تتعجل الحكومة الاسرائيلية، وهي الاكثر يمينية وتطرفاً في تاريخ الدولة الصهيونية، تتعجل قطاف ثمار العجز العربي والانقسامات العربية والصراعات العربية. انّها لا تصبر على ما تراكمه من احتمال الانتصار بالنقاط من خلال خطط الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها الغربيين والعرب، بل تسعى الى محاولة الانتصار بالضربة القاضية: دفعة واحدة كما سعت من غير نجاح حيال الجمهورية الاسلامية الايرانية، او على دفعات، من خلال الغارة التي شنتها، منذ اسابيع قليلة ضد احد المواقع العسكرية السودانية. ولئن كان استهداف البرنامج النووي الايراني، يتطلب بالدرجة الاولى والحاسمة، توريط واشنطن وجهد واشنطن واساطيل وقواعد واشنطن، الا انّ بعض الضربات الاخرى، لا تتطلب سوى سكوتها وتواطؤها التقليديين، في مرحلة الاعداد، وتضامنها وحمايتها، في مرحلة التنفيذ وما بعد التنفيذ.وكانت القيادة الاسرائيلية قد تبلغت، بشكل واضح وحاسم، رفض المشاركة وبالتالي الموافقة الاميركية، على الاستهداف العسكري للمواقع الايرانية حيث تقوم المنشآت النووية الايرانية او حيث يُعتقد انّها قائمة او منتشرة. وهي تبلغت بالمقابل، الخطة الاميركية التي لم تُسقِط من الاحتمالات الخيار العسكري، لكنها تختبر الآن خياراً آخر، ارتباطاً بالازمة السورية التي هي المنطلق والمحور في المرحلة الراهنة. ولقد كشفت صحيفة «يديعوت احرونوت»، في اوائل شهر اب الماضي انّ وزير الدفاع الاميركي قد ابلغ القيادة الاسرائيلية، اثناء زيارته لتل ابيب، السيناريو الاميركي المعتمد حيال ايران. وهو سيناريو يقوم على استهداف «النظام والبرنامج النووي الايراني» في الوقت عينه. والسيناريو المذكور يعتمد الاستنزاف والاضعاف: بالحصار وبالعقوبات وبمفاعيل الازمة السورية المتفاقمة خصوصاً...
وقد نُسب الى المسؤول الاميركي ان النتائج المتوقعة لهذا السيناريو ستبرز، على الارجح، بعد سنة ونصف السنة وليس قبل ذلك التاريخ. هو طبعاً طالب القيادة الاسرائيلية بالانسجام مع مقتضيات الخطة الاميركية، وبعدم الاقدام على اية مناورة او مغامرة لتوريط واشنطن، لأنّ ذلك لن يحصل، فضلاً عن انّه غير مسموح به على الاطلاق.
هذا «الردع» الاميركي الذي تبلغته اسرائيل من السياسيين والعسكريين الاميركيين لم يمنعها مع ذلك من تحقيق انتصارين جزئيين. الاول هو التصرف وكأنّها صاحبة حق في استخدام القوة ضد المنشآت الايرانية. والثاني الحصول على حرية التحرك ازاء ملفات اقل اهمية وخطورة من الملف النووي الايراني.
في هذا السياق، وفي سياق متصل ايضاً بالانتخابات الاسرائيلية المبكرة، وقع استهداف السودان منذ اسابيع، ويقع استهداف غزة الذي بدأ منذ ايام. وفي السياق نفسه ايضاً كانت الحكومة الاسرائيلية قد دفعت سياسة الاستيطان الى مستويات غير مسبوقة. وكذلك فهي قد بلغت من الغطرسة، انّها قد هددت على لسان احد ارهابييها، وزير خارجيتها، بإلغاء اتفاق «اوسلو» نفسه. اي انّها هددت بإلغاء الشكل الحالي، الاداري فحسب، من السلطة الفلسطينية، فكيف بالموافقة على اقامة دولة فلسطينية «قابلة للحياة» على الاراضي الفلسطينية المحتلة في «النكبة» الثانية عام 1967.
