كنت أودّ إثارة هذا النقاش على نحو ملموس أكثر وفي ما خصّ الشأن السوري تحديداً. لكن يبدو أن القوى التي تموّل الحرب القذرة في البلد (بالأصالة عن نفسها أو بالوكالة عن آخرين) لا تعنى بشيء قدر اعتنائها بسحق أيّ إمكانية ولو رمزية لعقلنة تلك الحرب «وإعادتها إلى جادة الصواب». لنتفق بداية على نسبية اعتقادنا لما هو صواب وما هو خطأ في الشأن السوري، فما يبدو صواباً بالنسبة للبعض قد لا يكون كذلك بالنسبة إلى آخرين.
من هنا أنطلق لأقول بأنّ الصواب بالنسبة إليّ مثلاً هو الاحتكام إلى قاعدة متعارف عليها في العمل السياسي الجادّ (الصراع بين اليمين واليسار)، ولا يفترض أن يشكّل اعتمادها في النزاعات الأهلية ترفاً أو استثناء في غير محلّه. هل من يذكر أنّ الحرب الأهلية في اسبانيا إنما جرت على قاعدة الصراع بين يمين فاشي عسكريتاري، ويسار جمهوري مناهض للعسكريتاريا والفاشيّة معاً. الفوضى التي دبّت في اسبانيا حينها لم تستخدم ذريعة لطمس الوجه الفعلي للصراع كما يحدث في غير بلد عربي اليوم. أما القول بأنّ القوى الإقليمية والدولية في سوريا هي التي حالت دون ذلك، (على اعتبار أنّها تتدخّل في كل شاردة وواردة، وتقرّر ما إذا كان يجب على الصراع وقواه أن ينعطفوا نحو السياسة أو لا) فلا يصلح للمناقشة حتى بين مبتدئين في السياسة. إليكم مثالاً ملموساً على ما أقول، وهو بالمناسبة يأتينا من اسبانيا أيضاً: كانت هنالك تدخّلات دولية سافرة تحاول تحوير بنية الصراع هناك وجرّه إلى مربّع الاستقطاب الناشئ حينها بين النازيّة وباقي دول أوروبا الغربية إبان الحرب العالمية الثانية. التدخّلات تلك أحدثت تشويشاً كبيراً وكادت تودي بوجهة الصراع الفعلية لولا الوضوح الأيديولوجي الذي أبداه الاسبان وخصوصاً الجمهوريين منهم. هؤلاء هزموا في النهاية أمام الفاشية العسكرية، وهزيمتهم كانت إلى جانب عوامل أخرى كثيرة توطئة لاندلاع شرارة الحرب العالمية الثانية. لكن العبرة هنا ليست في الخواتيم بل في السياق الذي تتشكل من خلاله. والسياق ذاك يقول بأن القوى المهيمنة في أوروبا حينها لم تستطع رغم سطوتها الشديدة فرض أجندة معيّنة على الصراع الذي خاضه الجمهوريون ضد الفاشيّة العسكرية. لا يزال الوجدان الجمعي الاسباني مدموغاً بدمغة الحرب الأهلية في الثلاثينيات، وباصطفاف رموز مثل لوركا وهمنغواي إلى جانب اليسار الجمهوري في صراعه ضد السلطة اليمينية الفاشية. عندما كتب لينين مرّة عن كون الحرب الأهلية أكثر أشكال الثورة نجاعة لم يكن مخطئاً تماماً، والأرجح أنّ من هاجمه على مقولته يومها إنّما فعل من موقع المعترض على ما ظنّه دعوة إلى الاقتتال الداخلي الصرف لا إلى تنظيمه وتصريفه على أساس طبقي وسياسي، وهو (أي هذا الأخير) بالضبط ما قصده الرجل حينها. لا يجب أن يفهم من ذلك أننا ندعو إلى تنظيم الحرب الأهلية في سوريا مثلاً. فما قاله لينين لا يبدو ملائماً تماماً للوضع السوري، والاستشهاد به إنّما يأتي لتأكيد تجارب تشكّلت في ظروف مغايرة لتلك التي ولدت في سياقها الأزمة السورية. خلاصات الحرب الأهلية في اسبانيا هي واحدة من تلك التجارب فحسب. ذلك أنّ التحلّل الاجتماعي في سوريا قد حصل تحديداً لأننا نسينا أن نبدأ من حيث انتهى الاسبان. هم خرجوا من حربهم الأهلية مثخنين بالجراح، وظلّوا بعدها تحت حكم ديكتاتورية فرانكو حتى أوائل السبعينيات من القرن الفائت، وعندما سقط فرانكو لم يسقط معه المجتمع في اسبانيا. والمقصود بالمجتمع هنا هو الطبقات الاجتماعية التي حافظت على انقساماتها التي كانت عليها ابّان الحرب وبعدها. حتى التحوّلات التي طرأت عليها لاحقاً (أي الطبقات) لم تستطع أن تحوّر كثيراً في بنيتها الأساسية التي بقيت متمحورة حول الطبقة كوحدة اجتماعية أو «كهوية» للجماعة السياسية. وهذا هو بالضبط ما قصده لينين عندما تحدّث عن الحرب الأهلية أو بالأحرى عن تنظيمها على أساس طبقي.
