إذا كانت محصلة ما يسمى «الربيع العربي» هي إمساك الإخوان المسلمين في مصر وحركة النهضة في تونس بمقاليد الحكم، واستقواء الجهاديين الطائفيين في ثوب «الثائرين من أجل الديموقراطية» في ليبيا وسوريا (فضلاً عن الهزيمة المؤقتة لانتفاضتي الشعبين اليمني والبحريني)، فإنّ قبول حماس أخيراً في صفوف القوى التي لا تهدد المصالح الأميركية في المنطقة فحسب، بل التي تسعى أيضاً للعمل الدؤوب على تحقيقها لهو تحوّل جدير بالملاحظة.وقطر هي المحرك الرئيس في معركة توسيع رقعة ورفع مستوى الشرعية الدولية غير الرسمية التي تتمتع بها حماس في أعين شعوب المنطقة وحلفائها في العالم الثالث إلى المستوى الرسمي عند الحكومات العربية والغربية على حد سواء. وبينما كانت حماس، وبدعم قطري، أول حزب إسلامي في العالم العربي يحقق فوزاً انتخابياً صلباً في ٢٠٠٦، لم يشفع ذلك لها بمنحها الشرعية التي تستحقها في نظر الولايات المتحدة، وهي أكبر وأشرس قوة مناهضة للديموقراطية في المنطقة والعالم. بدلاً من ذلك، فقد حث انتخاب حماس الولايات المتحدة، وإسرائيل، والسلطة الفلسطينية المتعاونة على القيام بانقلاب ضدها لحرمانها هذا النصر. وبما أنّ الاستراتيجية الانتخابية فشلت في حلول حماس مكان فتح على رأس السلطة الفلسطينية، أدركت قطر والقيادة العليا لحماس أنّ «الربيع العربي» يطرح فرصاً جديدة ومهمة في هذا الصدد. وبناءً على ذلك، فقد جرى سحب حماس من سوريا ببطء، لكن بثبات، ويجري سحبها الآن بالكامل من تحالف إيران ــ سوريا ــ حزب الله، الذي يهدد استراتيجية الولايات المتحدة واسرائيل والسعودية في المنطقة، وذلك ليس فقط عن طريق نقل قيادة حماس من دمشق إلى قطر فحسب، بل أيضاً من خلال جهد كبير يبذل لإعادة الاعتبار إلى حماس في الأردن، التي كان الملك عبد الله قد نفى أعضاءً من قيادتها في ١٩٩٩، بناءً على أوامر الولايات المتحدة وإسرائيل.
وبما أنّ ذلك سيؤدي بحماس إلى تقديم تنازلات وتطمينات للمصالح الأميركية بمعدل متسارع، سيراً على خطى فتح من قبلها، فقد أصبحت السلطة الفلسطينية أكثر قلقاً على وضعها وعدم جدواها المتزايد لكل من إسرائيل والولايات المتحدة. يخشى الطغاة العرب التي تدعمهم وتحميهم الولايات المتحدة نوعاً واحداً فقط من المعارضة الداخلية لحكمهم، ألا وهي الجماعات المعارضة التي تعرض خدماتها لمصالح الولايات المتحدة الإمبريالية بإخلاص يضاهي إخلاصهم. لقد كان هنالك دائماً ما يبرر هذا الخوف، ولا سيما في حالة مصر، حيث كانت الولايات المتحدة لأكثر من عقد ونصف عقد تغازل جماعة الإخوان المسلمين وقيادتها النيوليبرالية من رجال الأعمال التي كانت قد أكدت لواشنطن امتثالها وتعاونها الكاملين مع سياسات الولايات المتحدة بأفضل مما كان عليه الحال تحت حكم المخلوع مبارك (وفي الواقع وبخلاف يمين الإخوان النيوليبرالي بقيادة المليونير خيرت الشاطر، فقد أُطيح التيار الإخواني الوسطي بقيادة عبد المنعم أبو الفتوح بسرعة عندما فصله اليمين الإخواني عن الجماعة، (وأُخرج أخيراً من اللعبة السياسية بالمرة عقب خسارته الانتخابات). أود أن أشير هنا إلى أنّ انفتاح الولايات المتحدة على من تسميهم «المعتدلين» الإسلاميين يحظى بدعم عدد لا بأس به من الاستراتيجيين الصهاينة والإسرائيليين الذين لا ينفكون يتحاورون عن جدوى وفوائد تحالفات كهذه للمستعمرة الاستيطانية اليهودية على المدى الطويل.
