نجاح حزب الله في اطلاق طائرة الاستطلاع أيوب يؤكد ضرورة اعادة النظر في المدارس العسكرية الكلاسيكية التي باتت تعيش مراحل الافول. وصف ألفن وهايدي توفلر في كتابهما الشهير «الحرب المضادة، أو الموجة الثالثة» بشكل مرعب تطور الجيش الأميركي والحروب القادمة، وكيفية حسمها عن بعد، ودون عناء، عبر إلكترونيات لا يدركها البشر، ولا يشعر بها الخصم حتى اصبحنا نخشاها مسبقاً، ومن شدة الخوف نهجس بها في احلامنا. ولكن حقائق الأمور اظهرت انّ الصورة مختلفة: قتلى قوات «ايساف» في افغانستان بالتزايد، وهزيمتهم قاب قوسين أو أدنى.لا شك انّ حروب الانصار، او ما يعرف بحرب العصابات في تطور فعلي وجدي، وشهدت تطورات لافتة، ولم تعد مقتصرة على الجيوش المترفة. وجاءت حرب تموز 2006 بوقائعها، وسياقها، ونتائجها لتفرض فرملة للمدارس العسكرية الكلاسيكية المتخمة بصواريخ وطائرات «ستيلث»، والقاذفة «ب 52»، و«توماهوك»، و«كروز»، فحروب العصابات، وطرق واساليب عمل المقاومات منذ فجر الانسانية حتى يومنا مرت بتجارب وتطورات عديدة، ولم تعد مقتصرة على هروب حفنة متمردة الى كهوف الجبال، او العصيان في مناطق نائية، بل اضحت حروب الانصار، وحرب العصابات، مدرسة بديلة متكاملة باستراتيجيتها، وتكتيكاتها، وآليات عملها، واسلحتها، وروحية المقاتلين لمواجهة الجيوش النظامية، وتقنياتهم الهائلة، بل وإلحاق الهزائم بهم.
في العشرينيات من القرن الماضي اسس الشيخ عبد الكريم الخطابي جمهورية الريف، وقارع الجيش الفرنسي وانتصر عليه، وفي فييتنام في سبعيناته ابتكر الجنرال جياب اسلوب حرب الادغال، وتشي غيفارا حرب اغوار الجبال، والتوباماروس حرب المدن.
مع هؤلاء وامثالهم، ودروس تجربة الجيش الاحمر الصيني، والمقالات الست العسكرية لماو تسي تونغ، بدأت مراحل تطور المقاومات، والحروب الشعبية طويلة الأمد، وحرب الانصار كعلم شامل، اضاف عليه القائد الافغاني احمد شاه مسعود ثورة على علم حرب العصابات، وهزم جنرالات الاتحاد السوفياتي، اضافة الى تجربة المقاومة الفلسطينية وآخرين. وبين قارات وامم الكرة الارضية الثائرة ضد المستبدين، والمحتلين، اخذت حروب الانصار منحى متقدماً، وتطورت وتفاعلت بالثقافات والتجارب، وارتقت وسائلها، وساحات اشتباكها، وقدراتها التقنية والتكنولوجية والابداعية. نحن امام مدرستين عسكريتين متكاملتين، واحدة قديمة تعتمد على الترهيب والحملة الاعلامية، والترويجية، وواحدة حديثة عصرية، شعبية ترتقي وتتطور مدادها الروح القتالية والقدرة الابداعية للبشر في عصر اقتصاد المعرفة.
