منذ أن انتخب المطران بشارة الراعي، راعي أبرشية جبيل المارونية، بطريركاً للموارنة وسيداً للصّرح الوطني الكبير في بكركي، والمراقبون يلاحظون أنّه بدأ منذ اليوم الأوّل لانتخابه وتسلّمه لسلطاته البطريركية، ورشة تحويل بكركي إلى مؤسسة روحية، وضبط إيقاعها وتأكيد حضورها ودورها الإقليمي والوطني على الصّعيد الدولي أوّلاً، من منطلق دوره ومسؤولياته كواحد من أركان السينودوس الخاص بمسيحيّي الشرق الذي انعقد في الفاتيكان، وثانياً من موقعه كرئيس للبطاركة الكاثوليك في الشرق العربي، وثالثاً من مسؤوليته الوطنية في لبنان المعتبر أكبر من وطن بل رسالة تمثّل العيش المشتَرك الحضاري بين أتباع الديانتين الإسلاميّة و المسيحيّة في العالم تعتبر مثلاً ومثالاً يُحَتذى بالنسبة للبلدان التي تعاني من مشكلات بين الإثنيات والطوائف والمذاهب. لقد عالجت الزميلة رلى ابراهيم في مقالها بعنوان «ربيع البطريك... بكركي ليست بحاجة إلى حزبها» («الأخبار» العدد ١٨٦٢ الاثنين ١٩ تشرين الثاني ٢٠١٢) الوضع في بكركي من منظار مختلف الأهداف من خلال الأشخاص الذين يتردّدون على الصّرح أو يدعون إليه مع كل ما يمثّله كل منهم في قطاعه أو مجتمعه. وقد كانت على حق عند قولها «إنّه ما كاد الراعي يحتلّ الموقع الماروني الأوّل حتى بدأ السعي إلى الفوز بالموقع المسيحي الأوّل في المنطقة». ولقد أصابت بهذا القول أنَّ البطريرك الماروني يحتلّ الموقع المسيحي الأوّل في المنطقة لأنّ هذا البطريرك هو المتقدّم بين المتقدّمين إن على صعيد المركز، أو على صعيد المسؤولية عن أوضاع المسيحيين في هذا الجزء من العالم الذي شهد قبل ألفي سنة ونيّف ولادة السيد المسيح وإطلاق رسالة المحبّة والسلام والتسامح بين البشر، في العالم كلّه. البطريرك الماروني لم يكن يوماً رئيس حزب ولم يكن على مرّ تاريخ الكنيسة ونضالها وصمودها ومقاومتها ساعياً إلى منصب حزبي أو سياسي أو إلى وظيفة كونه يمثّل ضمير أمّة. وهو لذلك حال بتدابيره الروتينية دون استمرار منبر بكركي الوطني واجهة للوجهاء ولممتهني السياسة ومسرحاً للإعلام الموجّه والمعلّب ليطلّ عبر شاشته الساطعة الطامحون إلى دور ومطلقو الشعارات البرّاقة. صحيح أنّ دوائر بكركي في عهد سيّدها الجديد تتطلَّع إلى المزيد من التطوّر والحداثيّة والمكننة في تعاطيها أوّلاً مع ملفّاتها، وثانياً في علاقتها مع الآخرين وثالثاً في ملاقاتها مع الجاليات اللبنانيّة الكبيرة المنتشرة في مختلف دول العالم والتي حرم من نبوغها وفكرها وجهدها الوطن الأم بفعل الاضطهاد والإرهاب والمطاردة والترهيب. وما ملحمة وادي القديسين في قنّوبين سوى إحدى الصور التاريخيّة لهذه الكارثة الرهيبة التي حلّت بلبنان طوال عقود من الزمن.
وصحيح أيضاً أنّ بكركي ما تزال في حاجة إلى تطوير وتحديث دورها في مجالي الإعلام والعلاقات العامّة، وإلى تطوير دورها الاقتصادي والاجتماعي، وهذا ما يتطلّع إليه البطريرك الرّاعي. لكن لابدّ من الاعتراف لهذا البطريرك بأنّه نجح في نقل بكركي ودورها من مستنقع اللعبة المحليّة إلى مجالها العالمي الأرحب كونها كنيسة عالمية نظراً لوجود كنائسها ومنتدياتها وأبنائها وجاليات لبنان تحت كل سماء. ولقد أكّد البطريرك الكاردينال الراعي هذا التوجه من خلال الجولات التي قام بها حتى اليوم إلى ديار الانتشار وما لمسه من تعلّق لم تقلّصه أو تغيّره مئات الأميال التي تباعد بين الوطن وجالياته، ولم ينتقص منه تقصير رجال الدولة وبعض بعثاتها الدبلوماسيّة في الإبقاء على هذه اللحمة مشدودة بين الوطن وأبنائه في ديار الغربة.