مثلها مثل جميع الديكتاتوريات العربية الأخرى، تفضل السلطة الفلسطينية، التي تسيطر عليها حركة فتح، أن تقوم منظمة حماس بتهديد مصالح الولايات المتحدة، وما تخشاه وترتعد منه هو أن تصبح حماس على استعداد لخدمة هذه المصالح كما تخدمها السلطة الفلسطينية، أو حتى على نحو أفضل. إنّ المرونة الحديثة العهد التي تبديها حماس بشأن هذه المسألة، وبتشجيع من قطر، قد دقت أجراس الإنذار في أروقة السلطة الفلسطينية، كما أنّ ما كشفته قناة الجزيرة أخيراً عن تسميم وقتل ياسر عرفات لم يكن عرضياً للجهود الرامية إلى دق المسمار الأخير في نعش السلطة الفلسطينية. أما محاولة السلطة الفلسطينية العقيمة، بتأييد سعودي هش، الحصول على عضوية الأمم المتحدة، فهي محاولة يائسة لإنقاذ نفسها من مصير ربما بات محتوماً.
ومن هنا ولج مستنقع السياسة الأردنية الانتخابية في سياقنا هذا، وأنا أستخدم مصطلح «انتخابية» بمرونة فضفاضة لوصف ما يجري في الأردن. يشهد الأردن حركة واسعة النطاق للتغيير منذ عام ونصف عام، قادتها من أصول شرق ــ أردنية، فضلاً عن أعداد كبيرة من الطبقة السياسية («من جميع المنابت والأصول») التي خدمت النظام لعقود، والتي هبطت أسهمها أو على الأقل تم إبعادها عن مركز وعملية صنع القرار في الأعوام الأخيرة. أما أغلبية الأردنيين من أصول فلسطينية، فلم يشاركوا في هذا الحراك، إذ يشعر معظمهم بالرعب، ليس فقط من جانب التمييز الحكومي الجاري والممأسس ضدهم، الذي يشمل تجريدهم من جنسيتهم على نحو مخالف للدستور الأردني، ولكن أيضاً من قبل الشوفينية السامة عند شريحة كبيرة من الوطنيين الشرق أردنيين، إذ يدعو بعضهم إلى تجريد الأردنيين من أصول فلسطينية من جنسيتهم الأردنية وطردهم من البلاد. ينتشر العداء للأردنيين ــ الفلسطينيين في الأوساط الشوفينية من الشرق أردنيين (من اليمين واليسار على حد سواء) على نطاق واسع، حتى إنّ العديد من العناصر الثورية والمؤيدة للاصلاح التي تقود الحراك الشعبي والمؤيدة للديموقراطية في البلاد يرون نضالهم المشروع من أجل الديموقراطية وضد ديكتاتورية النظام وشوفينيتهم المعادية للفلسطينيين على أنها المعركة نفسها، بمعنى أن تحقيق الديموقراطية سوف يضع السلطة السياسية في أيدي الشرق أردنيين، وهو مكانها الطبيعي، ويُخرجها من أيدي النظام الملكي، الذي يزعم الشوفينيون أنّه حليف المصالح الأردنية ــ الفلسطينية، على النقيض من رتل الأدلة الموجودة والحقائق التاريخية التي تنفي ذلك. وهذا الوضع ليس منبت الصلة بحقيقة أنّ الملك عبد الله متزوج بفلسطينية كويتية المولد، وأنّ ابنه، ولي العهد، حسين نصف ــ فلسطيني. وهذا وضع أزعج الشوفينيين دائماً، على الرغم من أنّهم لم يُبدوا أي انزعاج من حقيقة أنّ الملك نفسه نصف ــ بريطاني وولي عهده السابق، شقيقه حمزة، نصف ــ أميركي، وذلك ربما لأنّه، خلافاً للفلسطينيين كما يُطرح من قبل الشوفينيين، لا يوجد عند البريطانيين ولا عند الأميركيين مخططات إمبريالية تستهدف الأردن على الإطلاق!
وبما أنّ حكومة رئيس الوزراء فايز الطراونة المحافظ جداً تصر، استجابة لتعليمات من القصر ومن سفير الولايات المتحدة المتذبذب، والاستخبارات الأردنية المتسلطة في طول البلاد وعرضها، على رفضها لتغيير قانون الانتخاب غير الديموقراطي، الذي يهمش غالبية الأردنيين (ولا سيما الأردنيين ــ الفلسطينيين منهم)، وعلى إجراء الانتخابات قبل نهاية العام على الرغم من إعلان جميع القوى السياسية الكبيرة في البلاد أنّها ستقاطعها، يتضح أنّ برنامج «الإصلاح» في المملكة لا يزال معلقاً حتى إشعار آخر. وقد هدد الطراونة، في الواقع، الذي يبدو أنّه لم ينل قسطاً كافياً من التعليم في موضوع الديموقراطية الانتخابية، بتجريم دعوات مقاطعة الانتخابات، ملمحاً الى أن من يرفض تسجيل صوته من بين الناخبين، يمكن أن يعرّض نفسه للمقاضاة.
