في خضم المماحكات السياسية وتصغير القضية الفلسطينية الى قضية إحسان يقوم به الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وتقديم الأهداف النضالية التحررية الى قضية إعلان استقلال، أو دولة غير عضو في الأمم المتحدة قبل تحقيق حق العودة، وحصر هذا «الإنجاز» لصالح 1/3 الشعب الفلسطيني، يضيع الكثير من أبجديات العمل التحرري والأهداف النضالية.وفي ظل غياب أي أفق سياسي يعطي أملاً للشعب الفلسطيني بإمكانية التخلص من إسقاطات اتفاقيات أوسلو التي تم رفضها وبشكل واضح في انتخابات 2006، وسقوط البديل الذي تم التصويت له في فخ الجدل البيزنطي الأوسلوي حول إمكانية إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود 67، يتعيّن على المخلصين من المثقفين والناشطين السياسيين عدم الوقوع في مستنقع ما يردد وعلى نحو ببغاوي روبوتي عن «إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 وعودة اللاجئين الفلسطينيين الى قراهم ومدنهم التي هُجّروا منها عام 48»!
من الواضح الآن لأي ناشط أو محلل سياسي أنّ هذه المعادلة أصبحت مستحيلة بسبب جمعها بين إقامة الدولة والعودة في الوقت نفسه. ولكن مما لاشك فيه أنّ حصر القضية الفلسطينية والأهداف النضالية بالجزء الأول من هذه المعادلة، أي إقامة الدولة، بدأ يأخذ أولوية غير مسبوقة، إذ إنّ الهدف التحرري أصبح ينحصر في النضال من أجل إقامة معزل عرقي «بانتوستان» منزوع السلاح على نمط المعازل الجنوب أفريقية السيئة السمعة والتي لم تنل أي اعتراف دولي إلا من إسرائيل. بمعنى آخر، أنّ الشرخ العمودي في الوعي النضالي الفلسطيني، من خلال تصنيم فكرة الدولة على حساب التحرير وإسقاط حق العودة، بدون الاعتراف بذلك، والتكرار المملّ عن «المشروع الوطني الفلسطيني»، بالضرورة يتصادم مع تطلعات الغالبية العظمى من أبناء الشعب الفلسطيني من حيث كونهم لاجئين كفل القانون الدولي حق عودتهم.
ومن هنا، فإنّ خيار الدولة المستقلة أصبح مستحيلاً لأسباب عدّة، منها: اتخاذ إسرائيل خطوات عملية على الأرض لإسقاطه من تحويل المستوطنات بعد توسيعها الى مدن وزيادة عدد المستوطنيين الى أكثر من نصف مليون، وبناء جدار الفصل العنصري، وتوسيع القدس الكبرى، وعملية التطهير العرقي الممنهجة فيها، وتحويل القطاع الى أكبر مركز اعتقال على سطح الكرة الأرضية، بموافقة ومشاركة دولية وعربية... ومن الواضح أن الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها قد أصابها فيروس أوسلو من خلق وعي زائف يحوّل النضال التحرري من أجل عودة اللاجئين وقضية نضال من أجل حقوق الإنسان والديموقراطية الحقة الى قضية «استقلال وطني» محدود السيادة (وبدون ذكر ذلك طبعاً) وعلم يرفع، ونشيد وطني، وقطعة أرض صغيرة تمارس عليها «سيادة» بلدية، وتفتح وزارات، ولكن كل ذلك بإذن من المحتل!
وعلى الطرف الآخر من المعادلة الفلسطينية، تطرح هدنة أحياناً لمدة 10 أعوام وأحياناً أخرى لمدة 20 عاماً. ويتم الجدل على أنّ هذا هو «البديل» لسقوط الخيار الأول. وعلى الرغم من عدم وجود فوارق جوهرية من حيث مبدأ القبول بحل عنصري للقضية الفلسطينية بين هذين الطرفين، إلا أنّ التناقض الذي من المفروض أن يكون ثانوياً أصبح بارزاً وبشكل أساسي، وتم توظيفه في خدمة الحل العنصري. لا شك أنّ ما يسمى «البديل» والذي يراهن أيضاً على إمكانية المحافظة على هدنة لمدة 20 عاماً والاعتماد على مبدأ أن يقبل هذا الطرح لبراغماتيته المغرية للمجتمع الدولي، في الحقيقة يفتقر إلى رؤية استراتيجية واضحة لحلّ (الصراع) بطريقة تضمن عودة اللاجئين. ما معنى 20 عاماً من الهدنة؟ أليست هذه رسالة للاجئين بأن يصبروا 20 سنة أخرى حتى تتغير موازين القوى؟ وماذا إذا لم تتغيّر موازين القوى؟
يضاف إلى ذلك الحديث عن حلّ الدولتين وجعله الخطاب السياسي السائد وبالذات بعد 1993، انخراط بعض المثقفين المحسوبين على اليسار تاريخياً والذين مروا عبر عملية أنجزت بعد حداثية جعلتهم يتحولون اجتماعياً وسياسياً إلى الصف اليميني، وأرغب بتسميتهم «اليسار النيوليبرالي»، في الدفاع عن هذا الحل على أنّه الوحيد المتاح في ظلّ موازين القوى السائدة. وهؤلاء يهددون فقط بطرح حل الدولة الواحدة، مع الخلط بين حل الدولة الديموقراطية وحل الدولة الثنائية القومية، كفزاعة لا فقط لإسرائيل، بل أيضاً لنا سكان الأرض الأصليين. أو أن حل الدولتين لا يزال برنامجاً مرحلياً مناسباً. ما هذه إلا محاولات تدل على سقوط أيديولوجي مدوّ في مستنقع تبرير ما لا يمكن تبريره بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والستالينية الجاهزة القوالب، وعدم الإيمان بقوة الشعب والتضامن الدولي الجماهيري في إحداث تغييرات ثورية على نمط ما حصل ضد نظام التفرقة العنصرية.