فالطبقات الاجتماعية وان تصارعت أحياناً (لنقل بشكل أدقّ إنّ شرط وجودها وبقائها هو الصراع لا العكس) تبقى الأساس في الحفاظ على وحدة أيّ مجتمع، سواء كان يخوض حرباً أهلية أو لا. كلّ هذه المعطيات تبدو غائبة اليوم تماماً عن المشهد السوري. وغيابها ذاك ليس من قبيل الصدفة أبداً. وإلّا فما معنى أن يكون اليمين كمفهوم غائباً عن توصيفنا لبنية القوى المؤتلفة ضدّ النظام. يجب التفكير جدياً في ذلك، وفي إعادة تعريف الصراع في سوريا في ضوء التموضعات الطبقية لكلّ من القوى التي تخوضه. عندما يدرك المرء أنه ينطلق في معركته إلى جانب النظام أو في مواجهته من موقع تحدّده مصلحة الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها (أو يريد أن يصعد إليها) فانه يكون قد أعطى معنى سياسياً فعلياً لنضاله، ولا يعود ممكناً عزو أفعاله إلى المكوّن الطائفي فحسب. لنأخذ مثلاً شعارين شهيرين راجا كثيراً في المواجهات بين النظام وجزء من شعبه، ويكادان يختزلان شكل تلك المواجهات و«مضمونها»: «يحرق روحك يا حافظ»، و«الأسد أو لا أحد». يبدو الشعاران للوهلة الأولى بلا أيّ حامل اجتماعي حقيقي. بكلام آخر يبدوان منقطعين عن جذورهما الاجتماعية. لكن في الحقيقة الأمر ليس كذلك.
هنالك رافعة اجتماعية عريضة للشعار المناهض للأسد الأب، وهي عبارة عن خليط بين فقراء ومنتمين إلى طبقات وسطى وأغنياء وأصحاب امتيازات! يغيب مفهوم الطبقة الاجتماعية كمحدّد للصراع عن حملة هذا الشعار، ويحضر بدلاً منه الالتقاء بين أطراف لا يجمعها شيء فعلياً إلّا العداء للنظام ومؤسّسه. في المقابل يرفع آخرون على الضفّة الأخرى شعاراً يمجّد آل الأسد ويريد «لممثّلهم» اليوم البقاء إلى الأبد. هنا أيضاً يحضر الفقراء ومتوسّطو الدخل وأصحاب الامتيازات وتغيب الطبقة بمفهومها الكلاسيكي. قد يصعب على البعض فهم الدينامية التي تضع الفقراء أصحاب المصلحة الفعلية في الثورة الاجتماعية في مواجهة بعضهم البعض. وهو موقف طبيعي بالنظر إلى التموضع الاجتماعي المشترك الذي يصدر عنه هؤلاء. التقدير هنا صحيح منطقياً لكنه ممتنع عملياً. لاحظوا مثلاً كيفية حضور اللصوص الكبار وأصحاب الامتيازات داخل الصراع أو المواجهة. هم لا يحضرون إلّا كأشباح وكفاعلين رمزيين.
سنكون سذّجاً لو صدّقنا فعلاً أنّ مواجهة الأغنياء وأصحاب الامتيازات الطبقية لبعضهم البعض تتعدّى حيّز التسابق على الوصول إلى السلطة وإزاحة الرأسمال الغريم المتحالف معها. لا وجود هنا لرأسماليات وطنية بالمعنى الكلاسيكي حتى يصار إلى إيجاد تفاهمات معها من جانب الفقراء ومتوسطي الدخل على كيفية إعادة بناء الدولة بعد الوصول إلى السلطة. لم يبق هنالك رأسماليون يمكن التحالف معهم مرحلياً. لقد هشّمتهم السلطة المافياوية في ما مضى، وتركت الباقي للأجنحة المافياوية داخل المعارضة العميلة كي تجهز عليهم تماماً.
