ذهبتُ، باهتمام، لقراءة تعليق فواز طرابلسي على خطاب الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في الذكرى السادسة لحرب تمّوز. ومصدر اهتمامي ذاك، أنني رأيت في خطاب نصر الله المعني، تقدما نوعيا، بالنسبة إلى جميع خطاباته السابقة، يسدّ فجوات أساسية لطالما انتقدناها في تحليله وفكره. ومنها، مثلا، نظرته الجديدة للجوهري في المأساة العراقية، ومنها، خصوصاً، دور المنظور المقاوم في بناء صيغة من العلمانية الوطنية. وكنتُ شغوفا بأن أرى أثر ذلك التقدّم الفكري في مناقشة نقدية جدية للخطاب من قبل مثقف مهم.غير أنني ذهلتُ من خفّة المناقشة. هي، في الحقيقة، مجرد مناكفة مفككة جديرة بثرثرة عابرة في مقهى. وأنا أضنّ بالكتابة المثقّفة عن المناكفة والثرثرة، وأحسب أن نشر نص يوقّعه مثقف هو مسؤولية ثقيلة لا مجال للتسامح بإهمالها كل ذلك الإهمال الذي أبداه طرابلسي في نصه المعنون بـ«حوار هادئ في ذكرى حرب تموز» المنشور في «السفير» (الأربعاء، 25 تموز 2012).
النص المهلهل يبدأ بمناكفة مسطّحة حول مغزى قيام نصر الله بالكشف عن خديعة المقاومة للجيش الإسرائيلي، بما أدى لإفشال عمليته المسماة «الوزن النوعي» الهادفة إلى تدمير مرابض صواريخ المقاومة. ويسخّف طرابلسي ذلك الكشف، متجاهلاً أنه يأتي، رغم ضرورته الدرامية في خطاب جماهيري تعبوي، على هامش سجال فكري سياسي رئيسي بالنسبة إلى المقاومة، ضد طرحين متداولين، وأصبحا ضارّين للغاية في خضم التطورات الإقليمية الحاصلة: (1) الطرح القائل بالتقليل من أهمية انجاز المقاومة اللبنانية في حرب تموز، وخصوصاً لجهة إنكار وقوع الهزيمة الإسرائيلية. وقد استشهد خطاب نصر الله بنصوص عديدة لقادة إسرائيليين يعترفون فيها بهزيمة إسرائيل في تموز صراحة. وبينما يتحدث الإسرائيليون عن انجاز يتمثّل في عملية «الوزن النوعي»، أراد نصر الله أن يبدّده بالكشف عن كونه، في الحقيقة، فشلاً. (2) الطرح القائل بتراجع قدرات حزب الله بسبب الأزمة السورية، وبسبب انخراطه في الشأن الداخلي على حساب جهوزيته القتالية. وقد بيّن نصر الله أن للحزب اليوم قدرة قتالية ذاتية تمكّنه من التصدي لعدوان محتمل، وأن لديه أجهزة تركّز جهودها على محور واحد هو محور الصراع مع العدو.
المقصودان بهذه الرسالة ليس طرابلسي بالطبع؛ وإنما إسرائيل لردعها عن التفكير في العدوان. وهذا هدف مشروع وصحيح. وجمهور حزب الله، لطمأنته وشدّ أزره في مواجهة الحرب النفسية الإعلامية التي تشنّها شبكة معادية من الفضائيات والصحف والمواقع الإلكترونية، ضد المقاومة، قدرة وثقافة.
ويماحك طرابلسي حول الدعم السوري للمقاومة: هل هو هبة أم لمصلحة؟ ويسترسل في سؤال صاغه في جملة طويلة مضطربة ومفككة ومختلطة الضمائر، بحيث لا يمكننا أن نستشهد بها، لكن مضمونها يقول إن الصواريخ السورية المهداة للمقاومة دفع ثمنها الشعب السوري من لحم أكتافه الخ. طبعاً. ونحن لا نماري في أن السوريين سددوا أثمانا باهظة من التضحيات، بما فيها احتمال القمع السياسي والفساد، تقديرا لنهج المقاومة المكلف، لكن ليس بسببه. ذلك أن هناك فارقا نوعيا بين تنديدنا بالتناقض بين نهج الاستبداد والفساد ونهج المقاومة، وبين الربط السببي بينهما. في الحالة الأولى نكون في موقع نقد أسلوب الحكم والمستفيدين منه، وفي الحالة الثانية، نكون في موقع نقض المقاومة.