في هذه الأثناء، يدعو أعضاء النخبة السياسية، الذين قضوا عمرهم في خدمة النظام، والذين لا يزالون يكنون شديد الولاء له، أمثال مروان المعشر (أول سفير أردني لإسرائيل وسفير الأردن السابق للولايات المتحدة ووزير سابق)، وهو واحد من العديد من أعضاء النخبة السياسية المنخرطة في عملية الإصلاح، يدعو إلى تعديل القانون الانتخابي الحالي (وهو ما تدعو إليه بشدة أيضاً جماعة الإخوان المسلمين، ومعها قوى المعارضة الأخرى)، باعتباره الوسيلة المثلى لنزع فتيل التعبئة الشعبية ضد النظام، وإنهاء الجوانب السافرة والوقحة للتمييز الممأسس حكومياً ضد الأردنيين ــ الفلسطينيين. ويعتقد الإصلاحيون من النخبة، بأنّ مثل هذه التدابير ستقوي النظام والحكومة عبر استخدامهما لهذه القشرة الديموقراطية، التي ستُقوَّض في آخر المطاف من خلال استراتيجية النظام التقليدية باحتواء معظم النواب المنتخَبين. وبخلاف الإخوان المسلمين والحراك الشعبي الذين يطالبون بتعديلات دستورية للحد من سلطة الملك، فإنّ النخبة السياسية الموالية للنظام لا تطالب بأكثر من تعديل قانون الانتخاب، لكن يبدو أنّ هذه النخبة غافلة عن حقيقة أنّه حتى لو أقدم الأردن على سنّ قوانين انتخابية أكثر ديموقراطية وتمثيلاً للشعب، وحتى لو نظم انتخابات حرة ونزيهة (مقارنة بالانتخابات البرلمانية السابقة التي يعترف رؤساء الوزراء الأردنييين اليوم بأنّها كانت مزورة)، وقام على إنهاء التمييز الممأسس ضد الأردنيين ــ الفلسطينيين، فإن أياً من هذه التعديلات المهمة لن يضمن إحلال الديموقراطية في البلاد، ويرجع ذلك أساساً إلى واقع استمرار القيود الدستورية على السلطة البرلمانية في البلاد، التي بموجبها يستطيع الملك، الذي يتمتع بسلطة مطلقة يضمنها له الدستور الحالي، أن يحل مجلس الشعب المنتخب متى يشاء ودون قيود.
وبما أنّ عدداً ضئيلاً من الناخبين الأردنيين قد سجلوا للتصويت حتى الآن، فهذا يثبت عدم فعالية استراتيجية رئيس الوزراء الطراونة. ونتيجة لذلك، سعت الحكومة إلى استقدام منظمتي حماس وفتح للتنافس على إرضاء النظام الأردني في سعيه ضد الإصلاح الديموقراطي. وتقافزت كل من فتح وحماس استعداداً لتلبية الدعوة لخدمة النظام ومصالح الحكومة الأردنية، في حالة فتح كجزء من محاولتها لإنقاذ ما في وسعها من شرعيتها المفقودة، وفي حالة حماس كجزء من محاولتها لإثبات همتها في خدمة مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وقد جرى استقدام فتح وحماس لحشد المواطنين الأردنيين ــ الفلسطينيين، وخاصة أولئك الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين في المملكة، والذين بقوا خارج التعبئة الشعبية الجارية في البلاد، لتسجيلهم للتصويت لضمان فشل دعوة المعارضة إلى مقاطعة الانتخابات. وقد طُلب من حماس أيضاً، عن طريق زعيمها الشتاتي خالد مشعل (ومشعل كان أحد قادة حماس الذين منعهم الملك عبد الله في ١٩٩٩ على نحو مخالف للدستور من دخول البلاد، على الرغم من أنّهم مواطنون أردنيون يحملون الجنسية الأردنية) لإقناع الإخوان المسلمين بتليين موقفهم من المقاطعة، وحثهم على المشاركة في الانتخابات.
