لا شك انّ هناك محاولات حثيثة لتوظيف الأزمة السورية وتفكيكها وإعادة تركيبها بما يخدم الهدف الغربي ــ الخليجي في تقويض وعزل وإضعاف محور المقاومة ولا سيما حزب الله، العمود الفقري للمقاومة في المنطقة، ولا يعني ذلك أنّ موقف الحزب والمقاومة من الازمة السورية منزّه وغير قابل للنقد. هذا الهدف يستدعي التصويب على المقاومة من داخل الطائفة الشيعية ومن بوابة الأزمة السورية، للإيحاء بأن نبوءة سقوط المقاومة بدأت بالفعل. يتجلى كل ذلك أخيراً بعدة عناوين ترمى من منابر شيعية بالتحديد في خضم السجال العام الدائر وأبرزها:- أن موقف حزب الله وحركة امل من الازمة السورية سيكلف الطائفة الشيعية الكثير سواء بفعل انتصار المعارضة السورية او بفعل الموقف العام للإسلاميين السنة في العالم العربي. في هذه النقطة رغبة بإثارة العقل التاريخي للشيعة كجماعة مهددة معزولة أقلوية تحت خطر الإبادة والتنكيل ولا ملاذ لها إلا الجبال والانغلاق والتماهي مع الموقف الاسلامي الرسمي مهما كان، حينها يصح القول فيهم أنهم «عقلاء».
- ان موقف الثنائية الشيعية إنما مرتبط بتبعيتها لإيران، وهي «تبعية» ليست في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة بل في مواجهة «العرب السنة». وهنا يراد القول ان موقف المقاومة مما يجري في سوريا تتعدى آثاره شيعة لبنان الى كثير من الشيعة العرب، وفي ذلك ذريعة إضافية لقمع هذه الجماعات في بلادها، وتأجيجاً لنار المذهبية بوجه إيران وحلفائها.
- تصوير الشيعة كأنهم ضد الانتفاضات العربية، ويمكن لأي متابع لمواقف المقاومة أن يكتشف كذب هذا الادعاء. إن المقاومة وجمهورها وجدوا في هذه الانتفاضات صحوة أسقطت عملاء واشنطن وأتاحت إمكانية تاريخية للتغيير في العالم العربي. ولكن ذلك لا يمنع أن إصدار نقد لممارسات القوى الثورية ومواقفها لا سيما لتلك التي أصبحت في مركز القرار. اما مطالبة المقاومة بأخذ موقف واحد من كل الانتفاضات، فهذا لا يقره لا عقل ولا منهج، فحتى الطرف الآخر يؤيد إسقاط النظام السوري وينتقده بعنف فيما يرفض مطلب إسقاط النظام في البحرين والسعودية رغم أن جزءاً من المعارضة يطالب بذلك، مع انتقادات خجولة، بل لا تنفك تسمعهم يحدثونك عن المبادرات التاريخية للملك عبد الله.
- الترويج بأن هناك رفضاً واسعاً داخل الطائفة الشيعية لموقف الثنائية تجاه الأحداث في المنطقة وسوريا، وهنا يبرز السعي الحثيث في الفترة الأخيرة إلى إصدار بيانات ومواقف بعناوين شيعية مختلفة (الشيعة العرب، الشيعة اللبنانيون، المثقفون الشيعة، العقلاء الشيعة... الخ) وإعادة إخراج جملة من الشخصيات الدينية المعارضة للثنائية الى دائرة الضوء. في الواقع هناك رأي شيعي مخالف للثنائية الشيعية يضيق هامشه كلما اقترب الموضوع من حيّز المقاومة ويتسع كلما بُعد عنها. ولكن مهما اتسع لن يلغي انّ الأغلبية الساحقة الشيعية هي ممثلة بموقف المقاومة ومن ضمنه الموقف من الوضع السوري. لن يلغي هذا الواقع لا الف بيان ولا فصاحة ذاك المعمم او صراخ ذاك الصحافي. لهذه القلة حق الاختلاف فكراً وتعبيراً، بدون منة من أحد، ولكن الإشكال أن هذه المجموعة تستعمل خطاباً إلغائياً مستعلياً احتكارياً ومهيناً في كثير من الاحيان، لذا لا يكون الرد عليها من باب قمع حقها في الاختلاف بل من الحق في محاججتها وكشف تناقضاتها.