الشعوب هي التي تصنع القدرات الدفاعية بتضحياتها، لكن الأنظمة هي التي تقرر استخدام تلك القدرات، وفي أي اتجاه. ومن الواضح أن النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد، عمد، كما أوضح نصر الله، إلى تقديم الدعم اللامحدود إلى المقاومة اللبنانية والفلسطينية ( ونضيف: العراقية) حتى عندما كان ذلك السلوك يهدده في الصميم. وهذا دليل جدية وإخلاص بممارسة استراتيجية «الدفاع خارج الأسوار» الموروثة من عهد الرئيس حافظ الأسد. وبها تتحقق، بالطبع، مصلحة سوريا في إدامة الصراع مع إسرائيل في ظروف انعدام إمكان شن حرب تقليدية ناجحة، وصولا، كما في كل صراع، إلى نتائج سياسية، لكن ما أضافه نصر الله، من خلال ما يعرفه مباشرة من معلومات، هو أن نظام بشار الأسد تحول إلى شريك ورفيق سلاح للمقاومة من جهة، وركّز، من جهة أخرى، على إعادة هيكلة جيشه بحيث تحوّل إلى قوة عسكرية قادرة على خوض حرب كبيرة ناجحة.
هنا، نرى أهمية ما يستعيده نصر الله من دروس حرب تموز التي أثبتت، بالملموس، تراجع أهمية سلاحي الطيران والمدرعات في الحرب، لصالح سلاحي الصواريخ والقوات الخاصة. وهو استنتاج أصبح متداولا بين الخبراء العسكريين. ومن الواضح أن النظام السوري، كما يقول نصر الله، عكف خلال السنوات العشر الماضية على إعادة بناء قدراته الدفاعية على أساس هذا الاستنتاج، وطوّر صناعاته الحربية، وخصوصاً في مجال الصواريخ، بما مكّنه من النجاح في ملاءمة خططه الجديدة وتجهيزاته معا.
ويريد نصر الله، أن يطمئن جمهوره، من خلال هذه المعلومات، إلى قدرة الجيش السوري على صد عدوان خارجي، كما يريد الكشف، باسم سوريا، عن تلك القدرة درءاً للعدوان المحتمل، لكن الجوهري، هنا، أن النظام السوري كان يمضي نحو المزاوجة بين استراتيجية الدفاع خارج الأسوار واستراتيجية الحرب على الأسوار. وهو ما يضعنا، أحبّ طرابلسي ذلك أم لا، أمام تطور فعلي في استراتيجية مقاومة متشابكة وتشتمل على الجبهتين اللبنانية والسورية معا، بصورة متعاضدة ومتداخلة، بحيث إنه لم يعد بإمكاننا القول إن أحدا يستخدم أحداً، وإنما نحن أمام بنية واحدة.
هنا، يمكن للمثقف النقدي المسؤول، ويجب عليه، أن يطرح السؤال الآتي: هل كان بشار الأسد يظن أنّ بالإمكان تطوير استراتيجيّة وقدرات المقاومة بمعزل عن السياسات الاقتصادية الاجتماعية الملائمة لها في الداخل؟
يذهب تحليلي إلى أن الأسد، المعجب اعجابا شديدا بنصر الله وبتجربة حزب الله، تصوّر أن بإمكانه أن يركّز، كما يفعل حزب الله في لبنان، على شؤون المقاومة، تاركا البيروقراطية المستبدة والفاسدة تتجمّد وتتعفّن، وتاركاً السياسات الاقتصادية ــــــ الاجتماعية للنيوليبراليين والكمبرادور. وهي الصيغة المتناقضة التي انفجرت في وجه الأسد في ربيع 2011.
بنية حزب الله المتماهية مع بنية طائفة من طوائف لبنان، لا تضطرها لقمع جمهورها، كما يمكنها، من خلال المؤسسات المدنية، تمكين قسم من جمهورها ذاك من تلافي الانسحاق تحت عجلات النيوليبرالية المتوحشة في لبنان، لكن سوريا الدولة لا يمكنها أن تقلّد هذا النموذج؛ لا يمكنها أن تطوّر مقاومتها دوناً عن إدارتها ومنظومتها السياسية، كما لا يمكنها أن تتخلى عن القطاع العام والحماية والجمركية وسياسات الدعم الاجتماعي من دون أن تخسر القواعد الاجتماعية للدولة والمقاومة.
