يُستخدم مصطلح الإمبريالية بكثرة وسهولة وبالمستويين الفعلي والسطحي، كما مر المصطلح بدرجات من الاستخدام. ففيما كان استخدامه كثيراً جداً في حقبة التحرر الوطني، أصبح استعماله بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ودخول العالم حقبة العولمة بمثابة تطرف ماركسي يحنّ إلى عهد مضى، إلى أن دخلت الرأسمالية الاحتكارية أزمتها المالية الاقتصادية الحالية، فعاد استخدامه بشكل قوي.
درج كثيرون على استخدام تعريف كارل كاوتسكي الذي يشير إلى الإمبريالية بالعلاقة بين البلدان المتقدمة والمتخلفة. وهي علاقة تُناظر القمع والاستغلال من قبل القوي على الضعيف، وهو تعريف لم يكتف به لينين الذي ربط التسمية بعملية التراكم الرأسمالي على صعيد عالمي في حقبة الرأسمالية الاحتكارية. إنها نظرية اختبار/ قراءة التراكم في سياق السوق العالمي الذي يخلق على يد ذلك التراكم.
تقوم نظرية لينين للإمبريالية على ثلاثة مكونات:
1ــ تحليل التراكم الرأسمالي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن التراكم في أساسه واستمراره هو استغلال رأس المال للعمل في عملية الإنتاج وهي العملية التي تشترط صراعاً طبقياً بمعزل عن شدته وهي التي تحكم مسار الاقتصادات، وليس السوق والمنافسة بما هما السطح الظاهري للعملية.
2ــ تقسيم الرأسمالية إلى حقب، أي من حيث مسيرتها ومستوى تطورها.
3ــ موضعة الظاهرة، أي الإمبريالية، في سياق التقسيم السياسي للعالم إلى بلدان.
وهذا يستدعي تنافس البلدان الرأسمالية تنافساً إمبريالياً من جهة، ثم أثر الرأسمالية على التشكيلات الما قبل رأسمالية أي تمفصل أنماط الإنتاج بين المركز والمحيط، وتجلي هذه العلاقة في قمع الشعوب الخاضعة لسيطرة رأس المال، وبالتالي الرد القومي للأمم المُخضعة.
ومن حيث آليات عمل الإمبريالية، فقد رآها لينين على أنها تصدير رأس المال، طبعاً إلى جانب تصدير السلع ــ وتركز الإنتاج والتوزيع بأيدي تروستات (اتحاد احتكارات في ما بينها تجنباً للمنافسة، ما يمكِّنها أكثر من عنق المستهلكين) ــ واندماج رأسي المال الصناعي والبنكي ــ ثم تقاسم الإمبرياليات للعالم من حيث التأثير ــ وبعد ذلك الإنجاز تقتتل بعضها مع بعض على إعادة الاقتسام، وتصفية بعضها بعضاً حيثما وحينما يكون ذلك ممكناً.
لعل مركز نظرية لينين هذه هو: دخول الرأسمالية في المركز مرحلة الاحتكار من جهة، وتصدير رأس المال من جهة ثانية. يتضمن تصدير رأس المال في مسيرته وجود الاستعمار كمرحلة أقدم للسيطرة الرأسمالية على العالم، و/ أو اتخاذ الاستعمار شكلاً جديداً بالاقتصاد والتبادل اللامتكافئ.
لم يتوقف العالم عند ما وصل إليه لينين في حياته، فقد دخل على تصدير السلع ورأس المال في سبعينيات القرن العشرين تصدير رأس المال العامل الإنتاجي.
إن الأنواع أو المستويات الثلاثة للتصدير مرتكزة على مقولة لينين الأساسية وهي سعي الرأسمالية الاحتكارية لأعلى تراكم ممكن.
سؤال هذه المقالة هو حدود انطباق النظرية اللينينية في الإمبريالية على روسيا اليوم.
إذا اتفقنا بأن الاستعمار يشكل الأرضية التي تُقام عليها الإمبريالية، فهو شرط لا ينطبق على روسيا الحالية، ولا سيما أن الدول المحيطة بها والتي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي السابق هي ضمن الاتحاد الروسي، وليست مستعمرات.