يقوم التنافس الآن على مبدأ من الذي سيثبت أنّه أكثر فعالية في خدمة مصالح الولايات المتحدة في الأردن، فتح أم حماس. وبما أنّ قطر لا تكل عن طمأنة الأميركيين، وبنجاح متزايد، إلى أنّ اعتلاء القوى الإسلامية السلطة السياسية في المنطقة، وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين ومنظمات على شاكلتها، هو الخيار الأفضل بالنسبة إلى الولايات المتحدة لتحقيق الاستقرار في المنطقة لعقود قادمة، دون أن تتعرض استراتيجيتها الإمبريالية للتهديد، فإنّ دفعها حماس إلى الدخول في حظيرتها الاستراتيجية يمكن أن يكلل بالنجاح قريباً. وهذا يتماشى مع دعم دولة قطر للإخوان المسلمين في مصر، وحزب النهضة في تونس، فضلاً عن دعمها للاخوان المسلمين في سوريا والقوى الإسلامية المتنوعة في ليبيا. يجب أن نضع في الاعتبار هنا أنّ انتقال مشعل الأخير إلى قطر ليس حدثاً جديداً. فقد انتقل مشعل إلى قطر عندما نفاه الملك عبد الله من الأردن في ١٩٩٩، وانتقل من قطر إلى سوريا في ٢٠٠١ تحت ضغط الولايات المتحدة وإسرائيل في حينها، على الرغم من أنّه واصل دوره كأرفع مسؤول في حماس يمثل مصالحها عند القطريين.
في غضون ذلك، ظلت السلطة الفلسطينية غارقة في مستنقع فسادها، وطغيانها، وتعاونها مع الإسرائيليين والأميركيين. وبما أنّه لم يعد لديها إلا القليل جداً لتقدمه لإسرائيل والولايات المتحدة، سيكون هذا الواقع العامل الحاسم في بقائها على قيد الحياة أو زوالها تماماً، وفي تعزيز شرعية حماس في نظر الولايات المتحدة وإسرائيل. لا نزال غير متأكدين إذا ما (أو متى) كانت حماس ستعلن للأميركيين، سيراً على خطى أداء عرفات المذل في ١٩٨٩، بأنّ ميثاقها «ملغى» أو «caduc»، وبأنّ مقاومتها للاستعمار الصهيوني كانت في الواقع كلها «إرهاباً» هي «تنبذه» الآن.
ولا نزال لا نعلم أي نوع من المعارضة والمقاومة قائم داخل حماس يعارض هذا التحول السياسي الجديد. وبما أن الضجة تتزايد في وسائل الإعلام العربية عن التأخر الملحوظ للـ«ربيع» الفلسطيني في الضفة الغربية، فليس واضحاً ما إذا كان هذا من شأنه أن يساعد على تسريع استبدال فتح بحماس أم لا.
أما حكم الإخوان المسلمين في مصر وحزب النهضة في تونس، فيجري بوجود معارضات نشطة تصر على مراقبة ومحاسبة الحكومتين المنتخبتين، وسير الديموقراطية في البلدين (فضلاً عن قوى النظامين السابقين المعادية للثورة، التي لا تزال نشطة للغاية في البلدين). وعلاوة على ذلك، بما أن لدى الإخوان المسلمين خطوطاً حمراء أيديولوجياً لا يستطيعون تخطيها بسهولة، في ما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، فإنّ محدوديتهما هذه ستضمن عدم امتثالهما الكلي للمطالب الأميركية في هذا الخصوص، فضلاً عن أنّ الضغط الشعبي على الأنظمة الجديدة، كما اتضح في الأشهر الأخيرة، يقيّد امتثالها التام للاستراتيجية الأميركية، ولا سيما في الجانب الاقتصادي منها. أما مدى انخراط النظامين الجديدين في خدمة مصالح الولايات المتحدة، على الرغم من التزامهما الصادق بها، فلا يزال غير معروف. وفي ليبيا، سيبقى عدم استقرار النظام الجديد على حاله في المستقبل المنظور، بينما في سوريا، عزز النظام أخيراً سلطته العسكرية، مما أدى إلى تراجع الجهاديين، الذين خطفوا انتفاضة الشعب السوري المؤيدة للديموقراطية، في دمشق وحلب. ونتيجة لهذا التحول المهم في موازين القوى، فإنّ محصلة المعركة في سوريا لم تعد محسومة كما كانت بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة والسعودية وقطر.
وبعد أن يجري القبول بحماس في المعسكر الأميركي، فإنّ «الهلال» الجديد الذي من المفترض أن يهيمن على (جزء من) المنطقة لن يكون «هلالاً شيعياً» ولا معادياً لأميركا البتة، كما روجت وزعمت الدعاية الأميركية والسعودية وحلفاؤهما لردح من الزمن، بل هو الهلال الأميركي القديم نفسه، بزعامة الأنظمة الاستبدادية القديمة ومعهم جماعة الإخوان المسلمين الظافرة وأتباعها. المخطط الأميركي الذي يجري تنفيذه في المنطقة واضح للعيان، لكن نجاحه يبقى عصياً وغير مضمون.
* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك.