هل أضحى المحتربون في سوريا وعليها، على وشك دخول مرحلة متحوّلة، مرتكزةً إلى استراتيجية جديدة لدى الجميع، تكون سمتها على الأغلب «متحرّفاً لقتال»؟ كي نعالج هذه الإشكالية، ولمزيدٍ من جلاء الصورة، وبناءً على ثمرة مؤتمر فيينا في الثلاثين من الشهر الماضي، وما خرج عنه من إطار عام لإمكانية ولوج الحل السياسي في سوريا... لأجل ذلك، ولكي نرصد المشهد بكليته، لا بد لنا من ضرورة الابتعاد عن الجزئيات والتفاصيل، التي لطالما أودت بأصحابها إلى أكثر من حائطٍ مسدود في عملية استشراف الأحداث وتطورها.
لنعد بالزمن قليلاً إلى الوراء، فبعيد مرور أيام قليلة على غزو الدواعش للعراق في أوائل حزيران من العام الماضي، خلصت في مقالة بأنه «من الثابت القول، أن محور الممانعة، ومن خلفه روسيا والصين، وباقي الأطر الدولية الصاعدة، ستتعامل مع التمدد الداعشي في كل من العراق وسوريا، على أنه أوكسجين يُحقن مجدداً في الجسد الأميركي المتهالك، عسى أن يستعيد ذاك النمر الأميركي المثخن بالجروح بعضاً من قواه الخائرة. وذلك كله يحدث، ضمن استراتيجية تكامل الأدوار وتلاقي الغايات عند الحدود».
لقد فصلت في حينه، بأن مقاصد التمدد الداعشي من سوريا نحو العراق، وتحت العين الأميركية - والتي يمكن لها أن ترى «بقعة الماء على المرّيخ» على حد وصف الرئيس بوتين –، يصب دائماً في خدمة هدفين مركزيين لدى الإدارة الأميركية، متمثلان بتحقيق مصالحها الاستراتيجية في المنطقة والعالم من جهة، وخدمة الأمن الصهيوني - بأقل كلفة عليها - من جهة ثانية... وخصوصاً أن بقعة الزيت الإرهابية المائعة، قد حققت - مع الأسف – بتراً لـ»الهلال الشيعي»، وتهديدٍ لـ»القوس السني»، فضلاً عن أنها قد فرملت ودوزنت «الأفول الأميركي». أليس هذا ما جرى؟
اليوم، وبعد فعل هذا الأوكسجين الإرهابي فعله في المنطقة، وذلك في خدمة أهداف كل أولئك، وبعد انطلاق السهم الروسي المضاد في سوريا، متكاملاً ومتضامناً مع باقي أطراف محور الممانعة فيها، فارضاً على أميركا وتحالفها للجلوس مرغمين على طاولة البحث الجدي - ولأول مرة - عن حل للأزمة السورية، والذي تمخض عنها «بيان فيينا» ذو النقاط التسع، ليُمثّل خريطة طريق بين الأطراف المتصارعة... إنطلاقاً من هذا المصير الذي يمكن أن تؤول إليه هذه الخريطة الروسية، يمكننا استشراف آفاق المشهد السوري في المقبل من الأيام، ويمكننا الجزم أيضاً بأن العملية الروسية فيها قد حسمت مرحلة الاستثمار بالإرهاب لدى أميركا وتحالفها في المنطقة، وتحديداً في سوريا.

كلام لافروف كان يُعبّر عن رفض
روسيا لموجة جديدة من الحرب


ولأجل هذا وذاك، حلّ عصر الانخراط الأميركي ومعه الأطلسي، ضيفاً ثقيلاً في مجال مكافحة الإرهاب في سوريا، كون المرحلة الحالية والمقبلة فيها، قد عنونتها روسيا، بأنها مرحلة «وراثة الإرهاب» لمن يرغب. لقد كان لافتاً، أنه وفي اللحظة التي كان يتلو فيها وزيرا خارجية روسيا وأميركا لبيان فيينا، كانت وكالات الأنباء تتناقل خبر قرار واشنطن إرسال مجموعة من «الاستشاريين» العسكريين إلى سوريا، وذلك لمساعدة «جيش سوريا الديموقراطية» لطرد «داعش» من الشرق والشمال السوري... ولتكرّ بعدها السبحة الأطلسية وللهدف المعلن ذاته. ولكن، وفي معرض تعليق وزير الخارجية الروسي على تلك الخطوة الأميركية، وفي المؤتمر الصحافي نفسه في فيينا، عبّر لافروف عن امتعاضه من الخطوة، معللاً بأن «روسيا لا تريد حرباً للوكلاء في سوريا»، وهذه كانت الإشارة الروسية الأولى لما ترفضه روسيا لما يمكن أن تخفيه أميركا في جعبتها لمرحلة ما بعد وراثة الإرهاب بين طرفي الصراع فيها.