هذه التناقضات القاتلة هي التي كان يناضل شيوعيون من مثل قدري جميل ضدها، طوال العقد الماضي، مؤكدين على ضرورة الانسجام بين المجالات الدفاعية والسياسية الإدارية والاقتصادية الاجتماعية في برنامج يوحّد بين المقاومة والتحديث السياسي والتنمية و الديموقراطية الاجتماعية. وهذا هو مضمون المعارضة الوطنية الاجتماعية السورية التي تمكنت، بسبب ضغوط الأزمة الراهنة في سوريا، من أن تجد لها مكانا في السياسة السورية وفي البرلمان والحكومة. وحين يدعي طرابلسي، بهذا القدر من الخفة والجهل الثقيل الظل، أن مناضلا مثل قدري جميل هو «معارض مفبرك»، فلأن المعارضة التي يشجعها ويعترف بها هي المعارضة ضد المقاومة لا المعارضة ضد النيوليبرالية. إنه يصطف إلى جانب هيلاري كلينتون وبندر بن سلطان وحمد بن جاسم، وراء جماعات رجعية هي، من حيث بنيتها الفكرية الأساسية، طائفية وتفكيكية واستبدادية، وينطوي برنامجها على ضرب كل عناصر الاستقلال السوري، سياسيا ودفاعيا واقتصاديا وثقافيا.
علي حيدر ــــ وحزبه السوري القومي الاجتماعي الضارب جذوره العميقة في أرض سوريا ــــ هما، عند طرابلسي، «معارضة مفبركة» أيضا! فمن المعارضون الأصلاء؟ أهم الإخوان المسلمون؟ أم السلفيون؟ أم العصابات المسلحة؟ أم القاعدة؟ كل هؤلاء لا يريدون الحوار مع النظام السوري، ليس لأنهم يتناقضون مع استبداديته، فهم أكثر استبداداً منه (فالنظام السوري لا يقمع، أقله، الحريات الثقافية والشخصية). وليس لأنهم يتناقضون مع نهجه الاقتصادي الاجتماعي، فهم ينطلقون من طروحات نيوليبرالية صريحة شاملة ومتوحشة ( بينما النظام السوري يتراجع عن هذه السياسات الآن، وهو، على كل حال، لم يقم، حتى في سنوات الانفتاح، بهدم قطاعه العام)، لكن لأنهم يخوضون حربا طائفية تتطابق أهدافها مع وهّابيي السعودية وقطر وامبرياليي الولايات المتحدة وعثمانيي أنقرة. وهذا الحلف الأسود هو الذي يمنع، كما قال نصر الله عن حق، التوصل إلى تسوية داخلية في سوريا.
يتذاكى طرابلسي بالسخرية من حديث نصر الله عما تضمره القوى الاستعمارية والصهيونية وحلفاؤها، لسوريا، من خطط تدمير وتفكيك وإلحاق، بوصفه ذلك الحديث، بأنه ضرب من «التعويذات بالمؤامرات المجهولة الفاعلين»! معقول؟ ألا يرى طرابلسي كلّ هذا الصراع المحتدم محليا وإقليميا ودوليا في سوريا وحولها، ليصف النظر في ذلك الصراع من موقع المقاومة، بأنه «تعويذات بالمؤامرات»؟ ثم، كيف يعني «مجهولة الفاعلين»؟ ألم تصل إلى علم طرابلسي أنباء المجموعات الأصولية والسلفية الجهادية والقاعدية المسلحة في سوريا، وتصريحاتها وأفعالها؟ ألم يخبره أحد أن ملك السعودية ورئيس وزراء قطر قد انضما إلى حزب جان جاك روسّو، واستلا ملياراتهما لإسقاط النظام اللاديموقراطي في سوريا؟ ألم يلاحظ أن واشنطن وحلفاءها يعلنون، صراحة، عن دعم الإرهابيين في سوريا؟ ألم تقع عيناه على أنصار القاعدة الذين جمّعهم رجب أردوغان في مركز باب الهوى الحدودي؟ ألم يتابع مؤتمرات «أصدقاء سوريا» التي عقدها ألدّ أعدائها مرارا؟ ألم يطلع على المحاولات الغربية ـــ الخليجية لاستصدار قرارات تحت الفصل السابع بهدف الحرب على سوريا؟ أويظنّ، حقا، أن تفجير مكتب الأمن القومي في دمشق هو من تخطيط عبدالباسط سيدا وتنفيذ أعوانه؟ ألم يقرأ تحليلا غربيا واحدا من التحليلات العديدة التي تقرر أن تلك العملية هي عملية استخبارية بامتياز؟