فاعلية العقل الانساني بمواجهة الآلة العسكرية الخارقة القوة، يدعمها واقع العديد من المعارك الملتهبة حيث يعجز الناتو عن الحسم السريع، كما افترض توفلر في كتابه نظرية حسم المعركة عن بعد بالتكنولوجيا الحديثة. ومن جهة ثانية، قدم حزب الله نموذجاً ابداعياً اضاف الكثير من مدرسة الحروب غير المتناظرة، وحروب الانصار في تقنية عبر المزج بين حروب الانصار والحرب النظامية، إذ تحوّلت الكهوف الى غرف عمليات، والانفاق الى منصات اطلاق الصواريخ، وتحولت الطائرات التي هدير اصوات، والدبابات الى نعوش حديدية عمياء. فقد استخدم المقاتل قاذف «ب 10» على الاكتاف بدلاً من السيارات، والمدرعات، والعبوة الناسفة بدلاً من الصواريخ الموجه عند الحاجة، واستخدم الصاروخ في معركة اخرى حينما توفر، وحقق مجزرة دبابات «الميركافا» في وادي الحجير، وسهل الخيام في معركة صدامية. تخفى مقاتل حزب الله من الطائرات بالتدرج بالارض ليستغني عن المضادات الجوية، واستعمال الدراجات النارية للتنقل بين القرى، والدواب لنقل المعدات والمؤن.
ان اخفاق الجيش الاسرائيلي في حرب تموز 2006، و«ايساف» في افغانستان، يستدعي مراجعة شاملة لمجمل المدارس العسكرية الكلاسيكية، ويفرض وجوب دراسة اسلوب قتال حزب الله في تموز 2006، والمجاهدين الافغان ضد ايساف.
منذ حرب العراق الثانية التي اطلقت ما يسمى باستراتيجية الحروب النظيفة باستخدام التكنولوجيا العالية والامتناع عن خوض معارك الجبهة الصدامية بشراء النصر عن طريق الاموال، والحملات العدائية، وحرب الميديا الاستباقية، بدأت عدة دول مناهضة لحلف الناتو بالبحث عن استراتيجية جديدة لمواجهة المنظومة العسكرية المدمرة بعدما اصبحت اقرب الى حرب النجوم. في حرب العراق استعرض الحلف كامل ترسانته العسكرية المتطورة على كل المستويات، مستخدماً تكنولوجيا غير مسبوقة، وطائرات تعمل بدون طيار، منها الكبيرة والصغيرة، تقصف، تدمر، تستطلع، تلاحق المشاة، دبابات خفيفة وسريعة، صواريخ عابرة للقارات، ذكية، موجهة بعيدة المدى، غواصات، بوارج، حاملات طائرات بشبكة رصد، تشوييش، مروحيات قناصة للدروع، تقنيات يصعب مواجهتها فالترسانة بالغة التعقيد والدقة.
كشفت حرب العراق سقف قوة الناتو باستعماله في تلك الحرب كل ما يمكن للعقل البشري ان يدركه، فبلغت المدرسة الكلاسيكية الذروة، ولم تترك شيئاً من الحرب النفسية في الاعلام والفضائيات، وتوظيف ضباط استراتيجيين للترويج والدعاية، واستخدام علوم الالوان، والمناظر، وتأثيرها النفسي في لوحات اعلانية كبيرة تظهر ضخامة الطائرات والصواريخ والدبابات بألوان مبهرة. قدم توفلر في كتابه الشهير كل السيناريوهات عن الحرب القادمة وكيفية حسمها.
على خط مواز في مسيرة السيف والترس كانت مدرسة حرب الانصار تطور نفسها، وترتقي بوسائطها ووسائلها وتكتيكاتها واستراتيجياتها العسكرية. في ثنائية الصراع بين الشياطين والملائكة لجأت حماس الى صناعة صواريخ صغيرة الحجم تعتمد سلاحاً فردياً لا تستطيع منظومات الباتريوت، والتوماهوك، والسهم، ومنظومات الدفاع الصاروخي «غيتس» واخواتها اسقاطها، ولا تدركها القبة الفولاذية. صواريخ خفيفة، وسهلة الاستعمال التخفي كا فعل حزب الله بتحويل راجمات «ب ام 21» الى فوهات فردية، وصواريخ المالوكا الى منصات متحركة، والعبوات بالاسلوب السلكي بدلاً عن التحكم عن طريق الريموت، والمشي مسافات طويلة عوضاً من التنقل بشاحنات الريو، والاعتماد على شبكة اتصالات بدانية سلكية، وكذلك فعل الافغان بالاعتماد على البغال والدراجات لنقل البرقيات العسكرية والعتاد والمؤن... بكى مقاتلو حزب الله على حمارين قتلا في منطقة سجد لكثرة نشاطهما في حرب تموز كوحدة لوجستية، بينما لم تفلح اسرائيل في استخدام حيوان «اللاما» الذي اتت به من الكاريبي لتمنعه من دخول الاراضي اللبنانية، ومعاندته للقادة العسكريين، فأثبت انه اكثر ذكاء منهم، ومن تكنولوجياتهم المتقدمة.
