بات واضحاً أن البراغماتية والتضليل الأميركي لا يستطيعان إخفاء أهداف واشنطن الحيوية في المنطقة. ومن تلك الأهداف تأمين مصالحها الإستراتيجية الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، وذلك يرتبط من وجهة نظرها بإحكام قبضتها على دول المنطقة، والقضاء على عوامل القوة التي تتمتع بها الدول التي تربطها علاقات مميزة مع إيران وروسيا.
وترى واشنطن أن المدخل إلى ذلك يكمن في تغيير التحالفات السياسية السائدة في المنطقة، وصياغة تحالفات أخرى تمكِّنها من حماية إسرائيل وضمان تفوقها. ثانياً: إعادة توضيب الجغرافيا السياسية للمنطقة، وتعتمد في ذلك على تفخيخ المنطقة بأنظمة طائفية وكانتونات متناحرة تكون بديلة عن الأنظمة الراهنة، وعلى نحو خاص الحليفة لإيران وروسيا، وأيضاً تفكيك الحوامل الاجتماعية والسياسية لأي مشروع سياسي ديمقراطي. ويتقاطع اشتغالها على إجهاض التحوّلات السياسية الوطنية الديمقراطية التنموية، مع دعم وتمويل مجموعات مسلحة «معتدلة» وغير معتدلة تقوم بمهمات وظيفية. وتساندها في تأسيس وتمويل وتدريب تلك المجموعات دول أخرى متعددة. وذلك يوضحه جو بايدن بقوله «إن مشكلتنا الكبرى كانت حلفاءنا في المنطقة. الأتراك أصدقاء كبار لنا وكذلك السعودية والمقيمون في الإمارات وغيرها، لكن همهم الوحيد كان إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، لذلك شنوا حرباً بالوكالة بين السنّة والشيعة، وقدموا مئات الملايين من الدولارات وعشرات آلاف الأطنان من الأسلحة إلى كل الذين يقبلون مقاتلة الأسد». أما عن تركيا، فنقل بايدن عن رجب طيب أردوغان اعترافه بأنهم «سمحوا بدخول عدد كبير» من المقاتلين عبر الحدود. ومن البداهة بمكان أن ما تقوم به واشنطن يعدّ تجاوزاً للقانون الدولي والأعراف الدولية، وانتهاكاً لسيادة الدول المستقلة، وهذا يعبِّر عن جوهر سياساتها الإمبريالية.
أما في ما يخص أنقرة، فإنها تعاني مخاطر وأزمات متعددة الأبعاد والمستويات: أولها سياسية نتيجة سياساتها التدخلية في سوريا ودعمها لداعش وبعض المجموعات المسلحة الأخرى، وأيضاً موقفها الرافض لحقوق الأكراد، ولاحقاً دخولها حرباً مع الأكراد على مستويين: بالوكالة عبر «داعش»، وأخرى على نحو مباشر ضد حزب العمال الكردستاني، بعد مشاركتها في التحالف الذي تقوده واشنطن. ثانياً: تواجه مخاطر انتقال عمليات «داعش» إلى الداخل التركي فيما لو استمرت في تحالفها مع واشنطن، وأيضاً تواجه تصعيداً سياسياً، تمارسه القوى السياسية الكردية، وعسكرياً من حزب العمال الكردستاني في حال استمرار دعمها لداعش. ثالثاً: ستواجه غضباً أميركا فيما لو رفضت محاربة «داعش». ومع ذلك، فإن جميع العوامل السابقة لم تمنع أنقرة من محاربة العمال الكردستاني، ومن الاستمرار في دعم «داعش» واستخدامه في محاربة «وحدات حماية الشعب»، لتمكينه من السيطرة على الشريط الحدودي الذي يقطنه الأكراد. من جانب آخر تحاول أنقرة إنشاء منطقة عازلة تفصل أكراد سوريا عن أكراد تركيا في خطوة يراد منها إجهاض مشروع إقامة الحكم الذاتي، الذي يعمل الأكراد على توطيد أركانه. ويدلل على ذلك اشتراطها لمنع سقوط عين العرب بيد «داعش» تخلّي «الاتحاد الديمقراطي» عن مشروع الإدارة الذاتية، والانضمام إلى «الجيش الحر»، والتخلي عن أي علاقة مع النظام السوري. وتُصر أنقرة على إنشاء منطقة عازلة لتكون منصّة متقدمة لقواتها، ومكاناً لتجميع اللاجئين السوريين وتدريب «المعارضة المعتدلة».

يُدرك السوريون أن أكثر من
تاجر في قضيتهم هم الأميركيون وحلفاؤهم

في السياق ذاته، فإن الخلاف بين دول التحالف الأميركي، وبينها وبين أطراف دولية وإقليمية أخرى، ما زال يتمحور حول مصير الرئيس السوري، ودوره في أي عملية سياسية انتقالية، وأيضاً ربط محاربة الإرهاب مع إسقاط النظام. ويمثّل ذلك مدخلاً إلى خلافات أخرى تتعلق بأهداف التحالف الرئيسية والآليات الواجب اتباعها والمجموعات المسلحة التي يجب اعتمادها لتحقيق تلك الأهداف. ومن الواضح أن الغارات الأميركية ضد «داعش» تقف عند الحدود السياسية التي تريد تحقيقها واشنطن. ونضيف إلى ما ذكرناه من أهداف: استنزاف الموارد الخليجية ـ زيادة الضغط على روسيا وإيران، وإعاقة النهوض الاقتصادي للصين، ودول البريكس.
إن تباين وتناقض مصالح القوى الدولية والإقليمية، وانتشار الفوضى، والتكاثر الأرنبي للمجموعات المسلحة، جعل السوريون يحارون في تحديد أهداف السياسات الدولية. والسبب في ذلك يتجاوز تناقض المواقف الدولية إلى اختلاف الميول السياسية والانتماءات الاجتماعية والتموضعات الاقتصادية للسوريين. ومع ذلك يمثّل رفض التدخل الخارجي، وإنهاء الصراع الذي يستنزف ويهدر عوامل قوة الدولة والمجتمع، قاسماً مشتركا بين السوريين عامة، لكن ذلك لا يختزل أو ينفي تمسكهم بالتغيير السياسي الوطني الديمقراطي والعدالة الاجتماعية. هذا في وقت لم يزل فيه أدعياء معارضة الخارج يراهنون على إسقاط النظام بغض النظر عن نتائج ذلك.
يُدرك السوريون جيداً أن أكثر مَن تاجر في القضية السورية هم الأميركيون وحلفاوهم في المنطقة. ويدركون أيضاً أن استمرار الأزمة يفاقم من حدتها، ويزيد من إشكالاتها وشدة تناقضاتها. وهذا ينعكس على آليات تفكيرهم. فمآلات الأزمة أوضَحت على نحو لا يترك مجالاً للشك أن أداء معارضة الخارج ومواقفها السياسية لا يُعبّران عن ميول السوريين ومصالحهم. إضافة إلى ذلك، فإن السوريين عموماً لا يثقون بما تقوم به واشنطن في حربها ضد «الإرهاب». ويدركون أن العداء للشعوب، والصراع على الثروات، يمثلان جوهر سياساتها. تحديداً بعدما بات الجنون من السمات البنيوية للرأسمالية، لكن التدخل الروسي المباشر سوف يساهم في تغيير المعطيات الميدانية والسياسية كافة. وذلك بغض النظر عن مآلاته التي من الممكن ألا تعبّر على نحو كامل ومباشر عن طموحات السوريين وأهدافهم.
* كاتب وباحث سوري