أعاد متحف سرسق في بيروت فتح ابوابه، فاتّصلت بصديق وقصدنا المكان في صباح يوم أحد، علّنا نأخذ فكرة عنه قبل وصول وفود اللبنانيين الزائرين. في طريقنا مشياً من السيارة الى المتحف، أمكننا ان نشاهد عن كثب العمارة المُنفذة حديثاً من قبل شركة «مينا كابيتال»، مشيدةً في الوسط بين مبنى المتحف وقصرٍ سرسقي آخر، اصفر اللون، كان في السابق جاراً للمتحف.
عند مدخل باحة العمارة الشاهقة، ذات الخيارات الذوقية التي لا تفسّر بالعقل ولا بالذوق، كان مُلفتاً ان يجد المرء لوحة معدنية، لونها ذهبي، عليها اسم المبنى ومعه شعار «مينا كابيتال». فبدا الحال في شارع سرسق وكأن رأس المال العقاري الرثّ عليه ايضاً التقيّد «بأتيكيت النبالة»، ويعلن وجوده من خلال لوحة ذهبية، على قدر ما يبدو الامر غبياً. كان الامر مثل مشاهدة شعار «الماكدونالدز» في مدينة بعلبك، موضوع على رأس عمود كورانثي. ودخلنا مبنى المتحف وهذه الصورة تداعب ذهني.
شهد المتحف تغييرات نوعية. كان المبنى في الاصل عبارة عن واجهة عتيقة، هي ما تبقى من الفيلّا القديمة عندما كانت دار للسكن، ووراء الواجهة بناء اسمنتي حديث. فلم تَطَل بالتالي حلقة الاشغال الاخيرة سوى هذا الجزء من المتحف، مضيفةً اليه بشكلٍ اساسي قاعة معارض مركزية ذات سقف عالٍ، بحجم قاعة «مركز بيروت للمعارض» التي شيّدتها شركة «سوليدير»، اضافةً الى قاعة مؤتمرات مُتوسطة الحجم، وقاعة صغيرة للدرس، وبعض القاعات الاضافية الصغيرة القابلة للاستخدامات المتنوّعة. الاعمال الهندسية وتنفيذها ذات مستوى عالٍ وبراّق، بحسب ما علّق صديقي، المهندس المعماري، مراراً وتكراراً، عند كل زاوية توقفنا عندها، وكما امكنني ان ألاحظ بنفسي. لكن فيما كنا نتنقّل بين الاقسام المتنوّعة، كان صديقي يعلّق فقط على «الهندسة» ويتجاهل الاعمال الفنية المعروضة بشكل كامل.
يُمكن تعريب اقسام المتحف بحسب معروضاتها. تتجلّى في الطابق الثاني للمتحف سياسة الادارة السابقة، قبل مرحلة الاشغال واعادة التأهيل. يحتوي الطابق على «المجموعة الدائمة» من الاعمال من مقتنيات المتحف على مرّ السنين، وهي عبارة عن بعض من اسوء الاعمال عند فنانين جدّيين (باستثناء لوحة الوالد طبعاً) ممن يُعتبرون «المرحلة الحديثة» في الفن المحلّي، وكمّية من الاعمال من مدرستي الطرش والبوليش التعبيرية. هذه المجموعة تعبّر خير تعبيرٍ عن فلسفة كانت وما زالت مهيمنة على السوق الفنية، وقد اصبحت طاغية منذ مرحلة التسعينيات مع تدمير الحرب الاهلية لديناميكيات وخصوصيات الساحة الثقافية التي كان من الممكن ان تقدّم نزعات اخرى. قوام هذه الفلسفة ان كل عملٍ يجد لنفسه مرقد عنزة في احدى شبكات العلاقات بين النافذين، اي بين العائلات الثريّة، سيجد لنفسه زاوية في المتحف. واتذكّر الآن والدي، وهو رسام من القرن الماضي، لمّا سئل في مقابلة صحافية عن رأيه في اقامة متحف وطني للفن الحديث، فأعرب عن رفضه الفكرة بسبب توقّعه ان يُرتَّب المكان باحترام لتوازنات «العائلات الروحية» المحلّية، ما سينتج عنه خلط لاعمالٍ من نوعيات فنّية مختلفة. فلسفة «اللياقات» هذه ما زالت هنا، في الطابق الثاني، امام اعين الزوار، شاهدةً على مرحلة اساسية من تاريخ الفن المحلّي.