طرابلسي لا يقرأ ولا يسمع ولا يرى أي شيء له علاقة بالأحداث الفعلية التي تجري في الواقع الملموس. إنه يدور حول نفسه، ولا يستطيع الانتباه وسط كل انفجارات الحرب الكونية الدائرة في سوريا وحولها، سوى إلى ما يراه من «إعادة انتاج حكم عسكري أمني فردي مافياوي يتربّع على رأسه حاكم فرد يتمتع في الدستور الجديد بصلاحيات دستورية مطلقة، تفوق ما كان يتمتع به في الدستور السابق، وهو فوق ذلك كله معفى من أي مساءلة او محاسبة من أي هيئة او مرجعية»! عظيم حقا، هكذا تؤكد أنك ليبرالي فعلاً، لكنها ليبرالية تصب في مجرى العرعورية. فالذين يطرقون أبواب السلطة في سوريا اليوم بالسلاح يحتاجون إلى مئة سنة لكي يبنوا نظاما عسكريا أمنيا فرديا ... إنهم لن يبنوا حتى نظاما ..فالنظام يحتاج إلى دولة، وهؤلاء يشكلون مشروعا نقيضا للدولة الوطنية ابتداءً، وما يمكنهم فعله هو تأسيس إمارات ظلامية طائفية تطبق أوامر هيئة المطاوعة في السعودية.
إنني أتساءل، أحيانا، بجدّ: هل الليبراليون مساطيل أم أنهم يسطلونها عمدا؟ هل حقا يعتقدون أن الصراع الفعلي هو بين الاستبداد السلطوي وبين أفكارهم الديموقراطية؟ هل يظنون أن ما يدور في رؤوسهم يتحقق تلقائيا بسقوط الأنظمة المستبدة؟ هل يظنون حقا أن قوى أصولية سلفية مموّلة من الخليج تقاتل «الحكم العسكري الأمني الفردي المافيوي ...» لكي تطبّق أفكار طرابلسي في جمهورية ديموقراطية؟
في سوريا الفسيفسائية التركيب الطائفي والمذهبي والإتني، لا يمكن للأحزاب الطائفية أن توحد الدولة وتبني نظاماً من أي نوع، بل يمكنها فقط تفكيك الدولة إلى إمارات طالبانية ترتكب الفظائع، ليس فقط بحق أتباع الطوائف والمذاهب الأخرى، بل، أيضا، بحق كل مخالف في تفاصيل مفسدات الوضوء وطول شعر اللحية! وإلى جانبها ستجد الأقليات العلوية والمسيحية والدرزية والكردية أن من حقها توفير الحماية لأبنائها في دويلات طائفية أخرى. وهكذا. لن يكون هناك بعد فضاء سياسي سوري دولتي لإصلاحه ديموقراطياً، ولا قطاع عام، ولا ثقافة، ولا حرية، ولا تشغيل ولا انتاجية... وبطبيعة الحال، لن يكون هناك جيش وطني ولا مقاومة، ليس فقط بسبب دمار الدولة الوطنية، بل أيضاً لأن الولايات المتحدة والغرب لا يدعمان الانتفاضة السورية المسلحة إلا في سياق يقدم الحماية إلى إسرائيل، وينهي استقلال سوريا، ويحوّلها إلى مجال استعماري صريح.
نعم. يمكن أن يكون هناك امكان لانتظام فضاء سوري موحد، لكن، فقط، تحت سيطرة قوة خارجية، هي تركيا. وهذه هي الأحلام العثمانية لأردوغان وصحبه في أنقرة، لكن تركيا نفسها مهددة بالتفكيك، في سياق تفكك سوريا؛ فالدويلتان العلوية والكردية تطرحان توا مشروعين تركيين موازيين، والجهاديون الذين توفر لهم حكومة أردوغان غرفة عمليات استخبارية في أضنة، سوف يواصلون جهادهم في تركيا غداً.
