رغم حركته الدبلوماسيّة النشطة، واعتراف عدد من العواصم به ممثّلاً للشعب السوري، أو «لتطلّعاته»، لا يبدو أنّ «ائتلاف المعارضة السورية» الجديد، برئاسة الشيخ أحمد الخطيب، يتمتّع بالقدرة اللازمة للعب دور المفاوض الرئيسي في أيّ خطة مقبلة تسعى لوقف العنف، والشروع في مرحلة سياسيّة انتقالية، تنهي الصراع الدائر في سوريا، بصرف النظر عن مضمونها وآليّات تنفيذها. يتجلّى ذلك في قيام عدد من أبرز كتائب ومجموعات المعارضة المسلّحة المقاتلة في حلب وريفها، بنشر بيان في 19 تشرين الثاني الماضي، تعلن فيه رفضها الاعتراف بالائتلاف، بل واتّهامه بالعمالة والتآمر على الثورة. كان من بين الموقّعين على البيان جبهة النصرة، ولواء التوحيد، وكتائب النصرة والتوحيد، وكتائب أحرار الشام، وأحرار سوريا، ولواء حلب الشهباء الإسلامي، وغيرها.جاء هذا التطوّر ليكشف مدى اتّساع الفجوة بين قوى المعارضة السياسيّة، التي تصول وتجول بين العواصم والمحطّات الفضائيّة، بخطابها الضبابي، وضعف نفوذها الحقيقي في الواقع، وبين «المجاهدين» من سوريين وغيرهم، على اختلاف كتائبهم وألويتهم، الممسكين بالأمور فعليّاً على الأرض في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، والذين يسعى القسم الأكبر منهم نحو هدفٍ محدّد: تأسيس «دولة إسلاميّة عادلة». وهو ما أعلن هؤلاء صراحةً التوافق عليه في ذات البيان الذي أوضحوا فيه موقفهم من الائتلاف المعارض.
وفي خبر لا يخلو من دلالة، تناقلت بعض وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونيّة، بياناً نُسِبَ إلى ما يسمّى «المجلس العسكري والمجلس الانتقالي في حلب»، يقضي بمنع النساء من قيادة السيارات، استناداً إلى فتاوى مشايخ الوهّابيّة، كابن باز والعثيمين وغيرهم. ورغم أنّ المجلس المذكور نفى أيّ علاقة له بالبيان، ووصفه بالمزوّر، وأنّه «يهدف إلى التشويش على الثورة وعمل المجلس الذي يتركز على تأمين الخدمات المدنية»، غير أنّ إمكانيّة حدوث أمور مشابهة قائمة فعلاً، بالنظر إلى تكوين الجماعات الإسلاميّة الموجودة على الأراضي السوريّة، ومرجعيّاتها الأيديولوجيّة... والماليّة.
ذلك أنّ تلك الجماعات، على اختلافها، عندما تقوم بما تمليه عليها أجنداتها ومصالحها، أو حتى عند تسوية حساباتها فيما بينها، تسند ذلك إلى «الأدلّة الشرعيّة»، باعتبارها تعمل بهدي «الشريعة» وتسعى لتطبيقها. من ذلك، ما جرى في ريف حلب بين «لواء عاصفة الشمال»، ومتزعّمه عمّار داديخي، الذي ذاع صيته في قضيّة المواطنين اللبنانيين المخطوفين في سوريا، وبين «هيئة أمن الثورة»، حين أعلنت الأخيرة «الحرب عليه» بعد التثبت من وجود المبرر «الشرعي» الذي يتيح لها محاربته وكلفت لواء «عمرو بن العاص» لقتال الفئة الباغية «حتى تفيء إلى أمر الله»» (الأخبار العدد ١٨٥٩ الاربعاء ١٤ تشرين الثاني ٢٠١٢).
على هذا، لا يوجد ما يمنع مقاتلي المعارضة السوريّة، وأغلبهم اليوم «مجاهدون» أكثر من كونهم ثوّاراً، من توجيه رصاص بنادقهم ضدّ المختلفين معهم سياسيّاً، أو أيديولوجيّاً حول شكل الدولة وبنية نظام الحكم الذي تحتاج إليه سوريا ما بعد نظام البعث، عندما يجدون «المبرر الشرعي» لذلك، وغالباً ما يكون جاهزاً وتحت الطلب. أو لعلّ قطار «الجهاد» لدى جماعات منهم لن يتوقّف قبل استعادة فردوسهم المفقود، في «دولة إسلاميّة عادلة»!
ربّما يكون ذلك الهدف هو ما دفع نعمان ديمولي للمجيء إلى سوريا ونصرة «المجاهدين» فيها، حتّى مقتله في الثامن من تشرين الثاني، خلال معارك بين الجيش السوري و«جبهة النصرة» في تلبيسة شمال حمص، ليعلَن عنه بوصفه «أول شهيد كوسوفي في سوريا». هذا ليس غريباً على سلوك معتنقي السلفيّة الجهاديّة، فهم مؤمنون بفكرة معلّمهم الأوّل سيّد قطب: «لا وطن لمسلم ولا جنسية، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض»، إذ يحلّ مفهوم «الوطن/ الجماعة» لديهم محلّ «الوطن/ الأرض». وقد سبق للجهاديين السوريين أن أبلوا بلاءً يُشهد له في أفغانستان والعراق، وحتّى في البلقان.