ان مواجهة الترسانة العسكرية الالكترونية، المتخمة بالصواريخ الموجهة عن بعد، والتحكم بها، غير ممكن في سياق من النسق عينه، ومن الثقافة المكلفة جداً، لذا كان البديل عند الدول والشعوب الاكثر فقراً، ان تلوذ بذكائها، بالوسائل البدائية التي سبق ان اثبتت قدرتها وجدارتها في مواجهة اعتى قوى واكثر التقنيات تطوراً.
في حروب الهند الصينية، وخاصة فيتنام، وفي حروب الانصار في الحربين العالمية الاولى والثانية في اوروبا وآسيا، وبعد انكشاف المراقبة التليفونية التي ادت الى اغتيال القائد الشيشاني جوهر داداييف، ما انفك المقاتلون الشيشانيون يفتشون عن بدائل وسبل جديدة بعيدة عن الالكترونيات والتكنولوجيا الجديدة.
ان تراكم خبرات وتجارب الشعوب باتت تشكل مدرسة عسكرية فعلية ومتكاملة، فقدم القائد الافغاني احمد شاه مسعود مفاهيم وابتكارات عسكرية جديدة غيرت مسار الحرب في افغانستان. واعطى مسعود بعداً ايمانياً للتكنولوجيا: الله ــ القرآن ــ صاروخ ستنغر ــ ايمان ــ وعلم.
مع استمرار المواجهة في الجنوب اللبناني طور حزب الله تجربة المقاومات، وبنى على ما سبقها من تجارب، واستخلص منها الدروس والعبر، واخضع تجربته للنقد والتقييم والتطوير الدائم فحولها الى علوم عسكرية منظمة.
حروب صغيرة ضد جيوش كبيرة
قاتلت حماس ببطولة نادرة كمثيلتها المقاومة اللبنانية، والافغانية، واربكت الجيش الاسرائيلي بفعل منظومة الافغان تحت الارض، ليس من اجل الاختباء، او نقل المواد والمؤن، إنما لربط المدن والقطاعات العسكرية، كما فعل حزب الله في عيتا الشعب، ومارون الراس، وبنت جبيل التي عجز الجيش الاسرائيلي، ونخبه عن اسقاطها، وكذلك الافغان في «تورا بورا» فتوارى المقاتلون في الانفاق، وابتعدوا عن شاشات الطائرات فأفقدوها ميزاتها وقدرتها. وتم الخروج من الانفاق بطريقة مموهة، ومنظمة، ومنسقة تتيح الامساك بزمام المبادرة، وايقاع اعلى الخسائر بالعدو، والسيطرة على المعركة، واطالة الحرب، وزيادة اكلافها. واهتزت قناعة الجيش الاسرائيلي بنفسه وعتاده وقيادته، وفي ذلك تماثل مع تجربة «ديان بيان فو» الفيتنامية التي انهت الوجود الفرنسي بهزيمة مجلجلة.