كلام لافروف، كان يُعبّر، وبلا شك، عن رفض روسيا لموجةٍ جديدة من الحرب في سوريا، قد تنطلق لاحقاً في ما بين حلفائها في الميدان السوري من جهة، وحلفاء أميركا «المعتدلين»، وارثي الإرهابيين من جهة أخرى... وخصوصاً إذا ما نُفِذت فيها المرحلتين، الأولى والثانية من خريطة طريق فيينا، ولم تصل المرحلة الثالثة - والمتمثلة في تنفيذ بنود الحل السياسي للأزمة - إلى خواتيمها السعيدة، سواء في ما خص الاتفاق على دستور جديد، أو في مرحلة الاتفاق على كيفية إجراء الانتخابات وهوية المشاركين والمقترعين فيها لناحية الأشخاص وأماكن وجودهم على حد سواء.
انطلاقاً من هنا، وبالعودة إلى السؤال المطروح في عنوان هذه العجالة: سوريا إلى أين؟
ولكي نستطيع تلمس الإجابة على هذا السؤال، لا بد من التذكير بأن خريطة طريق فيينا قد أقرت وحدة سوريا الجغرافية، ونظامها العلماني، وعليه فإن سوريا المقسمة، ممنوعة روسياً... وسوريا المسالمة، ممنوعة إيرانياً، وسوريا المقاومة، ممنوعة أميركيا، أما سوريا المفدرلة فهي مطروحة ومُنظّر لها في مراكز البحث - وبقوة – صهيونياً. لكن، وبغض النظر عن هذه الصيغ أو غيرها، لا بد من الإشارة إلى أنه ما بات محسوماً لدى طرفي الصراع بأن العملية العسكرية الروسية، والمتكافلة مع أطراف محور الممانعة، لا يمكن لها أن تتوقف أو أن ترتبط بالاتفاق حول مسار وتنفيذ المرحلة السياسية من تفاهمات فيينا... فهذا الأمر أصبح وراءنا، وعليه فإنه لا مناص من الخلاص من الإرهاب فيها. فالجميع سيدخل مرغماً مرحلة الوراثة الجغرافية للإرهاب، لتدخل معها سوريا مرحلة جديدة ممثلةً باستعار حرب الوكلاء فيها. وهذا الأمر بتقديري، سيجعل من الاستنزاف المديد مكلفاً على الجميع، فضلاً عن كونه مرفوضاً من قبل روسيا ومحور الممانعة معها، وذلك لأن الاستراتيجية الروسية والإيرانية، لمرحلة ما بعد الاتفاق النووي، تعتمد على الخلاص من براثن الاستنزاف والصعود رويداً رويداً لتثبيت نظام تعدد الأقطاب المتكافئ القوى. فالاستنزاف هو واحد، سواء أكان ضد الإرهابيين، أو في مقابل «المعتدلين».
بناءً عليه، فلربما يكون عنوان مرحلة ما بعد وراثة الإرهاب في سوريا، هو تجميد للصراع فيها، لحين الولوج في مرحلة من التفاهم على وضع حلولٍ لأزمات المنطقة والعالم من جهة، وللاتفاق على آليات النظام العالمي الجديد بين الطبقات السياسية العليا في العالم من جهة ثانية. لأجل هذا، وللوصول إلى هذه المرحلة بأقل الخسائر الممكنة على الجميع، فإن ذلك سيُحتّم عليهم مرغمين، بأن يسلكوا استراتيجية إلزامية فيها سمتها على الأغلب، ولديهم جميعاً «متحرّفاً لقتال».
يبقى السؤال: هل تطول أو تقصر مدة هذه الاستراتيجية؟ وما هي العوامل التي تتحكم بذلك؟
*باحث لبناني