ننزل الى الطابق الاول، حيث نجد بورتريهات زيتية خالية من أي لُغز، وتكاد تنحصر معانيها بأن اصحابها كانوا اثرياء وكان بمستطاعهم الجلوس جامدين لساعات أمام رسّام بورتريهات. اتذكّر قصة يحكيها الباحث الروسي اغاتانغيل كريمسكي، وهو الذي عاش في ديارنا في السنين الاخيرة للقرن التاسع عشر (انظر رسائله المنشورة في كتاب «بيروت وجبل لبنان على مشارف القرن العشرين»، قدّمته الباحثة السوفياتية ايرينا سميليانسكايا والباحث مسعود ضاهر، صادرة عن دار المدى، 1985). يسرد كريمسكي انه في احد الايام دُعي الى حفلة عشاء عند عائلة محلّية من الاثرياء. اثناء الحفلة، كان المضيف وضيوفه يقلّدون حلقات الموسيقى والغناء التي نقابلها في البيوت البرجوازية الاوروبية في حينه، فيُغنّون جماعياً في حضرة ضيوفهم ممن اختار المشاهدة والاستماع. وكانوا يستعينون بموسيقي مصري، يتجمّعون حوله للغناء، ولو انهم «يستخفون به» على ما لاحظ كريمسكي. كان الصوت الناتج من التجربة يصيب الشاب الروسي بالذعر. لكن ماذا عن الموضوعات التي كان يتحدث بها هذا المُجتمع الذي تصوره البورتريهات؟ وجد كريمسكي ان لا احد منهم قرأ كتاباً، باستثناء الشباب ممن كانوا يتعلّمون عند الآباء اليسوعيين. وماذا كانت عناوين احاديثهم؟ «التجارة والدين، ويندد الارثوذوكس بالموارنة ويشنّعون بالدعاية اليسوعية وينتظرون الخير العميم من روسيا والجميع مهتم بالسياسة العالمية». لا داعي للارتباك عزيزي القارئ، فكتاب كريمسكي يحتوي على تعليقاتٍ لاذعة عن كل «العائلات الروحية» المحلّية. فلم يحب الرجل بيروت وأهلها مثلاً، وكان يفضّل التعامل مع اهالي القرى المجاورة، وآراؤه لم تكن خالية من التوتّر الطبقي الشخصي. يشير مسعود ضاهر عن حق الى ان ملاحظات كريمسكي كانت سطحية، بالنسبة لمنهج التاريخ الاجتماعي والعلوم الاجتماعية. لا شك انه كان هناك المزيد، في اذهان وتطلّعات ومشاعر ناس هذه المرحلة، «لكن ليس في الفنون»، قلت لنفسي فيما كنت اسرع خطاي تاركاً هذا القسم من المتحف. لكن هناك للمهتمين، بعض الاعمال المختلفة التي لن أعلّق عليها.