لكي لا يكون ما تقدم مجرد توهم، سنستفيد من بيان صدر أخيرأ تحت عنوان «الموقف الشيعي بشرط الحرية» وقد وقعه عدد من النشطاء ورجال الدين، منهم السيد محمد حسن الأمين والسيد هاني فحص. وفي نقاش البيان فائدة أنّه يشمل نقاطاً ترد تكراراً على لسان من يعارضون الموقف العام لشيعة لبنان في ما خص الأحداث العربية الأخيرة. وهذه افتتاحية البيان «لو افترضنا أنّ الجمهور الشيعي تمكن من التعبير عن رأيه بحرية، فماذا يمكن أن يقول بعيداً عن أساليب الترغيب والترهيب؟». إذاً كل الجمهور الشيعي ممن يخالف هذه المجموعة في الرأي هو إما خاضع او مدجن، ذروة احترام الرأي الآخر. ويكمل اصحاب البيان جوابهم بالنيابة عن كل الطائفة الشيعية وبثقة لا يشوبها تواضع، «سوف يجاهر بأنّه يريد...»، فهل يوجد شمولية أكثر من ذلك بعد، مصادرة رأي طائفة ليس من الاغلبية بل من عشرات الأشخاص؟!! بل حتى أن الموقعين «تخيلوا» موقف الأموات، كالمرجع الديني الشيعي السيد محسن الأمين، ولولا بعض الحياء، لوجدنا اسمه بين الموقعين.
فبماذا كان سيطالب الشيعة بحسب البيان: «دولة ديموقراطية عصرية وأصيلة بديلة في سوريا، بعدما فقدت سلطتها الحاكمة... أهليتها للإصلاح»، أي هلموا الى الحرب الأهلية. ولكن سرعان ما تبدأ صدقية الموقعين بالسقوط والترهل كلما اقترب النقاش من دول الخليج، فيصبح المطلب «حواراً جاداً من أجل الإصلاح في البحرين»، هل لأن النظام البحريني أعرق بالممارسة الديموقراطية من النظام السوري؟! ألم يسمع الموقعون صراخ شباب البحرين المطالب بسقوط النظام في شوارع المنامة؟ أم أنّ مسامعهم تصم عند حدود الخليج؟ ثم تأتي الفاجعة: الموقعون «الأحرار العقلاء» اكتشفوا أنّ الشيعة اللبنانيين يريدون «للعقلاء من السنة والشيعة في السعودية، حكاماً ومحكومين، أن لا يكرروا تبادل الأخطاء والانفعالات، كما حصل سابقاً». إذاً في عاصمة الاستبداد والطغيان والرجعية والظلم في العالم المعاصر أي حكم آل سعود، المشكلة ناتجة من تبادل الأخطاء والانفعالات بين الحاكم والمحكوم. لقد استحى زبانية البلاط الملكي أن يدلوا بقول كهذا، ولم تخجل منه هذه الثلة المتسترة بمظالم السوريين.