هذه هي حقائق الصراع الملموسة. ولذلك، تنقسم المعارضة السورية، إلى وطنية أو غير وطنية، ليس على أساس التخوين، وليس بمنحة من نصر الله أو سواه، لكن انطلاقا من موقفها من الدولة الوطنية. هل تتجشم أعباء الصراع داخل هذه الدولة من خلال تسوية داخلية صعبة ومحفوفة بالمخاطر، لكنها تحافظ على الفضاء الوطني موحداً، أم تلتحق بالهجمة البربرية التي تنطوي على تحطيم الدولة والبلد؟
هذه هي حقائق الصراع: «نظام عسكري أمني ...» نعم. وهل تريده أن يناقش صد الهجمات الإرهابية في البرلمان؟ أمّا هبل!.. حتى في أعرق الديموقراطيات، لا تخوض الدول الحروب وتواجه الإرهابيين إلا بصلاحيات دستورية وتنفيذية مطلقة، لكن الجديد في سوريا، الجديد الذي يلمح إليه نصر الله، هو أن موازين القوى الداخلية في البلد لم تعد تسمح بإعادة انتاج «الحكم العسكري الأمني الفردي المافيوي ...»؛ فالتغيير الديموقراطي أصبح حتميا في سوريا، لكن سوريا المستقلة والموحدة. والسؤال المطروح الآن، السؤال الذي طرحه نصر الله على المعارضة الوطنية التي لم تحسم خيارها بالحوار بعد، هو : أدولة وطنية وجيش وطني ومقاومة وإصلاحات ديموقراطية، أم تفكيك الدولة والجيش والإمارات الطائفية؟ هذا هو السؤال الفعلي الرئيسي في سوريا اليوم. وهو، بالطبع، سؤال نضالي. فالطريق نحو سوريا الجديدة ليس مفروشاً بالورود، ويحتاج شقّه وتمهيده إلى نضال دؤوب وتضحيات في ظل صراع مديد مع قوى الاستبداد والفساد، لكنه، مع ذلك، يظل الطريق الوحيد الآمن الكفيل بالحفاظ على الدولة الوطنية السورية.
في ظل الصراع الحالي الفعلي في سوريا، يضع نصر الله يده على مفصل رئيسي حين يحدد الهدف المحوري للهجمة الحالية على سوريا، بأنه يتمثل في تفكيك الجيش السوري، كمقدمة ضرورية لتفكيك الدولة السورية أولاً، وبالتالي إخضاع سوريا للمصالح الغربية والخليجية، لكن تفكيك جيش تشرين أيضا يحقق غايات استراتيجية مباشرة للعدو الإسرائيلي، من حيث أنه يزيح من أمامه قوة عسكرية تمثل تهديدا محتملا، وتشكّل داعما راسخا للمقاومة اللبنانية والفلسطينية، وحليفا للنفوذ الروسي في المتوسط، وشريكا لإيران، المطلوب رأسها إسرائيلياً وأميركياً.
يقول طرابلسي إن النظام السوري هو المسؤول عن مآل تفكيك الجيش الوطني من خلال زجه في مواجهات داخلية. وقد يكون ذلك صحيحا لو أن في سوريا ثورة ديموقراطية سلمية، لكن الذي في سوريا هو تمرد مسلح مدعوم من قوى إقليمية ودولية، استطاعت أن تحشد عشرات آلاف المقاتلين السوريين والعرب في حرب عصابات واسعة ودموية، بحيث تكون الدعوة للاستغناء عن قيام الجيش الوطني بمهمّاته في مواجهة هذا النموذج المزدوج من المتمردين والغزاة، دعوة إلى انتحار الدولة وتفكيك الجيش نفسه، بلا مقاومة.
لدينا لائحة اتهام طويلة ضد النظام السوري، لكننا اليوم في حالة حرب وطنية في مواجهة حلف استعماري رجعي يهدد الكيان كله، بحيث توجب أدنى متطلبات السياسة العقلانية أن نتحالف مع ذلك النظام ضد العدو المشترك، من دون أن نتخلى، قيد أنملة، عن برنامجنا الديموقراطي الاجتماعي، لكننا، في اللحظة التي نستغل فيها هذا البرنامج النضالي للاصطفاف مع العدو، سوف نتحوّل من مناضلين إلى خونة.
