منذ استقلال سورية في منتصف الأربعينيات حتى عام 2011، كان الصراع العربي ــ الصهيوني يشكّل محور الحياة السياسية السورية في كافة مناحيها وحقولها، بغض النظر عن مدى جدية هذا الطرف السوري الرسمي أو الشعبي في اعتناقه أو تبنيه للقضية الفلسطينية أم لا!كانت الأنظمة، على تعاقبها، ترفع شعار «ألا يعلو صوت على صوت المعركة»، وكانت قوى المعارضة، على تنوعها، تطرح برامجها وشعاراتها على أساس أنها الأكثر جدية وصدقية في التهيؤ للمواجهة مع العدو الصهيوني.

فقط، مع اندلاع أحداث 2011، وفجأة، وبصورة شبه كلية ارتفع هذا الموضوع بصورة مطلقة من التداول، وحلّت مكانه شعارات داخلية محض! حتى في حالات الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على هذه المنطقة السورية أو تلك، لم يكن الأمر ليستوقف أحداً من القوى المتحاربة وكأنه مجرد فاصل إعلاني عابر في سياق الفيلم الدموي المستمر. ما من شيء يشبه هذا التغييب الغريب لموضوع الصراع مع إسرائيل، أكثر من لجوء الحواة ولاعبي الخفة للفت نظر جمهور المتفرجين عن الأمر الأساس الذي سيكون موضوع لعبتهم ليعود إلى الظهور في النهاية بصورة مفاجئة تبهر الأنظار بغرابتها!
هذه الصورة كانت حاضرة في المؤتمر الصحافي الذي عقده وزيرا الخارجية الأميركي والروسي ومبعوث الأمم المتحدة دي مستورا في ختام اجتماع فيينا قبل أيام... فبعد تلاوة البيان الشهير الصادر عن ذلك الاجتماع وتولي الوزيرين والمبعوث شرحه وتفصيله، لا سيما عندما أكد دي مستورا أن من بين القوى المتحاربة هناك من سيلتزم بوقف إطلاق النار طوعاً وهناك آخرون تمون عليهم قوى مشاركة في الاجتماع سوف تلزمهم بالالتزام... عند ذاك بدا واضحاً أن هذه الأطراف التي تمثل المجتمعين الدولي والإقليمي هي التي كانت تقود الأحداث على الأرض السورية وهي التي سوف تتولى وضع حد أو نهاية لهذه الأحداث!
ترى ألا يطرح السؤال هنا حول هدف هذه الأطراف الدولية والإقليمية من ذلك كله!
هل تم تدمير العراق وسورية وليبيا واليمن، هكذا لوجه الله؟ هل هي مجرد كارثة شبه طبيعية حلّت بالعرب مع مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، مثلها مثل أي زلزال أو إعصار يضرب هذه المنطقة من العالم؟
هل كان لوجه الله دور الولايات المتحدة خاصة (وكل الآخرين بشكل عام) منذ الأيام الأولى للأحداث عندما كان سفيرها روبرت فورد يتابع كل صغيرة وكبيرة في شؤون «الثورة السورية» ومعه دبلوماسيون ورجال مخابرات من العديد من الدول التابعة غير المشهود لها أبداً بالشغف الديمقراطي أو بالوَلَهْ الغرامي بالشعب السوري.

هل كان لوجه الله دور
الولايات المتحدة منذ الأيام
الأولى للأحداث؟


أم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يجد غير انفجار الأحداث في سورية كتوقيت لحجّه التاريخي إلى القدس المحتلة ليناقش مع نتنياهو وغيره من المسؤولين الإسرائيليين موضوع تلك الأحداث وتطوراتها، ثم ليعود رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى رد تلك الزيارة عشية إعلان موسكو عن مباشرتها التدخل الجوي في سورية! على ضوء هذه التساؤلات غير البريئة، نعود إلى لقاء فيينا وبيانه، حيث نرى:
أولاً: إن إسرائيل كانت حاضرة في الاجتماع من خلال أصدقائها الكثر بين أطرافه. تماماً كما كانت حاضرة في الأحداث السورية من خلال اعتداءاتها المتكررة خلال تلك الأحداث ومن خلال إشرافها المباشر وغير المباشر على الكثير من ساحاتها لاسيما في الجنوب وأطراف الجولان وداخل غرفة الموك في الأردن. كما أن إسرائيل هذه، المطلة على الجغرافيا والأحداث السورية، قادرة في أي وقت على نسف أية ترتيبات في تلك الجغرافيا لا تكون مناسبة لها، وليس هناك أي طرف بين هذه الأطراف قادر أو عازم على منعها من ذلك، تماماً كما كان يجري خلال تدخلاتها العدوانية المتكررة على مدى السنوات الخمس الماضية، عندما لم تكن تجد من يقول لها: ما أحلى الكحل في عينيك!
ثانياً: إن أطراف هذا اللقاء، الممثلين للمجتمعين الدولي والإقليمي، غير معنيين بالأحداث السورية لأسباب سورية فقط، بل هم قيمون على موضوع أوسع وأهم بكثير هو استقرار المنطقة الشرق أوسطية كلها وما يمكن أن تشكله من ورشة هائلة للشركات متعددة الجنسية في المستقبل المنظور! وهم كما - هو وارد في بيانهم - سيعملون على تشكيل بنية جديدة للدولة السورية يلملمون مكوناتها من الحطام المتناثر على أنحاء الأرض السورية.
ثالثاً: إن هذه الدولة المبنية من قبل المجتمعين الدولي والإقليمي ستكون، رغم علمانيتها ووحدة أراضيها كما ينص البيان، خاضعة تماماً لمسلمات المجتمع الدولي وقوانينه وأعرافه وشروطه. ولعل في أول أولويات هذه المسلمات والقوانين والأعراف والشروط، الانخراط في مشروع تسوية ما يسمى بأزمة الشرق الأوسط. ومن المؤكد أن سورية الناهضة من بين الأنقاض بمساعدة المجتمعين الدولي والإقليمي ورعايتهما، والتي ستكون معتمدة على مساهماتهما في إعادة الإعمار والتوطين وغير ذلك، لن تكون قادرة على العودة إلى سياسة مستقلة عن هذا الدور الدولي والإقليمي ومتمردة عليه، بغض النظر عمن سيبقى أو ينسحب أو يظهر من جديد في مدارج المسؤولية فيها. مثلها في ذلك مثل العراق المدمر وليبيا الممزقة واليمن الرازح تحت نيران القصف الجوي والبحري والبري لما يسمى بـ«التحالف العربي»!
وهنا جدير جدا بالملاحظة أن هذه الدول العربية الأربع يجمعها قاسم مشترك واحد، على اختلاف أنظمتها السابقة للأحداث وسياساتها، هو عداؤها للكيان الصهيوني وعدم انخراطها في ما يعرف بالتسوية السياسية لأزمة المنطقة!
أما متى ستخرج أرانب التسوية من قبعات اللاعبين في فيينا أو جنيف فهو مسألة توقيت مناسب، لأنه سيكون مرتبطاً بنهاية الاحتفال، احتفال الدماء مع الأسف!
* كاتب سوري