وفي مزايدات سوق «الشريعة» أو «المرجعيّة الإسلاميّة»، يغدو التنافس بين الملتزم والأكثر التزاماً هو معيار الشرعيّة. أمام هذا المشهد يُصبح الإسلام السياسي التقليدي، ممثّلاً بعنوانه الأبرز: جماعة الإخوان المسلمين، على تعدّد مسمّياتها، صاحبَ خطابٍ «معتدل ومنفتح»، مقارنة بالسلفيّة الجهاديّة.
غير أنّ ما يعد به الطرفان لا يختلف من حيث النوع والجوهر، وإن تفاوتت الدرجة، واختلفت الوسائل. إذ جاء في وثيقة لإخوان سوريا، بعنوان «المشروع السياسي لسوريا المستقبل ــ رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سوريا» أنّ «الشريعة الإسلامية في مصدريها الخالدين: الكتاب والسنة هي مصدر رؤيتنا لصياغة مشروع حضاري، يتصدى لتحدّيات الواقع، وما فيه من أسن وركود أو قهر وبغي وظلم». وفي غير وثيقة، يتحدّث برنامجهم السياسي عن «أسلمة القوانين تدريجياً لأن الشريعة المنزلة من عند الله أرفق وأحكم وأرعى للناس أجمعين». تعود هذه النصوص إلى ما قبل الربيع العربي بسنوات، فما بالك وقد صعدوا اليوم على أكتاف الانتفاضة الشعبيّة، ووصل أشقّاؤهم من إخوان مصر وتونس إلى السلطة؟!
بصورة عامّة، ثمّة عمق فقهي في الفهم الإسلامي للدولة، يجعل غاية نظام الحكم الإسلامي، وهدفه الأسمى، هو «إتمام العبودية لله سبحانه على مستوى الدولة بعد أن تحققت على مستوى الفرد» والوسيلة لضمان هذا الهدف «تحكيم الشريعة ونشر أحكام الإسلام». في مقابل الغاية الأساسية للنظام السياسي في الدول الديموقراطية، المتمثّلة في إيجاد الآليات التي تحقق توافق المواطنين على طريقة الحكم، من حيث اتخاذ القرار والمحاسبة والتداول السلمي للسلطة، وتضمن بكل تأكيد حرية الاعتقاد. تجدر الإشارة إلى مسألتين لا يتّسع المجال لبحثهما، هما موقف «الشريعة الإسلاميّة» من المرأة، ومن غير المسلمين، وما يترتّب عليه من تعارض مع المفاهيم الديموقراطيّة الحديثة وحقوق الإنسان.
بعيداً عن الوثائق والنظريّات، تقدّم مصر اليوم، من خلال التجربة الناشئة للإخوان المسلمين في السلطة، مثالاً واقعيّاً عن كيفيّة إدارة البلاد من قبل من يوصفون بالاعتدال ــ مقارنة بالتيارات السلفيّة والسلفية الجهاديّة ــ حيث يسعى الرئيس الإخواني محمد مرسي، عبر إعلانه الدستوري الأخير، إلى تركيز الصلاحيّات التشريعيّة والتنفيذيّة بين يديه، وتالياً يدي جماعته، وإضفاء شيء من العصمة والقداسة على قراراته، بحيث لا سلطة للقضاء عليها، في سقوطٍ سريعٍ ومدوّ لكلّ ادّعاءات الإخوان حول احترامهم للتعدّدية والديموقراطيّة. وغير بعيدٍ أن تكون الضّجة الإعلاميّة، التي واكبت دور مرسي في إنضاج التهدئة بين حماس وإسرائيل في غزّة، نوعاً من حملة دعائيّة تروّج له كداعم للمقاومة، الأمر الذي ظنّ أنّه سيمكّنه من تمرير إعلانه الديكتاتوري على طريق أَخْوَنَة مصر وابتلاعها.
بالعودة إلى تعقيدات المشهد السوري، لا شكّ أنّ هناك ما يكفي من الأسباب التي حادت بالانتفاضة الشعبيّة السلميّة عن مسارها، تبدأ بممارسات النظام وسلوكه، ولا تنتهي عند دور القوى الإقليميّة والدوليّة. لكنّ تحليل الواقع وفهمه شيء، والتعامل معه شيء آخر. من هنا، يُفترض بكلّ من يزعمون النضال من أجل الديموقراطيّة في سوريا، إدراك الخطر المحدق والتعامل معه بجدّية، بعيداً عن الشعارات الجوفاء التي تعد بالخلاص السحري حال إسقاط النظام، فالمستقبل هو ممكنات الواقع واحتمالاته، ولا يبدو أنّ الاتّجاه نحو بناء دولة ديموقراطية عصريّة لكل مواطنيها هو ما ينتظر السوريين في المدى المنظور.
* كاتب سوري