«إن موقفاً شيعياً معبَّراً عنه بقوة وحكمة ومحبة ورحمة واعتدال وتوازن، مع الشعب السوري، من شأنه أن يسهم بقوة، في تلافي الفتن الطائفية، في كل البلاد العربية، وخاصة في سوريا»، كما يقول البيان. هل مطالبة المقاومة للنظام في بداية الازمة بإصلاحات شاملة هي عداء للشعب السوري؟ هل القول إن على الطرفين ترك العنف والحوار هو عداء للشعب السوري؟ والدعوة إلى التسلح والحرب الاهلية التي تقودها واحتا الديموقراطية قطر والسعودية هو ما يصب في صالح الشعب السوري؟ هل الدعوة الى حوار وطني شامل بضمانات كافية للمعارضة هي عداء للشعب السوري؟ أليس للنظام شعب يؤيده، أم ان الموقعين أيضاً قرروا عن الشعب السوري؟ إن موقف المقاومة واضح ولكن يجري تشويهه، وهو موقف يشابه موقف المقاومة من حركة المعارضة في البحرين والسعودية أي الدعوة إلى الحوار والإصلاح، فهل هذه ازدواجية في الموقف؟ وموقف المقاومة الرافض للتدخل الغربي في سوريا هو نفسه موقف المقاومة الرافض لتدخل واشنطن في العراق في 2003 والذي كان يُحسب انّه في صالح شيعة العراق بوجه نظام «سنّي» استبدادي دموي قتل وهجر الملايين، فهل تلك ازدواجية؟ ام موقف الموقعين من النظامين السعودي والسوري هو الازدواجية بعينها؟
ثم ينطوي البيان على تحذير يلامس التهديد، بالحديث عن الخطر على سلامة الوجود الشيعي بسبب الموقف العام للشيعة من الأحداث السورية، وهو ما يجري ترديده بشكل اوضح عبر منابر أخرى، ومفاده: إن لم يكن موقفكم مطابقاً لموقف الرياض والدوحة وواشنطن حول الازمة السورية فإن الفتنة قادمة، أي سيترك انتحاريو آل سعود بغداد والنجف وكربلاء ويستوطنون في الجنوب والبقاع والضاحية. بالمناسبة كم بياناً اصدر هؤلاء لإدانة سياسة القتل الممنهج للآلاف في العراق عبر العمليات الانتحارية المعروفة التمويل والتحريض؟ بل أن أحدهم كتب تزامناً مع تفجيرات انتحارية دامية استهدفت مواكب عزاء حسينية مقالاً بعنوان «مجانين الشيعة» بالتزامن مع مقال على موقع قناة العربية بعنوان «نعاج الشيعة» ينتقدان شعيرة السير الى مقامات الأئمة، فهل هذا هو التعقل؟
وفي الختام يطالب الموقعون «بإطلاق سراح إخوتنا المحتجزين تطبيقاً لسد ذرائع الفتنة»، ألا يعني ذلك أحقية عملية الخطف ويشرعنها؟ فيصبح الإفراج ليس عملاً إنسانياً ورفعاً للظلم عن الابرياء بل ضرورة سياسية رغم صوابية الخطف بالأصل، فيبدو انّ الموقعين أيضاً مقتنعون ان كل شيعي هو في حزب الله حتى يثبت العكس، وتلك مفارقة أخرى. وأخيراً «هذا بياننا موقعاً بأسمائنا من دون مواربة لأننا منحازون كجميع أهلنا للحق والحقيقة في سوريا». مجدداً لا يقبل موقعو البيان بتمثيل يقل عن «جميع أهلنا»، ولو صح أن جميع أهلنا منحازون لهذه المجموعة في تفسيرها للحق والحقيقة في سوريا، فهل كان للبيان من داع؟ شيعة المقاومة، مع حق الشعب السوري المؤيد والمعارض في الحياة الكريمة، يدينون قتل الأبرياء عن أي طرف صدر، مع الحوار الوطني الشامل والمشفوع بضمانات كافية لكلا الطرفين كمدخل لسوريا كما يريدها أهلها، ضد الدور الخليجي ــ الغربي المهمين على المعارضة لأهداف لا تمت بصلة للحرية وحقوق الإنسان بل للانقضاض على مشروع المقاومة واستعباد اهلها. بعد تفحص البيان أعلاه وما فيه من التناقضات، لا يبقى للمرء إلا ان يتساءل متى سيصدر بيان «الشيعة الملحدون»! وفي ظل الذكرى، لو كان الإمام موسى الصدر «عاقلاً» بحسب تعريف «عقلاء الشيعة» لما اختطف وظلم وغيّب بل كان ليتنعم بمغانم الدنيا والرياسة والتنظير من أعلى التل، ولكنا كطائفة ووطن في خبر كان.
* باحث لبناني