لم تحظَ قضية في العالم بمثل ما حظيت به القضية الفلسطينية من اهتمام ورعاية ومتابعة، روّج لها في المحافل الدولية والعربية والإسلامية على نحو غير مسبوق. ولا تزال القضية الفلسطينية تمثّل القضية المركزية للأمة من المحيط إلى الخليج، وأضحت جزءاً من وجدان الشارع العربي بأجياله المتعاقبة منذ الأربعينيات، ولا تزال تتفاعل في الذاكرة كأنّ نكبة 1948 وليدة اللحظة.ولا شك أنّ الرئيس الراحل ياسر عرفات استطاع تحويل القضية الفلسطينية من قضية لاجئين، تُدرجها المنظمات الدولية على لوائح هباتها المسماة «إنسانية»، إلى قضية شعب، فثورة، فدولة، فكانت الحلم الذي راود الأجيال الفلسطينية المتعاقبة قادةً وجمهوراً.
صحيح أنّه رغم الشوائب التي اعترت النظام العربي الرسمي، غير أنّ هذا العالم لم يبخل بتقديم الدعم إلى القضية الفلسطينية، لكن ما عزّز هذا الحضور القوي، هو إصرار «منظمة التحرير» بقيادة ياسر عرفات على استقلال قرار المنظمة من التبعية المفرطة والرخيصة لأي نظام أو دولة. قاتل أبو عمار دولتين متجاورتين للحدود الفلسطينية، الأردن وسوريا، حفاظاً على استقلال القرار الحر، وتبع ذلك اجتياح إسرائيلي في 1982، وأخرجت المنظمة قسراً من بيروت، واستكملها السوري في 1983 من شمال لبنان.
جاءت انتفاضة الضفة الغربية في 1988 كخطوة متقدمة لتضحيات المنظمة، وكنتيجة لعملها الدؤوب، وتراكم خبراتها ومتابعتها للواقع اليومي في الداخل من أجل إنجاز مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. كان أبو عمار يعي أهمية الحصول على موطئ قدم في الداخل، مفضّلاً ذلك على وصاية الأنظمة العربية.
عاش محاصراً، ومكتفياً، في مقاطعة صغيرة وهو يردد كلمته المشهورة من حصار بيروت إلى حصار المقاطعة «يا وحدنا». بشخصيته المتميزة كان يحاصر كل الأنظمة والعواصم من بقعته في رام الله، فقط لأنّه آثر البقاء حراً، لكن مع بزوغ نجم «حماس» بدأ الحلم يتلاشى.
انطلقت «حماس» كحركة أكثر جذرية بشعاراتها الرنانة، والأكثر حماسة لعدم التفريط والتنازل. وصلت بشعاراتها إلى حدود تخوين «منظمة التحرير»، لكن شعاراتها كانت أقرب إلى المزايدة على منظمة التحرير ليس إلا. اندفعت الجماهير، والشارع الفلسطيني للالتفاف حول «حماس» لاستعادة ما قدمته المنظمة من
تنازلات.
احتضن محور المقاومة (إيران، سوريا وحزب الله) «حماس»، مما أعطاها زخماً كبيراً لتصنع انتصارات جعلتها في مقدمة حركات التحرر في العالم، فأعطيت مظلة محور المقاومة والممانعة دون حدود، وكانت نتيجة ذلك الدعم السخي انتصارات مبهرة وكبيرة في حرب غزة 2008.
لكن شتان بين الحقيقة والخيال، فقد جاءت الثورات العربية، وما يسمى «الربيع العربي» ليدحض تلك الشعارات، وانكشفت ادعاءات «حماس» التي بدّلت جلدها بسرعة البرق، وتبيّن أنّها كانت تمنّي النفس بالمناصب، وجلّ طموحها السلطة وأي سلطة: ولاية على 300 كيلومتر مربع لا أكثر.
لم تتردد «حماس» وكبار من قادتها في الهرولة إلى أحضان مشيخات النفط، و«قائد الربيع العربي» المدعوة قطر، ساعية إلى تسويات صغيرة لا تتناسب مع تضحيات الشعب الفلسطيني، وربما لمنفعة شخصية، وليركب مشعل وربيبته هنية موجة «الربيع» ويلتحق بدور مشيخات النفط التي دأبت على مدى عقود على التآمر على قضية فلسطين.
رغم كل ما قيل عنه من تفريط وتنازل، كان الراحل أبو عمار مدركاً حتمية سقوط العراق، وما سيلاقيه صدام من مصير، لكنّه وقف عشية الهجوم المشؤوم على بغداد من قبل قوات التحالف الدولي، ليقول كلمات للتاريخ، ليس لرفع المعنويات، إنما من موقع رد الجميل: «يحيا العراق». في أحلك الظروف، ظلّ أبو عمار ممسكاً بمبدئية القضية الوطنية، ومغلّباً إياها على أي اعتبار آخر، ورفض الوصاية على منظمته، وحرص على أن لا تأخذ لوناً كي تبقى ملكاً، لكنها على يد «حماس» ها هي تنزلق لتأخذ لوناً إخوانياً... قطرياً، فتتحول من طفل في حضانة الأمة ــ الأم، إلى دمية بيد الأمراء والإمارات ــ أشباه الدول.
سعى أبو عمار إلى رفع مستوى القضية الفلسطينية من بؤر حرمان في مخيمات اللاجئين إلى قضية عالمية الطابع، لكن «حماس»، بشعارات مدعية، وبتهافت سريع غير متردد، حولت الحلم الفلسطيني من حلم دولة إلى «رئاسة بلدية».
* كاتب لبناني