كان الافغان يتركون قوات ايساف تدخل الى مناطق جغرافية كبيرة عبر ممرات ضيقة ـ متعرجة، منحدرة، يمسونها في الحروب مناطق الحرام، ثم يطبقون عليها. تقول الاحصاءات العالمية ان المقاتل الافغاني يمشي 42 كلم مع سلاحه، وعتاده بدون توقف، ويقاتل مباشرة، بالرغم من انه لا يمارس الرياضة، ولا يعرف البوش الاب، وان غذاءه متواضع.
لم يلحظ توفلر في نظريته الحسم عن بعد، عوامل الايمان والارادة، ولا ادرك ان الارض تحمي صاحبها المدافع عنها عندما يتدرع بها، ويرويها بدمائه، فتتحول الى رمال متحركة تبتلع التكنولوجيا والجيوش التي تكلف الفرد فيها مئات آلاف الدولارات في الاعداد والتجهيز.
من هنا اهمية ما قام به حزب الله باطلاق طائرة الاستطلاع ــ فوضع التكنولوجيا كعلم الى جانب الانسان، منشأ الحضارات، وصاحب الحق ليستخدم التكنولوجيا العصرية ــ وتطويرها الى جانب الوسائل البدائية، وجعلها قادرة على ابطال فاعلية التقنية المتطورة. فحزب الله استخدم التقنية المتطورة بفاعلية عالية، ودمر الدبابات الاسرائيلية في وادي الحجير بصواريخ الكورنيت الحديثة، واستخدم اكثر الصواريخ بر ـ بحر تقدماً، ودمر ساعر ـ درة الاسطول الاسرائيلي واكثرها تطوراً وحماية، لكن السؤال كيف اخفى هذه المنظومة المتطورة عن اجهزة طائرات التجسس، وشبكات الاقمار الصناعية؟! الجواب عند الانسان الذي، منذ اقدم العصور، وفي سيرته، وسيرة الحياة على هذا الكون، كان على الدوام قادراً على التحايل على التكنولوجيا باستخدام عقله، وتسخير الطبيعة، ومعالم الارض لمصلحته فهي ارضه، وهو الاقدر على معرفتها والاحتماء بها.
كل ذلك كان قاعدة جوهرية اعتمدها جيش التحرير الفيتنامي، وابدعت فيه جبهة الفيتكونغ فهزمت اميركا بعد هزيمة فرنسا وشكلت ظاهرة مستدعية للحروب، وخاصة حروب الانصار وطورتها الى حروب نظامية ــ انصارية في آن واحد.
بالتأكيد ليست الحروب وتقديرم نتائجها مقتصرة على فاعلية الطائرات والصواريخ بعيدة المدى، فهناك عوامل اخرى كما في منظومة الدفاع الجغرافي عن غزة المستحيلة، بحسب العلوم العسكرية التقليدية، بالاضافة الى الارادة، وهذا ما انتجه حزب الله، فطائرة أيوب هي نتاج اصرار، وعزيمة، وهي درس من دروس تاريخ البشرية، يتجدد، ويتجلى ويأخذ اشكالاً وآليات عصرية، مع كل تجربة، وحق العرب والمسلمين اليوم أن يقولوا بالفم الملآن: لقد جاء عصرنا، وعدنا الى طباعة التاريخ، ومستقبل الانسانية، وتحديث العلوم وفي صلبها العلوم العسكرية، نطبع التكنولوجيا بايماننا، وبأدواتنا الوافرة، ونعززها بالمعرفة، وامتلاك العلم، واتفاق استخدام وتطوير التكنولوجيا المنسجمة مع مواقفنا.
ان طائرة ايوب هي تأكيد على استمرار الصراع مع الصهاينة، وتأكيد على ان قضية فلسطين كانت وستبقى القضية المركزية بالنسبة الى المقاومة بغض النظر عن الاهمية التكنولوجية، فالاهمية هي في ثبات المواجهة مع اسرائيل، وان وجهة السلاح الصحيحة هي في أن يبقى شاخصاً نحو القدس حتى التحرير.
* كاتب لبناني