المطلوب الرقم واحد في سوريا الآن، هو دحر الإرهاب وتطهير الأرض السورية من الإرهابيين. وهي عملية لا يستطيع النظام السوري ــــــــ ويجب أن يعرف ذلك ــــــــ أن ينجزها وحده؛ فالمعركة ضد الإرهاب ليست معركة عسكرية وأمنية فقط، بل هي معركة سياسية تتطلب أوسع تحالف وطني اجتماعي ممكن، في ضوء برنامج وطني وواقعي للتغيير. وليس بلا دلالة أن أحدا من الديموقراطيين الليبراليين لم يطرح برنامجا كهذا حتى اللحظة.
يمكن لليبرالي الوطني أن يطرح البرنامج التالي: هزم الإرهاب والتدخل الخارجي، السلام، إعادة البناء، انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة في غضون عام أو عامين، لكن لا ! يجب إسقاط النظام فورا ولا حوار مع النظام إلا على أساس استسلامه، وتحويل الشعار الديموقراطي إلى غطاء لإرهاب القوى الأصولية والسلفية والقاعدة.
في تعليق طرابلسي على نصر الله، ضرب من تكتيك الثعلب؛ فبينما يحدد نصر الله منطق سجاله من موقع صريح هو موقع المقاومة، يموّه طرابلسي موقعه السياسي فيفتقر إلى المنطق المتماسك، ويتصيّد في نصه لاهيا. نصر الله يعبر عن قوة تنطلق من أولوية المقاومة ضد إسرائيل. ومن وجهة نظر التحليل المادي، فإن هذه الأولوية، تعكس، بطبيعة الحال، مصالح اجتماعية وسياسية للجماعة الشيعية اللبنانية، لكن هذه المصالح تتجسّد في نخب متماهية مع أولويتها، ويمثل نصر الله أعلى درجة من التماهي بين المصالح الاستراتيجية والفكرة والشخص. وهذا هو مضمون زعامته التي تعلو على موقعها الحزبي والسياسي والطائفي واللبناني، وتتجلى في شخصية مناقبية، بامتياز. ولا يمكن الدخول في سجال فعلي مع شخصية كهذه إلا من أحد موقعين: موقع النقد من داخل خندق المقاومة نفسه، أو موقع الخصومة والعداء للنهج ومنطقه. ومنطق نصر الله متماسك: النظام السوري رفيقنا في السلاح، وإسقاط النظام والجيش السوريين لصالح القوى المعادية للمقاومة يمثّل خسارة استراتيجية لحزب الله ومشروعه. يعني ذلك أننا بإزاء قوة مبدئية لم تتزحزح عن مشروعها وسط العاصفة. حزب الله جادّ في أن يكون مقاوما. لذلك، فإن نصر الله لا يخذل رفاق السلاح في زمن الأزمة، كما فعل خالد مشعل واسماعيل هنية، اللذان قفزا من سفينة ظناً أنها تغرق، فتخليا عن مشروع المقاومة، وانضما إلى المشروع الأميركي ـــ الخليجي.
في المقابل، فإن طرابلسي ـــ و هو لا يهمني كشخص بل كنموذج للمثقفين وأنصاف المثقفين الليبراليين ــ لا يتحلى بالاستقامة، ولا يجد في نفسه الجرأة ليقول إن أولويتي هي لبنان ديموقراطي ليبرالي صاف، نموذجي. وهو ما يتطلب، موضوعيا، نزع سلاح المقاومة وإقامة سلام راسخ مع إسرائيل وعلاقات مع الغرب لا يعكرها مقاومون. هل ذلك ممكن من دون إسقاط النظام السوري؟ لا. إذاً، فإنني أؤيد العاملين على إسقاطه حتى لو كان هؤلاء من جحافل الأصوليين والسلفيين والقاعديين المدعومين من الأنظمة الخليجية والغرب، وحتى لو أدى ذلك إلى تفكيك سوريا. فلتتفككْ. بالعكس، فإن في تفككها ضمانة للبنان «المستقل». هكذا يستقيم منطق طرابلسي وينسجم مع نفسه: الدولة السورية عقبة أمام استقلال لبنان الكمبرادوري الليبرالي. فلتسقط.
