها نجحت في تجاوز الأزمة والسيطرة على الوضع، فالاحتقان لا يزال موجوداً، وسيزداد عندما يبدأ الناس بتلّمس ارتفاع الأسعار المستمر. وستنضم شرائح أوسع إلى صفوف السّاخطين إلى الوضع الاقتصادي المنهار.
في المقابل، تُواجَه أزمة الشارع ورغبته في إحداث التغيير مصاعب وعقبات متعددة، تجعل من التغيير عمليّة مخيفة وغير مضمونة. أهمّها على الصعيد الداخلي، عدم وجود بديل لدى المعارضة التي يفترض أن تقدم بديلاً للشارع المحتقن وتقود التغيير. بينما هي ــ المعارضة ــ في الحقيقة لا تملك بديلاً، بل وتخشى التغيير، ولا تدرك حتميته أمام قوّة الشعب، وذلك لأنّها مفصومةً عنه. وسبب انفصامها هو بنيتها السلطويّة التي أفرزت قيادات برجوازية محافظة، أكلها الخمول والصدأ، ولا ترى سوى مصالحها كسلطة حزبيّة مرتبطة بسلطة الدولة وتسعى إلى تقاسمها. وبسلوكها ونهجها تعمل هذه المعارضة على احتواء وحرف الانتفاضة، وتشتيتها وإضعافها أحياناً. يشمل ذلك أقصى اليمين وحتى «أقصى اليسار»، الذي قرّر المشاركة في الانتخابات النيابيّة القادمة... أمّا على الصعيد الخارجي، فقد تأثّر الحراك الشعبي المطالب بالتغيير سلباً، كغيره في المنطقة، بسبب العنف الهستيري الذي واجهته الثورة في سوريا وليبيا من قبل الأنظمة الهمجيّة هناك.
للانتفاضة الأردنية جذور اقتصادية واضحة، وكل حديث عن مطالب ديموقراطيّة إصلاحية كقانون الانتخاب أو غيره ليس سوى وهم وتشويش على التّناقض الحقيقي. ولا مخرج للأزمة سوى بالتمرّد على صندوق النقد الدولي، وتنازل النخبة الحاكمة عن الهيمنة على السلطة والاقتصاد. أمّا الاستبداد واستجداء المساعدات والتجارة السياسيّة والأمنيّة وزيادة الضرائب والاقتراض الخارجي، الذي يضع شروطاً اقتصادية وسياسية تخدم مصالح النخبة الرأسماليّة العالميّة (كتحرير أسعار المحروقات من أجل ضمان تسديد فوائد القروض التي تتراكم عاماً بعد عام، وتسدّدها الطبقة الحاكمة من جيوب المواطنين...)، ليس حلاً للأزمة المتراكمة، بل تأجيلاً وتضخيماً لها، وتدميراً للإنسان والمجتمع والأرض. ولا يمكن أن تؤدي هذه الأزمة سوى إلى تغيير عميق، والحديث هنا ليس فقط عن الأردن، بل العالم أجمع، الذي بدأ فيه النظام الرأسمالي المترابط بالتراجع والانهيار، بعدما قضى على شعوب ودمّر البيئة الطبيعية واستنزف
مواردها.
التغيير قادم بقوّة الطبيعة البشريّة، والخيار أمام الأنظمة هو فقط بين أمرين، إمّا أن يكون التغيير سلمياً كما في إيسلندا، أو دموياً كما في سوريا، إذ تمتاز غالبيّة الأنظمة العربية بتخلّفها وهمجيّتها وسلطويتها، لكن يبدو أنّ كل ما تهتم به هذه الطبقة المسيطرة هو استمرار النّهب والهيمنة، وتطوير أدواتها القمعية بميزانيّات عالية، استعداداً للصدام الطبقي الحتمي. وأمّا المعارضات السياسية القائمة، فالخيار أمامها هو أيضاً أمام أمرين، إمّا صياغة بديل حقيقي والنّضال من أجل تنظيم الانتقال إلى وضع جديد، أو مزابل التاريخ.
* كاتب وناشط من الأردن