ومن هذا المنطلق، تم تقديم طلب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لنيل الاعتراف بدولة فلسطين كعضو غير مراقب. وهذا يقوم على أساس قرار اتخذته منظمة التحرير الفلسطينية في السبعينيات من القرن الماضي يقضي بتبني البرنامج الأكثر مرونة والمتمثل في حل الدولتين. يؤكد هذا البرنامج أنه يمكن حل القضية الفلسطينية، جوهر «الصراع العربي الإسرائيلي»، عن طريق إقامة «دولة مستقلة» في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشرقية. وبموجب هذا البرنامج، سوف يعود اللاجئون إلى دولة «فلسطين»، لا إلى ديارهم الموجودة في إسرائيل التي تُعرِّف نفسها بأنّها «دولة اليهود». غير أنّ «الاستقلال» لا يتصدى لهذه المسألة ولا يلتفت لنداءات 1.2 مليون فلسطيني مواطن في إسرائيل تدعو إلى تحويل الصراع إلى حركة مناهضة للفصل العنصري، إذ إنّهم يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثالثة!
ومن المفترض أن يُنفذ ذلك كله بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من الضفة الغربية وغزة. ولكن، هل سيكون الانسحاب بمثابة إعادة نشرٍ للقوات وحسب، كما حدث إبان أوسلو؟ ومع ذلك، فلا يزال المؤيدون لهذه الاستراتيجية يدّعون بأنّ الاستقلال سيضمن تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية كشعب واحد، وأنّه يمكن حل القضية الفلسطينية طبقاً للقانون الدولي، وهو ما سيُلبي الحد الأدنى من الحقوق السياسية والقومية للشعب الفلسطيني. ولننسَ أنّ لإسرائيل 573 حاجزاً ونقطة تفتيش دائمة منتشرة في الضفة الغربية المحتلة و69 نقطة تفتيش متنقلة؛ ولنتجاهل أيضاً بأنّ المستعمرات القائمة «المقتصرة على اليهود» قد ضمت أكثر من 54 في المئة من مساحة الضفة الغربية.
ومن الجدير التذكير بأنّ منظمة التحرير الفلسطينية قد رفضت في يوم من الأيام فكرة «الاستقلال» تلك لأنّها لم تلبِّ «الحد الأدنى من الحقوق المشروعة» للشعب الفلسطيني، ولأنّها تمثل طرحاً مخالفاً للنضال الفلسطيني الساعي للتحرير، وليس الاستقلال. إن البديل المقترح لهذه الحقوق هو دولة بالاسم فقط. وبعبارة أخرى، يجب أن يقبل الفلسطينيون استقلالاً تاماً على جزءٍ يسير من أرضهم وأن لا يفكروا أبداً في السيادة على حدودهم أو ضبطها أو في احتياطاتهم المائية، والأهم من ذلك كله، في عودة اللاجئين. فهذا ما يمثله اتفاق أوسلو وهو أيضاً «إعلان الاستقلال» الذي يتم الترويج له في أروقة الأمم المتحدة.
والغريب أنّ إعلان الاستقلال هذا لا يَعد حتى بأن يتناغم مع خطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة في عام 1947 والتي منحت الفلسطينيين 47 في المئة فقط من مساحة فلسطين التاريخية، رغم أنّ تعدادهم كان يفوق ثلثي عدد السكان. وبإنشاء بانتوستان وتسميته «دولةً قابلةً للحياة» سوف تتخلص إسرائيل من العبء الواقع على كاهلها والمتمثل في 3.5 ملايين فلسطيني وسوف تحكم السلطة الفلسطينية أكبر عدد من الفلسطينيين على أضغر مساحة من الأراضي المجزأة ـــ وهي أجزاء يمكن أن نسميها «دولة فلسطين». وقد حظيت هذه الدولة باعترافٍ من عشرات البلدان ـــ ما يجعل الزعماء القبليين لبانتوستانات جنوب أفريقيا سيئة السمعة يحسدوننا!