كما أن روسيا لا تقاسم ولا تقاتل الإمبرياليات الغربية على اقتسام العالم طالما هي لا تستعمر أمماً أخرى. وهذا يُخرجها من مزاعم مثقفي الثورة المضادة الذين ينعمون بأنّ روسيا إمبريالية استناداً إلى دورها في دعم سوريا.

إن نعت روسيا بالإمبريالية يندرج في خانة التحريض السياسي


وهو دور لا يتسم بكونه استعماراً بل استعانة دولة بحليف، ولا يشتمل على تصدير رأس المال ولا تصدير السلع بشكل مهيمن، ولا حتى تصدير رأس المال العامل الإنتاجي باعتبارها الآليات الفعلية لتأسيس علاقة إمبريالية. وبالطبع، هذا لا ينفي وجود مبادلات تجارية بين روسيا وسوريا، بل إن المطلوب من سوريا أن تتجه في مجال التجارة الخارجية إلى الشرق.
صحيح أن النظام الاقتصادي الاجتماعي في روسيا هو نظام رأسمالي بلا مواربة. وصحيح أن الرأسمالية يمكن أن تولد دوراً إمبريالياً، ولكن ليس في مطلق الظروف والشروط.
هذا يعيدنا إلى أزمة تدني معدل الاستهلاك في البلد الرأسمالي المتقدم والتي تدفع باتجاه الاستعمار لتصريف المنتجات وما يرافق ذلك من جاهزية لحروب طاحنة والتي التقطها عام 1895 الاقتصادي الليبرالي هوبسن إثر الحرب الاستعمارية بين بريطانيا وهولندا في جنوب أفريقيا، وهي حرب دول لخدمة الشركات، كما هي مختلف حروب الاستعمار فالإمبريالية.
قد يجادل البعض بأن التبادل في السوق الدولية بين دولة متقدمة وأخرى متخلفة هو علاقة إمبريالية بما هي علاقة تبادل لامتكافئ. ولكن هذه العلاقة، وهي لا شك لصالح البلد المتقدم، إلا أنها ليست علاقة مفروضة بالقوة المسلحة، وخاصة إذا كان للدولة الأقل تطوراً فرصة اختيار الطرف الذي تتبادل معه. هي علاقة استغلال، ولكنها ليست علاقة استعمار ومن ثم إمبريالية.
لا يغيب عن البال أنّ الرأسمالية هي ميّالة بنيوياً للتوسع خارج الحدود القومية، وهو توسع لا يرتبط أو يشترط تدني معدل الاستهلاك. فهناك نهب الثروات، وخاصة المواد الخام وطبعاً تصدير رأس المال لأكثر من هدف.
لعل التصدير الثالث، تصدير رأس المال العامل الإنتاجي هو الذي يشد الاهتمام أكثر الآن، وهو ما لم يكن في فترة لينين. فقد شهدت سبعينيات القرن العشرين نقل الكثير من الشركات مواقع الإنتاج إلى خارج بلدان المركز إلى دولة أو عدة دول. وهو تمظهر إمبريالي يحقّق معدلات ربح أعلى باستغلال قوة العمل في المحيط التي «تكلبشها» الأجور الأدنى والحقوق الأقل. وهي ظاهرة امتزجت من جهة/ واشتبكت من جهة ثانية مع استراتيجية بدائل الواردات التي تبنتها بعض بلدان المحيط. بعض هذه البلدان ترسبت إلى وضعية دور الكمبرادور قاضية على الكثير من صناعاتها، حالة مصر السادات ومبارك، ومنها بلدان:
ــ تمكنت من الاحتفاظ بصناعاتها وأصبحت منافساً في السوق العالمية من جهة كالبرازيل، ومن جهة ثانية غدت منافسة وبمثابة ورشة لدول المركز كالصين.