نَصل الى «المعرض المؤقت»، المُقام في القاعة الجديدة في الطابق الثاني تحت الارض، وهو مع اطاره ما يمكن اعتباره جوهرة المتحف الجديد. طبعاً، الخصائص الهندسية هنا أيضاً «لذيذة» جداً. ونظام اضاءة هذه القاعة، المُستند الى طاقات بُنيت في سقفها وبدت انها تطلّ على حديقة، اذ رأينا اطفالاً يلعبون فوق رؤوسنا، هذا النظام جعل جو القاعة البصري يتناغم مع جو الخارج. وكان الطقس في اليوم الذي زرنا فيه المتحف ناعماً والسماء صافية والهواء نظيف، وقد مرّت اول موجة من الامطار مطلقةً العام الدراسي والاكاديمي وموسم العودة الى المدينة ونشاطاتها. هذه الصفات للقاعة، الغائبة مثلاً عند منافستها في «سوليدير»، تجعل المكان يحمل صفات «انتماء» الى المدينة بالفعل، وبذور صفات «هويَّاتية». وتجوز المحاججة بالمناسبة، ان «الهوية» الابرز التي بمستطاع المهندسين المحلّيين ان يتبنوها بعيداً عن التكلّف والتصنّع او التقليد المعهود هي تلك المُستندة الى التجارب بالضوء «الطبيعي».
ان المستوى العالي للمعرض المرحلي، المُعنون «نظرات الى بيروت»، لا لبس فيه، ويعبّر خير تعبير عن مناح ادارية جديدة للمتحف، تبغي أخذه الى مستوى آخر من العمل. لكن يمكن القول إنّ تجربة المتحف بكاملها، بسياسته الجديدة، اي كمكان فخم ومفتوح مجاناً لاوسع جمهور ممكن، تبدو هشّة وفيها شيء من الحلم في الوضع اللبناني الراهن. هل ستبقى التجربة مجّانية ومفتوحةً للجميع؟ وفلسفة بلدية بيروت بالنسبة للمساحات العامة، وهي الجهة الممولة للمتحف، باتت معروفة ورسمية. وحالة التصادم الطبقي في لبنان تكاد تشكّل حاجزاً «طبيعياً» في جميع الاحوال لتحقيق سياسة الانفتاح هذه. فهناك حيّ بكامله من المدينة، بمساحاته المُغلقة كما المفتوحة، تعلّم منه مواطنوه ان وجود المساحات العامة وحده لا يعني فعلاً الترحيب بهم في ما يتخطّى أخذ الصور التذكارية للمتزوّجين. وليست على هذا الاساس مقابلة الوزير السابق للثقافة ذات السياسات القمعية المشهودة والقيّم الآن على المتحف، في صحيفة «غارديان» البريطانية، وهو يتحدّث من مكتبه الواقع داخل حرم الجامعة الاميركية في بيروت كما يقدّمه المقال، ليست هذه سوى كاريكاتور «للاقتصاد الثقافي اللبناني»، الذي بنت أُسسه القوى المُستعمرة في السنين التي زارنا فيها كريمسكي، والتقطت مفاصله شلل المقلّدين من الطبقات العليا المحلّية، والذي يمكننا الآن وبعد مرور قرن من الزمن، ملاحظة فشله على جميع الصعد: أكان في مجال بنائه لهوية محلّية جامعة، او حتى لهويات جزئية عمادها ليس التكبّر الطبقي الفارغ وحده، أو حتى في تكوين مشروع ثقافي، مهما كان مربحاً مالياً او قابلاً للاستمرار بنفسه (ولبنان فاشل حتى في «ثقافة» التلفزيون، ولا تصمد محطّاته من دون دعم رأس المال الخليجي). وكان طريفاً أن يقرأ المرء في صحيفة «لوريان لوجور»، لمناسبة افتتاح المتحف، لنموذج من المتملّقين عند الطبقات العليا المهيمنة «ثقافياً» في عهدٍ سابق، وهو يتذمّر من «الغاء لغة أمين معلوف» من منشورات المتحف الجديد واستبدالها باللغة الانكليزية. وقد عزا المقال ذلك التغيير مع الوضع السابق للمتحف، بحق، الى «ذريعة الهيمنة الانكليزية». فهل تكون هذه حدود التغييرات في سياسة المتحف الجديد؟ باستبدال أهواء والعاب طبقة عليا «فرانكوفونية» بأهواء والعاب طبقة عليا «مُتأمركة»؟ ان المهمة الموكلة لأي مشروع ثقافي محلّي، يريد لنفسه النجاح والانتشار، تقتضي منه اعادة صياغة علاقته بالجمهور الاوسع، وذلك بدءاً من تجنّب الدوران حول النفس من خلال عروضٍ فنية تجريبية تعالج «اعادة صياغة العلاقة بالجمهور المشاهد»، ما كلّ الفنانين من تكرارها منذ «نافورة» مارسيل دوشان. على القيمين ان يبتكروا سبلاً جديدة لتسويق المتحف ولجذب فئات اجتماعية جديدة ومتنوعة الى داخل حرمه وبشكلٍ مستمر، وهو ما سيخدش حياء بضع مئات من هوات المسابح المُغلقة إذا ما تحقق، وهذا جلّ ثمنه. والمشكلة بالعادة، ان القيّمين على المشاريع الثقافية هم من الطبقة الرديئة نفسها هذه. بهذا المعنى، ليس «المعرض المؤقت» المُقام في القاعة المركزية الجديدة سوى بداية شيء، يدعو للترقّب والتنبّه.
