أنهكت العقود الماضية الأحزاب الشيوعية والماركسية وهمّشتها، بسبب العنف السلطوي ربما في بعض البلدان، لكن أساساً بسبب التحوّلات التي حدثت في الواقع وأعادت صياغة التكوين الطبقي، وبالأساس نتيجة سياسات خاطئة انطلقت من «تكتيك سوفياتي» أكثر مما انطلقت من الماركسية ومن تحليل الواقع الملموس عبرها، وهو الأمر الذي جعلها تتبع تكتيكات لا تطور الصراع الطبقي، وتتناقض في كثير من الأحيان مع الواقع ومصالح الطبقات الشعبية، أو تضعها في سياق إصلاحي لا أفق له. وبالتالي كانت عاجزة عن التعبير عن مصالح العمال والفلاحين الفقراء، وكل المفقرين، في سعيهم إلى تحقيق التغيير.ولهذا كانت انطلاقة الانتفاضات في البلدان العربية عفوية، وتحمل في جوفها الحلم الديموقراطي الذي يراود شباب الفئات الوسطى أكثر مما حملت مطالب العمال والفلاحين الفقراء، وكل المفقرين، لأنّ هذه النخب الشبابية هي التي أدّت الدور الأساس فيها. وذلك رغم أنّها لم تكن منظمة سوى في أشكال بسيطة (عبر فايسبوك)، ومن أجل ثورة وفق آليات ليست منضبطة.
لكن النتائج التي حصلت لم تحقق حتى هذا الحلم الشبابي. فقد أفضت عفويتها إلى إسراع الطبقة المسيطرة لمحاولة امتصاص الأزمة من خلال «إسقاط الرئيس» وتحقيق انفراج ديموقراطي يسهم في إدماج فئات من الرأسمالية التي جرى استبعادها بفعل الطابع الاحتكاري لنشاط الرأسمالية المافياوية الحاكمة، كما يسهم في توسيع القاعدة السياسية لسلطتها، عبر إشراك الإخوان المسلمين في سلطة «ديموقراطية منتخبة». وبالتالي إعادة بناء السلطة في شكل جديد دون المساس بالنمط الاقتصادي الذي أسسته.
هذه المسألة أفضت إلى انتخابات وتشكيل مجالس برلمانية تسيطر عليها الأحزاب الأصولية، وبعض الليبراليين. وهو الأمر الذي فرض التشكيك في الانتفاضات ذاتها، وقاد إلى سلبية كبيرة في التعاطي معها. وأصبح التصور الرائج يقوم على أنّ الانتفاضات حدثت، وهذه هي نتائجها، المتمثلة في سيطرة الإسلاميين على السلطة. إذن، لم تحدث ثورات، أو أنّ الثورات قد فشلت. ونما الميل المضاد للثورة، الذي ينطلق من هذه النتيجة لكونها نهاية المطاف، وليست لحظة في صيرورة.
وجهة النظر تلك تنطلق من شكلانية مفرطة، ومن سكونية لافتة. لقد قامت الثورة (وهذا سبب) لكي ينتصر الإسلاميون (وهذه نتيجة). لماذا قامت الثورة؟ لن نجد جواباً متماسكاً في هذا المجال. لقد كان توقّع الثورة مستحيلاً لدى هذا الرهط من «اليسار»، وبالتالي حين حدثت أصبح يرى أن الأمور قادت إلى ثورة، دون أن يتلمس مشكلاتها، ومشكلة غيابه عنها، وموازين القوى الطبقية فيها، وعفويتها، وطابع الأحزاب السياسية القائمة، ومناورات السلطة. لهذا فوجئ بانتصار الإسلاميين في أول انتخابات ديموقراطية كانت تمثّل حلماً بالنسبة إليه. لماذا انتصر الإسلاميون؟ وأصلاً لماذا غاب «اليسار»؟ أسئلة لا إجابات عنها، أو حين يكون هناك ميل للإجابة تكون شكلية، وبعيدة عن الواقع.
ما يمكن قوله هنا هو أنّ تطور الاحتقان الاجتماعي نتيجة التحوّلات الاقتصادية خلال العقود الماضية، كان يقود حتماً إلى ثورة. في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب تندفع خلف خطاب ليبرالي رث، أو حول ديموقراطية موهومة. لهذا فوجئت بالثورات، وحاولت اللحاق بها، لكن من منظورها الديموقراطي أو الليبرالي، فلم تجد من يساندها من الشعب المنتفض الذي كان يحلم بعمل أو أجر أفضل أو تعليم ممكن أو وضع صحي في متناول يده. لذلك ظلت هذه الأحزاب هامشية دون فعل، أو قبول (إلا في ما ندر). بالتالي استطاعت السلطة أن تعيد إنتاج ذاتها في شكل جديد استوعب بعضاً من «المعارضة».