أبواب بكركي كانت ولاتزال وستبقى مشرّعة أمام الجميع لأنّها بيت الأمّة، ولا تتطلّع إلى تشكيل حزب للبطريرك لأنّ حزبها هو حزب لبنان واللبنانيين في الوطن وخارجه، همّها همومهم. فكلّ اللبنانيين أبناء بكركي ومصلحتهم الوطنية قبلة البطريرك كانت ولاتزال، فهي وهو يعرف تماماً الوصوليين والانتهازيين والمستغلّين والمتاجرين بالوطن وقيمه وقيمته، كما يعرف من هم عكس ذلك الذين يتطلّعون إلى مصلحة الوطن والشعب وإلى بقاء لبنان سيّداً حرّاً مستقلّاّ. وهي، أي بكركي في عهدها الجديد تدرك حاجات الوطن وبنيه في الداخل والخارج. ومن هذا المنطلق، تعمل على التشاور والتعاون مع أصحاب الكفاءات الخلقية والوطنية والعلمية وأصحاب الخبرة للمساعدة في إيجاد الحلول الصائبة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها لبنان واللبنانيون على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم من منطلق دورها الوطني. والبطريرك الراعي حمل ولا يزال إلى جاليات لبنان شعاره المدّوي، فضلاً عن الشركة والمحبّة. إنَّ أثمن هديّة يقدّمها اللبناني لأولاده في ديار الغربة هي الهوية اللبنانية شهادة الانتماء إلى وطن الآباء والأجداد إلى وطن جبران ومنطلق الحروف الأبجدية. المقرّبون من بكركي هم الذين يؤمنون بدورها على الصعيدين الوطني والروحي وبرسالتها المشرقية. وأمّا الانتهازيون والوصوليون والذين يحاولون توظيف دور بكركي لتحقيق مصالحهم وتنفيذ غاياتهم فسرعان ما يجدون أنَّ ادوارهم انتهت عند اول تجربة. ومن يعتبرون ذواتهم مقربين من بكركي هم اولئك الذين يؤمنون بدورها ويتجنّدون من دون منّة للعمل في تحقيق برامجها لإسعاد الناس ولتحقيق الاستقرار وتأمين الأمان الاجتماعي والرّوحي لأبناء الوطن ومحاولة إنقاذ بعض هؤلاء من براثن انعدام فرص العمل والوقوع في مطبّات الصراع الطبقي ورفع مستوى الإنسان وقيمته في لبنان، لأنّ ما عاناه الإنسان اللبناني في الماضي ولا يزال يعانيه اليوم، كان نتيجة الخلافات المصطنعة بين اللبنانيين والتدخل الخارجي والإرهاب الذي هجّر قسماً لا يستهان به من هؤلاء لينتشروا في طول الدّنيا وعرضها، وفي إجبار البعض الآخر منهم على بيع ممتلكاتهم في الوطن الأم. إنّ دور البطريرك الرّاعي على الصّعيد الوطني، حدّده في خطبه ورسائله إلى اللبنانيين وقد تجسّد في دعواته المستمرّة إلى المسؤولين السياسيين لعقد حوار وطني بنَاء فيما بينهم يكون الشأن العام عنوانه. إذ لا مناص من الحوار المتواصل بين المسؤولين عن مصير لبنان واللبنانيين للوصول الى حلول للمشاكل المصيرية التي يواجهها الوطن ولتلك المحيطة به لأنّ أحداً لا يمكن أن يلغي أحداً، والوطن بحاجة إلى جميع بنيه ولا شيء يمكن أن يتحقّق بالعنف والقوة.
إنّ كلام البطريرك الرّاعي في قصر الإليزيه أمام الرئيس الفرنسي والرأي العام الفرنسي والهواجس التي عبّر عنها باسم لبنان ومسيحيّي الشرق التي طاولها سياسيون واصحاب مصلحة بالنقد والتجريح والتجّني عن استخدام العنف وتغذية الفتنة والحرب الأهلية والطائفية في سوريا وفي أي بلاد، كان في محلّه وأثبتت الأيام والأحداث أنّ الرّاعي كان على حقّ والهواجس التي أعرب عنها في الإليزيه سبق أن أعرب عنها أركان السينودس الخاص في الفاتيكان قبل سنة ونيّف حول مسيحيي الشرق. وما جرى ولا يزال يجري في سوريا من مجازر أدّى إلى إلحاق الأذى والدّمار والموت والتهجير بسوريا وبشعبها، ودفعت الأقليّات، ومنها المسيحيون السوريون الثمن الغالي. أوليست هذه هي الهواجس الّتي أعرب البطريرك الكاردينال الرّاعي عنها في محادثاته التاريخيّة في قصر الإليزيه وأنّ الحوار الوطني بين السوريين هو الهدف الذي كان على بعض دُوَل المنطقة ودول القرار ان تعمل وتسعى لتحقيقه بدلاً من تغذية الحرب والفتنة بين السوريين؟ ولقد وصلت حملة التجنّي الظالمة على البطريرك الرّاعي، التي أثبتت الأحداث بطلانها، إلى حدّ اعتباره خارجاً عن التوافق مع مواقف الفاتيكان والبابا. وانَّ البابا لذلك لن يزور لبنان والفاتيكان لن يمنحه رتبة كاردينال. ولقد اثبتت الوقائع بعد ذلك، بعد زيارة البابا الى لبنان والى بكركي وقرار الفاتيكان بمنح الراعي رتبة الكاردينالية أن اصحاب حملة التجني والافتراء كانوا على ضلال وانّ البطريرك كان على حقّ وعلى صواب.
إن التوافق الوطني والحوار الوطني واللقاء الوطني المستمرّ ليست شعارات يرفعها البطريرك الكاردينال فحسب، إنما هي أهداف لجهة تحقيقها وتعميم اتصالات حثيثة في المحافل الوطنية والدولية والإقليمية من اجل تبنيها كمنطلقات للتفاهم على الحلول المنشودة للمشاكل المصيرية التي يواجهها لبنان ولتداعيات العواصف الهوجاء التي تهبّ عليه من كل صوب وللنار المشتعلة قريباً منه لتجنيبه مخاطر الوقوع في مطباتها ودفع ثمن ذلك ممّا تبقّى له من عافية واستقرار ووحدة وطنية، فضلاً عن السّيادة والاستقلال والحريّة والقرار الحرّ.
*صحافي لبناني