لعل أهمية استراتيجية بدائل الواردات في أنها أنجزت أمرين: وفرت لبلدانها نسبة عالية من الكفاية بمنتجات كانت تستوردها، ونافست المركز في كثير من المنتجات التي كان يحتكرها المركز في السوق العالمية. وهذا ما شدد المنافسة على الأسواق بين الإمبرياليات الغربية وهي منافسة لم تكن روسيا طرفاً فيها، بل اتخذت منحى بلورة كتلة اقتصادية دولية منافسة هي البريكس.
قبيل تبلور البريكس وبعد تبلورها، لجأت الإمبرياليات وخاصة الولايات المتحدة إلى التصدير الأخطر وهو تصدير الأسلحة والحروب. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة كانت قد أدركت نقطة ضعفها في عدم قدرتها على إنتاج سلع مدنية بكلفة منافسة للبلدان ذات الأجور الأدنى للعمال، ولذا من بداية الخمسينيات توجهت لتطوير صناعة السلاح كي تتفوق بها على مختلف بلدان العالم، وهي الصناعة التي تحتم عليها صناعة الحروب.
السؤال: هل كانت الولايات المتحدة تدرك باكراً بأنّ ازدهار ما بعد الحرب الثانية لن يدوم طويلاً، بمعنى أن السمة العامة للرأسمالية هي الكساد وليس النمو، كما يجادل التيار الماركسي ــ اللينيني المتصل من لينين إلى ماو تسي تونغ، وصولاً إلى بول سويزي، فسمير أمين. كانت أو لم تكن، فهذا أمر لا يقلل مما كسبته من ذلك التوجه الوحشي.
هناك ظاهرة أخرى متعلقة بالإمبريالية في حالة الكساد وتراكم رأس المال الكسول الذي لا يجد مجالات تصريف ذات مردود ربحوي يتناسب مع طموحها الاستثماري، وهي قيام الشركات الغربية وشركات خليجية بشراء مساحات واسعة من الأراضي في بلدان المحيط تصل إلى نسب عالية من مساحة البلد نفسه. وهي ظاهرة إمبريالية سمتها تصدير رأس المال لشراء أوطان أو سيادة تلك الأوطان أو شراء أسهم في سيادة تلك الأوطان، ما يجعل النضال لاقتلاعها أكثر إشكالية في حالة وجود أنظمة قومية تقدمية أو اشتراكية. وفي حدود ما نعرف، فإن روسيا ليست ضمن هذا التوجه.
يفتح هذا الأمر على العلاقة الفريدة بين الإمبريالية وخاصة الأميركية وكيانات الريع النفطي الخليجية التي هي من جهة مستعمرات أو أسواق تصريف أسلحة المركز، وفتح أسواق لتصريفها بصناعة حروب كما هي ضد الأمة العربية وخاصة في سوريا واليمن والعراق وليبيا وحتى مصر، ومستعمرات اقتصادية عبر خضوعها لشركات النفط الغربية، وإمبرياليات من حيث دورها في شراء أراض في بلدان أخرى، أي استيطان مدفوع الثمن.
ليس هذا الحديث باتجاه قراءة كيف سيتطور الدور الدولي لروسيا، وهل ستصبح دولة إمبريالية أو لا، فهذا منوط بطبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي هناك وتطورات الوضع الدولي، ووجود أنظمة في المحيط ربما تستدعي الإمبريالية!
إن قيام البعض بنعت روسيا بالإمبريالية وحتى الصين الشعبية، يندرج في خانة التحريض السياسي، أو بحث مثقف عن براءة اختراع دون أن يكون مسؤولاً عما يثرثر به، أو كونه مدفوعاً أو مدفوعاً له، ولا يمتّ بصلة علمية، اقتصادية طبعاً، لمفهوم الإمبريالية كما صيغت ماركسياً، وهي مصطلح ماركسي بالطبع. وقد يكون من الطرافة بمكان أن هؤلاء تنبهوا إلى «إمبريالية» روسيا بعد الدور الجديد للقوات الجوية الروسية في سوريا إثر الطلب الرسمي السوري من الدولة الروسية.
* كاتب عربي ــ فلسطين