قد لا تماثل سرعة صعود وتألق قناة «الجزيرة» الفضائية القطرية، إلا سرعة سقوطها المهني والمعنوي المدوي. أما تجربة قناة «العربية» السعودية التمويل والإدارة، فلا يمكن وصفها بالأصالة والتَمَيُّز، لأنّها إنما أُطلِقَت من باب النكاية والكيد السياسي والإعلامي المتبادل بين الأسرتين الحاكمتين في السعودية وقطر. ومع ذلك، يمكن للمراقب هنا، أن يلاحظ أنَّ «العربية» استمرت تتمتع بشيء من الرصانة المهنية، وإن بدا متناقصاً باستمرار، حتى ما قبل إسقاط الدكتاتور القذافي بقليل، وبعد ذلك غدا من الصعب التمييز بين القناتين، حتى ليحسبهما المشاهد قناة واحدة بشاشتين. إنَّ العوامل التي ساعدت على صعود قناة «الجزيرة» وانتشارها السريع موجودة في نسيج الواقع السياسي والاجتماعي والإعلامي العربي ذاته. فـ»الجزيرة» لم تكن القناة العربية الفضائية الخاصة وغير الحكومية الأولى، بل سبقتها بعدة سنوات قناة «أم بي سي» السعودية، لكنَّ هذه الأخيرة ظلت حبيسة توجهات الإعلام العربي الحكومي التقليدي، لذلك لم تحقق ما حققته شقيقتها الجديدة.
فحين بدأت «الجزيرة» نشاطها بنبرة مستقلة عالية الحدة، ومنهجية جديدة على المشاهد العربي وجريئة في التغطية والتحليل والتعامل، كان العالم العربي أشبه بصندوق مضغوط ومعتم محكم الإغلاق، لذلك كان صوت «الجزيرة» وصورتها أشبه بنفحة أوكسجين للملايين داخل ذلك الصندوق الشمولي!
ولدت قناة «الجزيرة» بطريقة لا تخلو من الغموض، وقد قيل الكثير عن تفاصيل تلك الولادة، مما يبقى مثار نقاش وأخذ ورد، لكن الثابت هو أنّها بولادتها، وبهذه الكيفية في الأداء، أجابت عن حاجة حقيقية في كافة المجتمعات العربية المحكومة من قبل أنظمة شمولية فاسدة وقمعية. غير أن ذلك لا ينفي، أنّ الكثيرين سجلوا عليها مبكراً سكوتها عن النظام القطري المموِّل والمطلِق والمالك الحقيقي لها، وقد فَهِمَ المتحفظون أسباب هذا السكوت فسكتوا.
كذلك سجل كثيرون تحفظهم على شروع القناة في عملية تطبيع واسعة وسريعة مع إسرائيل، عبر استضافة أقطابها ومسؤوليها أياً كانوا، فيما أبدى البعض من جمهور النخبة العربية ــ وهؤلاء هم الأسرع تصفيقاً دوما لأية توجهات تطبيعية مع العدو ــ تفهماً وتشجيعاً لتلك التوجهات التطبيعية.
على الصعيد المضموني لتجربة «الجزيرة»، كان واضحاً، منذ السنة الأولى لنشاطها، أن أداءها وفكرها هما خلاصة لتوازن سياسي وأيديولوجي داخل تحالف يدير كابينة قيادتها. يتكوّن هذا التحالف أو الشراكة، مثلما بدا من خلال الأداء والتقارير والتسريبات الخاصة، من شخصيات إسلامية تتوزع على قوس واسع من حيث الاعتدال والتطرف، ومجموعة من القوميين العروبيين والبعثيين، إضافة إلى ليبراليين وأشباه ليبراليين معروفين بدفاعهم عن توجهات اليمين الليبرالي الأوروبي خاصة.
كانت نتيجة هذه التجربة الجديدة في المشهد الإعلامي العربي هائلة حقاً على مستوى الوعي والاستقبال والتعامل، وقد تسببت في العديد من الأزمات السياسية بين عدد من الأنظمة العربية التي استهدفتها القناة وبين حاكم قطر، الذي اعتُبِر صاحبها الفعلي. تمكنت القناة أيضاً، من استقطاب أمهر وأنضج الكفاءات الإعلامية العربية في ميادين الإعلام، مقابل مرتبات وامتيازات غير مسبوقة، واكتسبت تعاطفاً جماهيرياً واسعاً من المحيط الى الخليج، فكان أنْ بلغت ذروة صعودها عند هذه اللحظة! عندها، وجد الحُكْم السعودي نفسه مضطراً ومدفوعاً إلى إيجاد نسخته الشبيهة، ولو شكلياً، بهذه «الدمية» القطرية اللطيفة. هكذا أطلق فضائيته «العربية»، لكنها جاءت شاحبة ومرتبكة وبلا ملامح إعلامية خاصة، رغم كل الإمكانات المالية والفنية الهائلة التي وضعت تحت تصرفها، ورغم استفادتها من الخبرة الواسعة والغنية التي اكتسبها الإعلام السعودي المحافظ، الذي سبق له أن اشترى بأموال البترودولار أغلب أجزاء الماكينة الإعلامية العربية، وبخاصة اللبنانية منها في الثمانينيات من القرن الماضي.