هذه ليست نهاية الثورات، بل ربما هي البداية. ليست الانتخابات نهاية مسار، وليست بداية «مسار ديموقراطي» رغم أنها تُصوّر كذلك. فليست الثورات في جوهرها نتيجة الحاجة إلى الديموقراطية فقط، بل هي نتيجة الحاجة إلى العمل والعيش الكريم والمقدرة على التعليم، والطبابة. الذي يعني كلّ ذلك أنّها تطاول كلية النمط الاقتصادي الذي تقوم عليه هذه النظم، ومن ثم يطاول الطبقة الرأسمالية المافياوية المسيطرة. وبالتالي نقل الاقتصاد من كونه اقتصاداً ريعياً (خدمياً مالياً عقارياً تجارياً بنكياً) إلى اقتصاد منتج (صناعي، زراعي بالأساس). وهذه الانتقالة ضرورية من أجل تأسيس دولة مدنية ديموقراطية، إذ ليس من الممكن تأسيس ديموقراطية حقيقية على اقتصاد ريعي مافياوي.
كل ذلك يشير إلى أننا في بداية عقد من الثورات، ولسنا في ثورات انتهت. وأنّ النتيجة الأولى هي نتاج الوضع السابق، حين انهار اليسار، وصعد الإسلام السياسي، كما أنّها، بالتالي، نتاج عدم تنظّم العمال والفلاحين الفقراء وكل المفقرين، وغياب الوعي السياسي لديهم. ومن ثم عدم تبلور الصراع الطبقي في رؤى وبرامج بديلة للنمط الاقتصادي الطبقي السياسي القائم. وهو الأمر الذي أدخل الثورات في اختلاط وتشوش، وجعله دون رؤية وهدف تغييري واضح، بعدما كان تحقيق مطلب إسقاط النظام مرتبط بخطوة من النظام ذاته (إرحل). ودون ميل «هجومي» من أجل الاستيلاء على السلطة. لكن هذه النتيجة التي أفضت إليها الثورات تخفي ما هو أعمق من هذا النظر الشكلي، فما ظهر واضحاً هو ما هو ممكن الآن، لكنّه ليس المطلوب واقعياً. وإذا فهمنا أنّ الأساس الطبقي هو الذي فرض انفجار الشعب فإن ما تحقق الآن لا يلبي ما هو مطلوب. أي لا يحقق مطالب الشعب من خلال تغيير النمط الاقتصادي الذي شكّلته الرأسمالية المافياوية خلال العقود الماضية، والتأسيس لنمط اقتصادي منتج يحل مشكلات البطالة وتدني الأجور وانهيار التعليم والصحة، وفي دولة ديموقراطية تعبّر عن مصالح الطبقات الشعبية. ولهذا فإنّ الثورة سوف تبقى على بساط الفعل، وسوف يبقى الوضع الثوري مسيطراً، ما دام الوضع الذي انتجها لا يزال قائماً.
لذلك نلاحظ التناقض الذي يقوم بين مطالب الشعب وما يمكن أن تحققه الأحزاب التي تتصدر المشهد السياسي. وهو تناقض بين إعادة إنتاج النظام القديم في شكل جديد وتجاوز كلية النظام القديم/ الجديد. فالشعب لم يحقق مطالبه، ولا يزال في الفقر والبطالة والعجز عن العلاج والتعليم. ويتّضح أنّ الأحزاب التي وصلت إلى السلطة في تونس ومصر والمغرب لا تحمل حلاً لهذه المشكلات. على العكس إنها تؤكد عدم اختلافها مع النمط الاقتصادي الذي ساد طيلة العقود الماضية. فهي ليبرالية في سياساتها، وتعبّر عن مصالح فئات من الرأسمالية جرى تهميشها في العقود السابقة (الإسلاميون يندرجون هنا).
هذا التناقض يفضي بالتأكيد إلى انفلات الصراع الطبقي، إذ الشعب غير قادر على العيش في الوضع الذي هو فيه، والسلطة ستكون ضعيفة وعاجزة عن الحكم، وكل محاولات إعادة بناء السلطة «ديموقراطياً» سوف تظهر هشاشة السلطة. وهو صراع من أجل موضعة الطبقات انطلاقاً من تغيير النمط الاقتصادي، وبالتالي يفرض إعادة تشكيل الواقع الاقتصادي بما يؤدي إلى حل مشكلات الشعب (البطالة والأجر المتدني والتعليم والصحة)، وهو الأمر الذي يقتضي بلورة بديل يطرح مسألة إعادة بناء الصناعة وتطوير الزراعة، وإعادة تأسيس التعليم والصحة والبنى التحتية. هذا هو البديل الذي يفرض أن تؤدي الدولة دوراً محورياً فيه، ليس بفعل ميل أيديولوجي بل نتيجة أن كل فئات الرأسمالية القائمة لا تميل إلى النشاط في هذه القطاعات، بل نجدها تتمركز في القطاع الريعي. وفي الوقت ذاته تكون دولة علمانية ديموقراطية، تفتح الأفق للنشاط السياسي والنضال النقابي والمطلبي، والتفتح الثقافي.