معظم رؤوس الأموال السورية اليوم هي إمّا مع السلطة المافياوية أو مع المعارضة المافياوية! لا يعود ممكناً والحال كذلك التعويل على تسويات كفيلة بإخراج الصراع من عدميته الاجتماعية ومن انقطاعه عن الصيرورة التاريخية للتشكّلات الطبقية. في ظلّ هذا الاستعصاء لا يجب على المرء أن يتردّد كثيراً. قد لا تكون العودة إلى الطبقة الاجتماعية كمحدّد للصراع ممكنة اليوم، إلا أنّها تبدو الأكثر منطقية بين الاحتمالات الأخرى، والأقلّ كلفة على البلد وأهله. لسنا في وارد المزيد من التجريب بعد الآن. كلّما اشتد الصراع ضراوة ازدادت هشاشة المجتمع وقابليته للتفكّك.
حين يصل الأمر مثلاً بالفقراء المتوزّعين على طرفي الصراع إلى ذبح بعضهم البعض إمّا على الحواجز أو داخل البيوت، فيما يقبع الأغنياء السّفلة في قصورهم وفنادقهم منتظرين عبورهم إلى السلطة على جثث أولئك البسطاء، نعرف أنّ ما من قضيّة يموت لأجلها هؤلاء، وان بقاءهم أو فناءهم بالنسبة إلى «السادة» الأغنياء سواء. ثمّة مشكلة طبعاً في معاودتنا استخدام مصطلحات قيل لنا إنّ صلاحيتها قد انتهت مع قيام «الثورات». عندما نتحدّث عن سادة و«عبيد» مجدّداً أو عن مستغِلّين ومستغَلّين، فهذا يعني أنّ الظلم الذي قامت الثورات لإنهائه لم ينته تماماً. ربما كانت المشكلة في «الثورات» نفسها. في مصر وتونس واليمن الآن لا توجد بوادر أكيدة لـ«تحلّل اجتماعي» (ليس بالضرورة أن يكون ذلك دليل صحّة وعافية)، لكن في المقابل لا نقع على مؤشرات تدلّنا على أنّ شيئاً قد تغيّر في ما خصّ احتكار الطبقات المسيطرة للثروة. طبعاً لم ينشأ عن هذا القصور في معالجة آلية اشتغال الهيمنة الطبقية «تحلّل اجتماعي» لسبب بسيط هو أنّ الصراع قد حسم بسرعة وعلى نحو لا يمسّ كثيراً بامتيازات الأقلية النهّابة. أرجّح شخصياً حصول اتفاق بين القوى الاستعمارية وبيادقها هناك قضى بما يلي: الموافقة على الحسم السريع للصراع مقابل تنازل القوى المتصارعة عن فكرة الذهاب بالثورة إلى خواتيمها «الطبيعية»، اي الصراع بين الطبقات الاجتماعية بما هو الشكل الأمثل لمزاولة السياسة. وفي شرطنا الحالي إما أن تكون السياسة ثورية أو لا تكون. في تونس ومصر واليمن والبحرين لم تكن كذلك حتى الآن، لذلك تحديداً حافظ المجتمع على استقراره الشكلي والهشّ. أما في سوريا فالدينامية كانت مختلفة جذريّاً. التحلّل هنا أخذ شكلاً عمودياً بالضبط لأنّنا لم نطرح على الحراك سؤال الطبقات الاجتماعية وصراعها. لو حصل ذلك منذ فترة لكنّا تفادينا زجّ الفقراء في مواجهات عبثية مع بعضهم البعض، ولكنّا استطعنا أيضا تفكيك المسألة الطائفية قبل أن تنفجر في وجهنا جميعاً. وبما أنّها قد انفجرت وانتهى الأمر فلا بأس من معاودة ضبطها من جديد. الأداة الوحيدة الصالحة لفعل ذلك هي التحليل الطبقي. وهذا الأخير يفيد بأن الصراع اليوم هو صراع فقراء ضد بعضهم البعض. لنجرّب قول ذلك بطريقة مغايرة: هو صراع أغنياء ضد بعضهم البعض لكن بالواسطة. والواسطة هنا هي الفقراء والطائفية السياسية. كلا الأمرين مصنوع بحذاقة شديدة، وكلاهما أيضاً يستخدمان ضدّنا وضدّ ثورتنا الحقيقية. لا بد إذاً من قلب الديناميّة. وهذه عملية معقّدة تتطلّب الإصغاء إلى الواقع جيّداً قبل معاودة صياغته نظرياً. وواقعنا اليوم هو واقع الحرب الأهلية. لنقرّ بذلك أولاً، ثم نحاول لاحقاً فعل ما يمكننا فعله: أي «تنظيم تلك الحرب»، على نحو يجعلها صراعاً بين الطبقات لا بين «الطوائف» أو «الجماعات الطائفية». هكذا فقط نحافظ على وحدة المجتمع، وننتقل به إلى ضفّة التثوير الفعلي لا الصّوري.
* كاتب سوري