مع بدايات مدِّ الربيع العربي، وجدت القناتان لهما دوراً واسعاً للحركة والأداء. ولا يمكن لأيِّ كان أنْ ينكر ضخامة هذا الدور وتأثيراته، لكنَّ حدة الحراك الثوري في الشارع العربي، وقوة المتغيّرات السياسية والاجتماعية الهائلة، أربكتا إدارتيهما. إنَّ هذا الارتباك يعود أساساً إلى ارتباك الأسرة الحاكمة في قطر ومحدودية فهمها لما يحدث، فلجأت هذه الأخيرة الى فرملة أداء «الجزيرة»، والتخفيف من سرعته وجذريته تارة في جبهة معينة، وإلى التسريع الشديد في الحركة والجذرية تارة أخرى وعلى جبهة أخرى. وقد تأثر أداء «الجزيرة» بسرعة بهذا الوضع المتقلب. فراح تارة يناصر الحراك الثوري اليمني بشدة بلغت مستوى العداء الشخصي والتهجمات السوقية على الدكتاتور علي عبد الله صالح وحاشيته، ويهادنه تارة أخرى، مما أخرجها كثيراً عن إطار المهنية وأخلاقيات العمل الإعلامي. وقد عكس هذا العداء والتشنج على نحو دقيق نوع العلاقة بين الدكتاتور اليمني وحاكم قطر، اللذان ما لبثا أن هدآ بمجرد دخول الوسطاء على الخط بينهما!
في هذا الخضم، ارتكبت «الجزيرة» خطيئتها الثانية، وكانت من النوع الجديد والمستفِز، لكونه أضفى عليها طابعاً طائفياً رثاً، وذلك حين عتَّمت على تفاصيل الحدث البحريني، بل إنّها حرفت تفاصيله وتوجهاته على نحو فظ ومعيب، حتى لم يعد ممكناً التفريق بينها وبين قناة البحرين الحكومية إلا قليلاً. يمكن التذكير هنا بأنّ هذه العاهة الطائفية في أداء «الجزيرة» لم تكن الأولى، فقد ناوأت هذه القناة الحكم العراقي المحسوب شيعياً وموالياً لإيران، مع أنّه في حقيقته تحالف طائفي وقومي من أصدقاء الاحتلال الأميركي، يشارك فيه سياسيون من الشيعة والسنّة والأكراد وفق نسب دقيقة حددتها مبادئ المحاصصة التي غرسها الاحتلال.
لم تكن هذه الواقعة مجرد كبوة في أداء «الجزيرة»، بل إنها أصبحت واحدة من سلسلة طويلة من الوقائع المشابهة، في أماكن وساحات أخرى من ساحات الربيع العربية. ففي تونس، أصبحت «الجزيرة» لسان حال حركة النهضة، ولم تحظ الحركات الديموقراطية واليسارية الأخرى بأي نوع من العدالة في الاهتمام والتغطية. الأمر ذاته تكرر في مصر، حيث وضعت القناة ثقلها إلى جانب الإسلاميين «الإخوانيين والسلفيين»، مع استثناء طارئ أبدته حين أحرز المرشح الانتخابي «الناصري» حمدين صباحي نتائج طيبة في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، إذْ يبدو أن القناة سمحت للقوميين الناصريين في كابينتها بفسحة أوسع من العمل والحركة لمناصرة صديقهم صباحي، مع أنّ الرجل لا يمت بصلة حقيقية إلى تجربتهم الأصلية.
مع انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، لوحظ منذ البداية موقف «الجزيرة» المسبق من الأحداث ومن الشخصيات الحقيقية أو الاعتبارية المشاركة فيها. وقد سجل المراقبون زيادة كبيرة في جرعة التحريض الطائفي والدفع باتجاه بلوغ الأحداث الذروة واعتماد السلاح وعسكرة التحرك الثوري السلمي. هنا، أصبح من الصعب التفريق بين «الجزيرة» و«العربية»، من حيث الخطاب والتقنيات، وعلى نحو يماثل التطابق في أداء وزارتي الخارجية في السعودية وقطر.