واسرائيل تريد الى ذلك ان تختبر عدة مواقف في الوقت نفسه: الموقف الاميركي بعد ان فاز الرئيس باراك اوباما بولاية ثانية، خلافاً لرغبة وجهود رئيس الحكومة الاسرائيلية الذي جاهر بدعم المرشح الجمهوري ميت رومني. وهي تطرح قفاز التحدي ايضاً في وجه القيادة المصرية الاخوانية: في مدى التزامها بالوعود وبالمعاهدة وبالعلاقات مع اسرائيل. وهي وعود وعهود قُطعت لواشنطن، ولاسرائيل بشكل مباشر او غير مباشر، ثمناً لدعم وصول «الاخوان» الى السلطة في اكثر من بلد عربي...
وقبل كل ذلك وبعده، فإنّ القيادة الاسرائيلية تسعى، سريعاً، لأن تستثمر الى الحد الاقصى ما هو قائم من صراعات وانقسامات. وهي تريد اختبار تبدل الاولويات بشكل جدي، بعد ان اصبح هذا التبدل علنياً ومباشراً وحاداً، خصوصا في مجرى الازمة السورية التي تزداد تعقيداً وتفاقماً. فلم تعد فلسطين وجرحها وحقوق شعبها في البال وفي اليوميات الا نادراً. ولقد بات الصراع المذهبي والصراع الديني والصراعي الاثني هو ما يحتل الاولوية ويعبئ الطاقات والجهود والجنود والجيوش! وفي مجرى ذلك، باتت اسرائيل حليفاً لا عدواً... حتى التكاذب في المناسبات او في الاعلام لم يعد مطلوباً او مستحباً.
واخيراً وليس اخراً، فإن للصهاينة حساباً يحاولون تصفيته مع غزة. فلقد شكلت موضوعياً كابوساً اسرائيلياً تمنى بسببه بعض القادة الصهاينة لو انّ البحر يبتلعها. إنّه كابوس مرتبط بالديموغرافيا اكثر من الجغرافية. وهو الان، كما ذكرنا سابقاً، يضع الحركة الاسلامية الصاعدة (تنظيم «الاخوان المسلمين») في مهب اختبار مبكر لتطويع تلك الحركة لمصلحة السياسات الاسرائيلية في المنطقة ولمصلحة المشاريع الاميركية، خصوصاً حيال الشرق الاوسط «الكبير» الممتد من موريتانيا الى باكستان. ولا بد من الاضافة هنا، بأنّ القيادة الصهيونية، تراهن على الخلافات والانقسامات الفلسطينية. فلقد «صمدت» هذه الانقسامات الى ان باتت امراً راسخاً في خارطة الصراع الفلسطيني وصراعات المنطقة. ولم تفعل التطورات العربية الاخيرة سوى تعزيزها وتغذيتها بعامل عقائدي متصاعد في غير بلد ومنطقة وجبهة، في المحيطين العربي والاسلامي.
فماذا عن ضحايا العدوان؟ لا شك انّ الرهان ينعقد كالعادة على الشعب الفلسطيني: في غزة وفي الضفة وفي الداخل وفي الشتات. وهو رهان صائب لأنّه خضع مراراً لاختبارات قاسية فتبدي صموداً مدهشاً، وتضحيات عظيمة واصراراً لا يمكن ان تنال منه الجرائم والمعاناة التي كانت دائماً مقرونة بالتخلي والعجز والتواطؤ، او حتى بالخيانة.
لم يسقط الشعب الفلسطيني يوماً في اختبار الشهادة والدم والآلام. وهو رغم الحصار والاسنزاف والانقسام، حاضر لتقديم المزيد من قرابين جدارته بوطنه وارضه وحقوقه، وخصوصاً منها حقه في العودة وفي اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس. انّه الآن يدفع ثمن ما نعيشه من التردي والعجز والتواطؤ والخلل والخيانة. لكنّه، في الوقت عينه، يدافع عن حقوقه بمقدار ما يدافع في العمق عن حقوق الامة وكل شعوبها في الحرية والكرامة والتقدم.
معركة غزة هي معركة كل فلسطين. ومعركة فلسطين هي معركة كل العرب. فهل سنقول في ضوء هذه الحقائق ومستلزماتها: حسناً فعلت اسرائيل من خلال عدوانها وتسرعها... بتسريع تحريرنا من العجز والخطأ والخلل والمهانة.
* كاتب وسياسي لبناني