لا يَسعُ المرء إلا الافتراض بأن «الاستقلال» الذي كثر الحديث عنه، والتغني به، سوف يعزز ببساطة الدور نفسه الذي لعبته السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقات أوسلو، وهو وضع التدابير البوليسية والأمنية لنزع سلاح فصائل المقاومة الفلسطينية. فقد كان هذا أول المطالب التي طُلبت من الفلسطينيين في أوسلو عام 1993 وفي كامب ديفيد عام 2000 وفي أنابوليس عام 2007 وفي واشنطن العام الماضي. وفي الوقت نفسه، لم تُفرَض على إسرائيل ضمن إطار المفاوضات والمطالب هذا أية التزامات أو تعهدات! وكان المفترض إعلان وفاة التنسيق الأمني فور إطلاق إسرائيل أول رصاصة على غزة، إن لم يكن قبل ذلك بكثير!
ومثلما رمزت اتفاقات أوسلو إلى نهاية المقاومة الشعبية المتمثلة في الانتفاضة الأولى، فإنّ لإعلان الاستقلال هذا هدفاً مشابهاً وهو إنهاء الدعم الدولي المتنامي للقضية الفلسطينية منذ العدوان الذي شنته إسرائيل على غزة في شتاء 2008 ــ 2009 وهجومها على أسطول الحرية، ونمو حملة المقاطعة الدولية بقيادة فلسطينية. غير أنّ الإعلان لا يرقى إلى مستوى منح الفلسطينيين الحد الأدنى من الحماية والأمان في مجابهة أي هجمات وفظاعات إسرائيلية مستقبلية!
لقد كان اجتياح غزة وحصارها ثمرةً من ثمار أوسلو. فقبل توقيع اتفاقات أوسلو، لم تستخدم إسرائيل مطلقاً كامل ترسانتها من طائرات الـ إف 16 وقنابل الفوسفور والأسلحة المحشوة بكثافة بالمعادن الخاملة (أسلحة الدايم) من أجل مهاجمة مخيمات اللاجئين في غزة والضفة الغربية. لقد قضى أكثر من 1،200 فلسطيني نحبهم إبان الانتفاضة الأولى في الفترة 1987 ــ 1993. أما في عام 2009، فقد جاوزت إسرائيل ذاك العدد في اجتياحها الذي دام ثلاثة أسابيع، حيث قتلت بوحشية أكثر من 1،400 فلسطيني في غزة وحدها، ثم عادت لتقتل 174 وتجرح الآلاف هذا العام. وهذه الأعداد لا تشمل الضحايا الذين سقطوا جراء الحصار الإسرائيلي المستمر منذ عام 2006 والذي اتسم بالإغلاقات الإسرائيلية والهجمات المتكررة قبل اجتياح غزة وبعده.
إن ما يقدمه «إعلان الاستقلال» للشعب الفلسطيني، في نهاية المطاف، هو السراب. بانتوستان في ثوب «وطن مستقل». وعلى الرغم من أنه يحظى باعتراف الكثير من البلدان الصديقة، فإنه عاجز عن منح الشعب الفلسطيني الحرية والتحرر. إن النقاش الناقد ـــ على عكس النقاش المنحاز أو الغوغائي ـــ يتطلب تمحيصاً في مواطن تشويه التاريخ من خلال العرض الأيديولوجي المغالط للوقائع. والمطلوب هو نظرة إنسانية تاريخية للقضيتين الفلسطينية واليهودية، نظرةٌ لا تنكر أبداً حق الشعوب، وتضمن المساواة الكاملة، وتلغي الفصل العنصري ـــ بدلاً من الاعتراف ببانتوستان جديد بعد مرور 17 عاماً على سقوط الفصل العنصري في جنوب أفريقيا!
إنّ ما حصل في غزة أخيراً من مجازر غير مسبوقة في حجمها ورمزيتها ذات نزعة الإبادة، وما صاحبها من نصرٍ غير مسبوق في ظل خلل هائل في توازن القوى، يجب أن ينهي وبلا عودة «صناعة السلام» وما صاحبها من حلول قزمت القضية الفلسطينية الى ما سمّي الإشكاليات بعد الاستعمارية (The Postcolonial Condition) على حساب مبدأ التحرير. وما فعلته غزة 2012 هو بداية تحرير العقل الفلسطيني.
* محلّل سياسي مستقلّ مقيم في غزّة، أستاذ مشارك في الأدب الإنكليزي والدراسات الثقافيّة، مستشار لدى مركز «Al-Shabaka ـــ شبكة الدراسات الفلسطينيّة»