برز أيضاً، وعلى نحو واسع، اعتماد أساليب رخيصة كانت القناتان قد تجنبتاها ماضياً، من قبيل فبركة الوثائق وبثِّ القديم من التسجيلات المصورة والصوتية وافتعال الحوادث والتصريحات والاعتماد المتزايد على شهود العيان المجهولين والمصادر الخاصة والتسريبات الاستخبارية. ويمكن وبسهولة توثيق كل هذه الأساليب بأمثلة حقيقية كثيرة من أرشيف المحطتين ذاتهما. وقد وقعت «الجزيرة» وشقيقتها في أخطاء وهفوات كبيرة ومضحكة في هذا المجال أصبحت موضع تندر الكثيرين. أما الجانب المعنوي والأخلاقي، فقد جرى إهماله تماماً، وأصبح الضيوف المخالِفون لنهج وسياسات «الجزيرة» موضع تشكيك و سخرية واستفزاز، بل وحتى ابتزاز غير مباشر. وصار النقل المباشر للحدث السوري نوعاً من الردح والرقص بين الجثث، والتهويل والدعوة إلى احتلال البلد. وقد تواكب ذلك كله مع تسليط الضوء الغامر على الشخصيات الداعية إلى التدخل العسكري الأجنبي، وذات النزوع الطائفي، حتى لو كانت هامشية ومتسلقة ومجهولة، والتعتيم على مخالفيهم حتى لو كانوا من أعلام معارضة نظام الأسد، وممن قضوا جلَّ أعمارهم في سجونه. غير أنّ أحط ما سجل في هذا الباب هو استخدام التقنيات الفنية الحديثة للإساءة إلى الضيوف والخصوم، وثمة أمثلة كثيرة في هذا الباب، نكتفي منها بمثال قريب: استضافت «الجزيرة» قبل أيام قليلة البروفيسور والمحلل السياسي الروسي ماتسادوف، وطرحت عليه سؤالاً عن مبررات قيام روسيا باستخدام حق النقض الفيتو أخيراً، وفيما كان الضيف يجيب، كان المخرج قد وضع صورته في مربع صغير في أعلى الشاشة، وأخذ يعرض في الوقت نفسه تسجيلاً مكرراً لمجموعة كبيرة من جثث شهداء الانتفاضة السورية مع تركيز واضح على جثث الأطفال. كان ماتسادوف يتكلم، و لا يبدو أنّه كان يعلم بما كانت تعرضه «الجزيرة» على الشاشة نفسها.
وفي موضوع التركيز على عرض جثث الأطفال من قبل قناتي «الجزيرة» و«العربية»، فقد اعتبر يورغن إلساسير (Jürgen Elsässer) رئيس تحرير مجلة «كومباكت» الألمانية، التي أماطت اللثام عن مسؤولية جماعات تكفيرية مسلحة مدعومة من قطر والسعودية عن مجزرة «الحولة»، اعتبر أنّ هذا الأسلوب في التركيز على عرض جثث الأطفال كان دائماً الدعوة الأكثر مباشرةً وخبثاً إلى شنِّ الحروب الغربية على بلدان العالم الثالث (http://www.youtube.com/watch?v=lmjRYzse3tk&feature=player_embedded#%21)، مذكرا بأكذوبة قطع الأوكسجين عن حاضنات الأطفال الكويتيين الرضع من قبل عناصر من الجيش العراقي التي روَّج لها الإعلام الغربي، وجعلها بمثابة المقدمة الموسيقية لحرب تدمير العراق. هنا، نتساءل عن المغزى الأخلاقي أو السياسي لفعلة «الجزيرة» مع ضيفها البروفيسور الروسي؟ ترى، أليس فيها إساءة إلى الضيف الذي أريد تصويره كقاتل أو كمشارك في قتل هؤلاء الشهداء، بعدما استُقدِم كضيف يراد التعرف على وجهة نظره؟ أليس ثمة إساءة إلى الشهداء السوريين أنفسهم، حين جرى استخدام جثامينهم بهذه الطريقة المنحطة، التي توحي بتبرئة قاتلهم الحقيقي؟ ألا يلطخ جزء غير قليل من دماء الشهداء، هذه الشاشات والقنوات التي مارست دوراً خطيراً في التحريض والإثارة والتسعير باستخدام الكذب والفبركة والتضليل؟ وأخيراً ألا ينطوي هذا النوع من الأداء الإعلامي المنحاز والمتخلف، على احتقار شديد لعقلية المشاهد، لدرجة بات معها هذا المشاهد يشعر، وهو يتابع تغطية «الجزيرة» و«العربية»، كأنّه يجلس إلى شخص يكيل له الإهانات والشتائم الشخصية ويسخر منه دون أنْ يكون قادراً على الدفاع عن نفسه؟
* كاتب عراقي