لم يلتفت طرابلسي، ولا سواه من المعلقين على خطاب نصر الله إلى نقطتين في ذلك الخطاب، أحسبهما بالغتي الأهمية من حيث دلالاتهما الفكرية، النقطة الأولى تتعلق بمراجعة جريئة تمثّل نقداً ذاتياً للموقف من المسألة العراقية. فنصر الله، عندما تيقّن من أن صلب الهجمة على سوريا تتعلق بهدف تفكيك الجيش الوطني السوري، استعاد ما جرى في العراق من احتلال مغطى، سياسيا، من قبل معارضة داخلية طائفية، فوجد أن هدف تفكيك الجيش الوطني العراقي كان في صلب أهداف الحرب، التي اتخذت شعارات الديموقراطية وحقوق الانسان والمظلومية الشيعية الخ. يقول: «عندما دخل الاميركيون إلى العراق، ماذا فعلوا؟ حلّوا الجيش العراقي، لماذا حلّوا الجيش العراقي؟ ألأنهم غير قادرين على أن يديروه؟ لا. فالجيش يتبع أي سلطة سياسيّة. كان يمكن للجيش العراقي أن يتبع السلطة السياسية الجديدة. هذا الجيش الذي للأسف قاتل الجيش الايراني لمدّة ثماني سنوات وغزا الكويت وهدد دول الجوار وواجه الشيعة والأكراد والسنة في العراق، حلّوه لأنهم لا يريدون جيشا قوياُ، سلاحه وتدريبه وعقله ليس عند الأميركيين. هذا الجيش سلاحه روسي، تدريبه روسي، ذخيرته روسيّة الخ».
في هذا النص، نقد جذري لما كان حزب الله يتبناه من تحليل للشأن العراقي هو أقرب لمواقف القوى الشيعية والمنظور الإيراني. اليوم، يكتشف نصر الله في الحرب على سوريا، حقيقة الحرب السابقة على العراق. وكان يمكنه أن يتجاوز عن تلك المقارنة التي لا تصب في صالح حلفائه العراقيين والإيرانيين، لكن نصر الله، لفكره النظامي وشرفه الشخصي، يتبع منطق خطابه بلا التواءات، ويطارد الحقيقة حيثما كانت، وحين يراها يعلنها: «ذهب الجيش العراقي. ماذا لدينا اليوم في العراق؟ لدينا بوليس».
في هذا المنطق المتماسك علوٌّ عن دواعي التحليل المستند إلى نظرة طائفية، وجرأة على الذات، واستنطاق لحقيقة جارحة، لكنها الحقيقة التي ينبغي إعلانها بشرف، والتي تؤسس لحوار جدي في خندق المقاومة حول الجدل الموضوعي بين الدولة الوطنية والعروبة والمقاومة والتحالفات الدولية، حوار يمكنه أن ينتج رؤية وطنية تقدمية مشتركة بين الإسلاميين الوطنيين والقوميين واليساريين.
النقطة الثانية تتعلق بنزعة نصر الله العلمانية الوطنية الواقعية. نصر الله إسلامي، لكنه ـ في هذه الظروف من صعود الأحزاب الإسلامية وتسويغها حقها في الحكم، بغض النظر عن برنامجها السياسي، باسم إسلاميتها ـ يكرر قوله: «لا يهم أميركا أن يحكم، في العالم العربي، حزب إسلامي أو حزب عربي أو حزب قومي أو حزب شيوعي. هذا ليس مهماً. ليس مهماً أنك تعمل لحية أو تحلق لحيتك، تلبس كرافات أو لا تلبس كرافات. المهم ما هي سياستك». وهكذا، فبالنسبة إلى الإسلامي نصر الله أيضا، لا يهم أن تكون إسلاميا أو يساريا أو قوميا. المهم ما هي سياستك نحو الحلف الأميركي ـ الصهيوني. المهم هو الموقع السياسي الذي تنطلق منه وتنتهي إليه في ممارستك السياسية الفعلية. تقترح هذه المعيارية فضاءً وطنيا وإقليميا ودوليا لحوارات وتحالفات لا تقوم على الدين والطائفة، بل على السياسة. وهذا هو جوهر العلمانية تحديدا.