بالتالي فإنّ المرحلة القادمة هي مرحلة صراع مستمر من أجل تغيير جذري لا يتوقف عند الشكل السياسي للسلطة (التعددية والانتخابات وحرية الصحافة)، بل يطاول النظام الاقتصادي بمجمله.
من هذا الأساس يجب أن نلمس أنّ من يجب أن يحمل مشروع التغيير هم العمال والفلاحون الفقراء الذين يتأسس برنامجهم على دور الدولة في تحقيق التطور الصناعي والزراعي والمجتمعي عموماً. وعلى حلّ مجمل المشكلات التي أسست للفقر والتمايز الطبقي الهائل، والى التهميش وكل الظروف التي يعيشها الشعب. بالتالي الماركسية هي ضرورة حاسمة من أجل تبلور هؤلاء في حزب يكون قادراً على تحقيق التغيير واستلام السلطة. والسؤال هو: كيف يتبلور هذا الحزب؟
لكن ما هو واضح تماماً هو أنّ الصراع قد انفتح ولن يتوقف قبل تحقيق التغيير الجذري، وهنا يجب أن يكون واضحاً أنّ الوضع قد تغيّر كلياً عما كان خلال العقود الخمسة الماضية، وأنّنا في حالة صراع يومي، ولا بد من تلمس المسائل الأساسية التالية:
1) تحرر الشعب من الخوف ومن السلبية، ولقد تقدم لكي يدافع عن وجوده وعن حقوقه. بالتالي تجاوزنا مرحلة السكون الطويلة التي نشأت بعد تحقيق تغيير النمط الاقتصادي على ضوء الانقلابات التي حدثت خلال خمسينيات القرن العشرين. ولهذا أصبحنا في وضع «متحرّك»، حيث الصراع يومي، وحيث الطبقات المفقرة تناضل من أجل وضع يحقق مطالبها. إننا في مرحلة تتسم بتفاقم الصراع الطبقي، واستمراريته.
2) وفي هذا الوضع اندفع الشباب إلى الفعل السياسي بعد استنكاف طويل سبّب أزمة عميقة في الحراك السياسي، وأفضى إلى «شيخوخة» الأحزاب. وهو الأمر الذي أوجد قطيعة مع هؤلاء الشباب، وفرض التفكير في وضعية جديدة لا يمكن للأحزاب القائمة أن تؤدي دوراً فيها، بل إنّها ستقود إلى أن يصيغ الشباب الماركسي البديل الممكن.
الآن، سوف يعاد تأسيس الفعل السياسي بوعي جديد وبنى جديدة. فالتجربة التي يخوضها هؤلاء في الصراع ضد النظم سوف تراكم الوعي كذلك إضافة إلى الخبرة، ولسوف توصل إلى تشكل كادر بمستطاعه قيادة الصراع وتطويره عبر تنظيمه وتوضيح هدفه المحوري. هذان العنصران كفيلان بتغيير كلية الوضع في المرحلة القادمة، وخصوصاً أنّ الأزمات الاقتصادية لا حل لها على ضوء التحوّل الأولي الذي حدث ويحدث، نتيجة «انتصار» أحزاب ليبرالية لم ترَ سوى كيف تصل إلى السلطة، أو كيف تؤسس لنظام ديموقراطي دون لمس القاعدة الاقتصادية التي كانت في أساس تشكل النظام الذي ثار الشعب من أجل إسقاطه. وهذا أساس أول.
إننا في وضع يتسم بوجود صراع طبقي حقيقي، وإنْ لم يتبلور ذلك في رؤى وأهداف واضحة، وخضع لسطوة الميل الديموقراطي. لكن بات يتّضح ذلك بعد «الانتصار الأول»، إذ ظلت مطالب الشعب هي ذاتها. ويجري هذا الصراع في وضع السلطة فيه ضعيفة ومرتبكة، وربما مشلولة لعجزها عن إعادة «الاستقرار»، ووقف احتجاجات الطبقات الشعبية. وهذا أساس ثانٍ. وهو الوضع الذي يسمح للمفقرين ببلورة بديلهم. ويفرض تأسيس ماركسية جديدة تستطيع وعي الواقع، وبلورة البديل، وصوغ استراتيجية التغيير الثوري.
إذن، يجب أن يعي كل ماركسي بأننا الآن في لحظة عابرة، ليست النتائج المتحققة فيها هي النتائج الأخيرة، وأنّ الوضع تقدّم دون أن يكون ممكناً العودة إلى الوراء، وأن صراع العمال والفلاحين الفقراء من أجل التغيير الجذري قد بدأ.
وانطلاقاً من كل ذلك لا بد من وضع استراتيجية جديدة، تنطلق من بلورة الرؤية والبرنامج من جهة، ومن جهة أخرى تنظيم العمال والفلاحين الفقراء في حزب، في خضم الصراع الطبقي القائم، والعمل من أجل تطوير الانتفاضات لكي يستطيع هؤلاء استلام السلطة.
* كاتب عربي