استدعت الادارة مجموعة من الباحثين والخبراء قاموا بجهدٍ متفّوق بالمعايير المحلّية بالبحث والاختيار وتعريب مجموعة من الاعمال التي تصوّر المنطقة التي تقع فيها بيروت خلال 160 عاماً، بين سنتي 1800 و1960. أعطي لموضوع المعرض اسماً متواضعاً، «نظرات على بيروت». لم يُعتبر الموضوع «فناً»، بل فقط «نظرات»، ربما لأن البحث دلّ الى انه - بالرغم من ثقله الرمزي اليوم - لم يكن ملهماً لإنجازات فنّية عالية خلال الاعوام. ويعود ذلك من ناحية الى ان بيروت، في المرحلة المُعالجة، لم تكن بعد «مدينية» المستوى (وليس الطابع)، اذا ما قورنت بالمجمعات السكنية الامبراطورية حيث ابتُكرت الثقافة بنماذجها المعتمدة اليوم. كان المكان يشبه نوعاً من «الارض الفارغة» التي شَيّد عليها المستعمرون والطبقة الحاكمة العثمانية الفاسدة ما نرى نتائجه اليوم. من هذه «الارض الفارغة» المعروضة في المتحف، قد يستلهم رسام معاصر مشاهد رومانطيقية مثلاً، مشهد لمدينة اليوم مدمرةً بالكامل، وقد اصبحت آثار، يكون حجّة للفنان لرسم الطبيعة المُحيطة في الجوار كما فعل الفنانين المُستشرقين في القرن التاسع عشر. ويكون بالتالي للعمل مستويَين فنّيَين، شكلاً ومفهوماً.
اما انطلاقة المدينة كمركزٍ لمشورعٍ سياسي خاص، فسيشاهدها الزائر في لوحة بورتريه مضحكة للجنرال الفرنسي غورو، وقد صورّه فنانٌ في الجزء الاعلى للوحته ووضع تحته مبانٍ أيقونية «وطنية» مثل ساعة السراي وقلعة بعلبك (على طريقة «عمّر، علّم، حرّر»). عندما وصلنا صديقي وانا الى هذه اللوحة، قلنا لانفسنا: آه، هنا العلامة الفارقة، هنا بدأت اللمسة الفنية اللبنانية وانطلق الابداع اللبناني. طبعاً، كنا نمزح، ولم نبالِ بأخذ اللوحة ضمن اطار انتاجها الاجتماعي، وقد تكون (او لا) من صنع هاوٍ من تلك المرحلة وليست لفنانٍ مرموق، ونظرنا اليها بالمقارنة مع اعمال المستشرقين الاجانب التي غلبت على جدران المعرض قبل الوصول اليها. لكن وبالمحصلة، تساءلنا سويةً: ألسنا نعيش في حالة العقم نفسها منذ تلك الايام؟ هناك شيء يدعو للتفكّر في هذا المعرض، منظومة ما للرصد او التفكيك، عن الفنون.