في النقطتين السابقتين، تحرر فكري وسياسي من الطائفية (من دون التخلي عن الطائفة كواقع اجتماعي سياسي) ومن الربط بين الدين والسياسة (من دون التخلي عن الخيار الإسلامي الذاتي والحزبي)، لكنه تحرر يفتح أفقا للتسويات الوطنية الاجتماعية خارج المنطق الأحادي الاستبدادي للإسلام السياسي التقليدي، المحمول اليوم على الجناح الأميركي الخليجي ليعيد تأسيس أنظمة الاستبداد والاستغلال والاستسلام، تحت لافتة الشرعية الدينية.
على أنني، هنا، آخذ على خطاب نصر الله أنه قارب خروج حماس من معسكر المقاومة، مقاربة خجولة للغاية، ولا تتعدى النصح بمخاطر الارتماء في أحضان النظام العربي على القضية الفلسطينية. أدرك، بالطبع، حراجة موقف نصر الله من حيث أن حماس هي تنظيم إسلامي سنّي، كما أدرك حساسية تناول الشأن الفلسطيني من قبل حزب الله. لكن آن الأوان لقوى المقاومة والتحرر الوطني أن تحسم أمرها، وتعلن أن فلسطين ليست مجرد شأن فلسطيني يُترَك للفلسطينيين. حمد بن جاسم مارس ويمارس التدخل العلني العميق في ذلك الشأن من وجهة نظر العلاقة العضوية بين الرجعية العربية والصهيونية. وهو أخرج قادة حماس من دمشق، فلم يخرجوا من المكان فقط، بل من الخندق أيضاً. حماس، اليوم، انضمت إلى حلف الاستسلام، ويُعاد تأهيلها من أجل أداء الدور الأخطر في تصفية القضية الفلسطينية. وينبغي، مهما كان الثمن، أن تعلن قوى المقاومة، حقيقة حماس للفلسطينيين، ليس للتعريض بها، بل لمحاصرة الأضرار الناجمة عن سير حماس في طريق التفاهم من تحت الطاولة القَطرية على إدارة الكانتونات التي سيتركها الاحتلال وراء الجدار العازل، منهياً قضية التحرير والعودة.
هل هناك أوهام لدى حزب الله حول غزّة مقاومة؟ لا ننظر إلى دعوات إسماعيل هنية لإسقاط الأسد ـ الذي زوّده السلاح والطعام تحت القصف ـ من وجهة نظر أخلاقية فقط كمثال على انعدام قيم الوفاء لدى الإخوان المسلمين، بل ننظر إليها، بالأساس، سياسياً، كعملية استبدال للموقع السياسي والانخراط في سياق سياسي إقليمي ودولي يطبعه التحالف بين الولايات المتحدة والخليج و«الإخوان». وفي هذا السياق لا توجد مقاومة ولا ما يحزنون، بل توجد تفاهمات، ربما يكون التوصل إليها صعباً بعض الشيء، مشوباً بالتردد والتوتر بين الجانبين، لكنه، في النهاية، سياق تفاهمات مع إسرائيل، برعاية أميركية خليجية تركية.
هل يتابع نصر الله، تحركات خالد مشعل للبحث عن دور له في ربيع الإخوان المسلمين؟ هل قرأ تقريرا عن اتصالاته المريبة ؟ لا بد أنه فعل. في هذه الصحيفة، تناولنا الدور الحمساوي المثير للتساؤلات في الأردن، حيث تعدّ حماس الخارج للإقامة السياسية على أرضه. أحسب أن المسار معروف منذ الآن. وسيكون استمرار الصمت إزاءه تخلياً عن المسؤولية إزاء الشعب الفلسطيني والأردني.
أخيراً، فإنني لا أرى منطق خطاب نصر الله حاضرا في منابر الحزب الإعلامية ومداخلات قادته السياسيين. في «المنار» غزل مستمر مع الإخوان المسلمين في مصر خصوصاً، وتغطيات دعائية في الشأن العراقي، ومساحة تكاد أن تكون صفرية للتيارات القومية واليسارية، واضطراب في الموقف من روح الوحدة الإسلامية التي يظهرها نصر الله.
أخشى أن يكون منطق القائد، ليس، بالضرورة، منطق حزبه.