استفادت الفئات السورية المفقرة من النظام الشمولي التسلطي منذ الستينيات، ولا سيما من خلال الاصلاح الزراعي والتعليم العام والتأميم وبعض الحقوق المرتبطة بها، لكن استفادت كذلك فئات من التجار في دمشق وحلب وبقية المدن السورية من هذه الشمولية، وعقدت معها صلات تجاربة ومالية، وشكلت ثرواتها الهائلة ولم تتعرض لضرائب حقيقية. ومعروف في سوريا، أن الموظف يدفع ضرائب أكثر من تاجر بالحريقة في دمشق مثلاً. هذه الاستفادات كانت لمصلحة الفئات المسيطرة سياسياً واقتصادياً، أي العسكر ومن معهم والتجار، بينما الفئات المفقرة، راحت تتدهور أوضاعها بدءاً من تسعينيات القرن الماضي، وازداد التدهور على نحو كاسح بعد عام 2000 لتصبح البلاد في 2011 متخمة بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذا بفعل شرط اقتصادي عام، إذ تصل البطالة إلى 33 بالمئة وتدهورت أوضاع الزراعة والصناعة المتوسطة، وارتفعت أسعار المحروقات وتراجعت قيمة العملة، عدا شرط قديم/ جديد ألا وهو الشمولية المسيطرة على النظام السياسي والعنف اللامحدود والممارس فقط في الحروب الخارجية.ضمن هذا الإطار تدهورت أوضاع الفئات المفقرة، التي ناصرت الحكام في الستينيات والسبعينيات، لكنها أقُصيت كلية عن السيطرة لمصلحة إحكام أدوات ذلك النظام على المجتمع ولا سيما على تلك الفئات ــ ومنع المشاركة السياسية للتجار ــ وهي أكثر الفئات تضرراً في أوضاعها؛ وهنا من المفيد قراءة كتاب جمال باروت عن «العقد الأخير في سورية عام 2011» ودراسات كل من الدكتور عارف دليلة والدكتور عصام الزعيم والدكتور نبيل مرزوق ومجموعة من الاقتصاديين السوريين المرموقين. ومثل تفاقم الشرط الاقتصادي، بداية الغضب والرفض لسياسات النظام، التي قمعت بشدة كبيرة. رؤية السوريين لمصر وتونس وإلى ثورتيهما المنتصرتين، أدت نفسياً على نحو أساسي إلى نشوء إمكانية ذلك الانتصار؛ وهو ما مثل عامل انتشار كثيف وسريع لكافة مناطق سوريا المفقرة، حين بدأت الثورة.
الشرط الاقتصادي ذاك، نتج عن الفساد والنهب، اللذين مارسهما أفراد ذلك النظام بالدرجة الأولى، ومن التجار المرتبطين بالفئات المسيطرة على نظام الحكم بالمعنى السياسي (عسكر وأمن وبقية المرتبطين بهم من كافة فئات المجتمع) وهو ما أدى إلى ضرورة تبني نظام اقتصادي جديد، لإعادة تشغيل أموالهم ولزيادة النهب على نحو أكبر وبالتالي الخضوع لسياسات العولمة الاقتصادية ولاحقاً السياسية. وكان لا بد من الليبرالية الاقتصادية، وفي الوقت ذاته، التخلص من اقتصاد الدولة الذي يقيّد نهبهم ذاك، ويضطرهم إلى صرف نقود كثيرة من أجل التعليم والمعامل والصحة والبنية التحتية التي جرى تعطيله من أجل خصخصته وإيجاد تبرير فعلي لإشهار إفلاسه وبيعه! هكذا تبقى أدوات الدولة السياسية هي فقط القوية: الجيش وتحديداً بعض الفرق العسكرية فيه وأجهزة الأمن، وبالتالي تتعزز السيطرة السياسية وبالطبع الطبقية على المجتمع؛ فتشكلت من جراء ذلك، أي من جراء تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي للفئات الأكثر فقراً عوامل الغضب والشعور بالإذلال والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بالدرجة الثانية. بل ورافقت كل ذلك محاولة تمزيق المجتمع طائفياً واثنياً ومناطقياً وعائلياً، ليتشكل لدينا واقع طبقي كثيف المشكلات، ودون أن يجد له متنفساً سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو غيره، وهو ما عبأ الطبقات المفقرة على نحو رئيسي، التي أصبحت حياتها بلا أفق معيشي ممكن، لا بالمعنى الاقتصادي ولا غيره؛ إذاً فوضعها الاقتصادي الاجتماعي المتدهور، هو ما مثّل أرضية التمرد؛ وهنا أتى دور الثورات العربية كشرط سياسي مكمل.
ثم ظهرت الليبرالية الاقتصادية في سياسات السماح للتجار بالاستيراد والتصدير على نحو شبه حر، وفتح الأسواق للبضائع التركية والصينية وتدهور الصناعات المحلية، ولا سيما في ريف دمشق. ورفعت أشكال الدعم عن الفلاحين، فارتفعت أسعار المحروقات والبذور والأسمدة وغيرها، من عام 2008 إلى 2012إلى أربعة أضعاف، مما دفع كثيراً من الفلاحين إلى إيقاف أعمالهم، عدا تعطيل وتقريباً منع القروض عنهم، وعدم وجود سياسة تسويق لمنتجاتهم: الزيتون وكل أنواع الخضار وغيرها. تجلّت تلك الليبرالية كفئة سياسية في ما أشيع عنه في سوريا الفريق الاقتصادي، وتشكل على أثره في دمشق حينها ما سمي الثلاثاء الاقتصادي، الذي اشتهر كثيراً، وكان رئيس الدولة من الحضور فيه. وليس بخافٍ عن أحد أن ذلك الفريق هو مجرد فئة اقتصادية لفئات مسيطرة على الدولة وهي السلطة السياسية. وهذا بعكس رؤية الأحزاب الشيوعية السورية، ومن خرج منها ولا سيما مجموعة قاسيون، التي عادت بقوة إلى النظام وهو يواجه ثورة الشعب، وهي الآن ممثلة بزعيمها رأس حربة ضد الشعب، التي أكدت وعلى مدار أكثر من عقد أنّ المشكلة بالفريق الاقتصادي، الذي هو المسؤول عن تدهور الاقتصاد، وتتبيع سوريا للامبراليات وللعولمة. وإذا كان هذا الكلام صحيحاً، وهو كذلك، لكنّه ليس ناتجاً عن إرادة ذلك الفريق، بل هي سياسة السلطة الشمولية لتكريس واقع اقتصادي جديد يسمح بنهب أكبر وعلى نحو مضاعف، ويأتي دور ذلك الفريق ضمن هذا لإطار لا أكثر ولا أقل.
هذه العوامل أدت عملياً إلى تحكيم فئات محدودة في أغلبية ثروة الاقتصاد الوطني، وأصبح كثير من الفئات غير الفلاحين والعاطلين من العمل والعمال الشحيحي الأجر بموقع المتضرر من سياسات النظام، وهنا يشار إلى الطبقة المتوسطة التي كانت تتدهور أوضعها بالتتالي. الفئات المفقرة تلك، لم تكن الوحيدة المستفيدة من إصلاحات الستينيات والسبعينيات، بل والتجار كذلك، لكنّ المفقرين بتسليمهم على أرضية استفادتهم من النظام الاقتصادي آنذاك للشمولية ــ وهذا أمر موضوعي ــ بأن تدير شؤون البلاد، حكموا على أنفسهم بالإفقار المستمر إلى أن اشتعلت الثورة، فاشتركوا فيها، ليعبروا من جديد، أنّهم هم من سمح لهؤلاء بالتسلط عليهم وهم أكثر المتضريين منها، والآن يشكلون هم جسد الثورة الأساسي. وطبعاً هناك فئات من طبقات متوسطة، وهناك أشخاص من الطبقات الثرية، لكن مشاركتهم مالياً جاءت متأخرة وعادة لا تعرف. الفئات المفقرة تلك، يقع عليها تحديد مطالبها، ليس في نظام سياسي ديموقراطي، فهذه مسلمة لأي ثائر، ولأي سياسي يعلم شروط حياة سياسية عقلانية وحداثية، بل وتحديد مطالبها الاقتصادية والاجتماعية وتوسيع الحقوق السياسية للمشاركة الفاعلة، فهي جسد الثورة والثورة تتجسد فيها، ولهم كامل الحق في التعبير عن مطالبهم. تلك المطالب التي منع تشكلها وصياغتها وتبيانها على نحو دقيق أهوال الشمولية منذ بداية الثورة وما بعدها، وبسبب التدمير الممنهج للمجتمع من أية أشكال تنظيمة ما قبل الثورة، نقابية أو سياسة أو ثقافية أو غيرها، وما بعدها كذلك.
إن تحقيق مطالب الفئات المفقرة يكمن في الثورة المستمرة، وذلك من أجل أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية؛ كل ذلك غير ممكن، إن لم تسعَ تلك الفئات وهي الأغلبية المجتمعية، أن تصبح هي الأغلبية السياسية، وحينها ستضع برامج اقتصادية واجتماعية وسياسية لمصلحتها ولمصلحة كافة فئات المجتمع.

الخيارات المتعددة في الاقتصاد

هل هذا يعني تخلياً عن الرأسمالية؟ بالتأكيد ليس كذلك، وحتى الماركسيون وأنا منهم، لا يقولون ذلك. وهل هو إبقاء لها كما هي؟ بالتأكيد لا؛ فهي غير قادرة سوى على المزيد والمزيد من الأزمات بالمعنى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وها هي أزمات الرأسمالية تضرب اقتصادات أوروبا وليس فقط بلادنا العربية، لكن هل أنا أطالب باشتراكية الآن؟ أكيد أيضاً لا؛ فهذه تتطلب شروطاً سياسية متقدمة جداً...
وبالتالي ما أطالب به، هو دور أكبر للطبقات المفقرة، بل وأن تكون مهيمنة عبر تشكيلاتها السياسية والنقابية في الدولة القادمة، بحيث تؤمن مصالحها المشار إليها أعلاه، وحينها ستحقق لنا بنية اقتصادية صناعية وزراعية أساسية ومهمة، وحينها سيكون للتجارة من معنى، وسيكون لدينا نظام مواطني علماني، وستتكرس حياة ملؤها التقدم بكافة المعاني...
إن التكتيكات الرديئة للمعارضة السياسية سياسة واقتصاداً، وتكرّيسها نظاماً اقتصادياً ناهباً واشراكها دول الخليج بقيادة قطر والإمارات والشركات الاقتصادية الخارجية في إعادة الإعمار (نهب) ومشروع مارشال سوري؛ تمثل محاولة لتسليم البلاد للخارج بالمعنى الاقتصادي. وكون الائتلاف الوطني تعبيراً عن تسليم بالمعنى السياسي للتبعية الامبريالية والخليجية، فإنّ الطبقات المفقرة الثائرة ومن معها من فئات طبقية أخرى، يصبح عليها أن تعدّ نفسها لمعركة قاسية وصراع طبقي متعدّد الأوجه للدفاع عن مصالحها. مثال تونس ومصر يشهد نحو ذلك. وبالتالي لن تكون الليبرالية بمعناها الاقتصادي والسياسي كما يحصل في مصر وتونس، سوى وصفة لإكمال تدمير المجتمعات اقتصاداً وسياسةً واجتماعاً لما قامت به الأنظمة السابقة. وفي سوريا لدينا الأمر نفسه، لكن الثورة كانت ضرورة تاريخية للخلاص من وضع عام أصبح يتطلب الخلاص. ففي القادم من الأيام، وبعد إسقاط النظام، سيتبيّن أنّ مصلحة الطبقات المفقرة تكمن في استمرارية الثورة، وفي دور مركزي تقوم به في الدولة، طالما هي الأغلبية الاجتماعية من السكان، وحينها فقط يمكن القول: إنّ الثورة تتكامل وتصل لأهدافها.
مجدداً، الثورة ضرورة تاريخية، ودون أن تعي الطبقات الثائرة دورها السياسي ذاك، لن يكون في بلادنا، دولة حديثة ولن تكون قادرة على النهوض بأعباء الشعب، وهي أغلبية الشعب، وبالتالي ستسلّم أمرها لفئات طبقية وسياسية ليبرالية أو بلبوس آخر ولكنّه ليبرالي بالتأكيد، وستدور عجلة التاريخ بسياقات تاريخية متأزمة، إلى أن ينفتح نحو تحقق تلك الضرورة، وحينها فقط سنبدأ تاريخاً سياسياً حقيقياً وإنسانياً ممكناً.
* كاتب سوري