يقذف المجتمع اللبناني الى السطح بالمزيد من المظاهر والظاهرات السلبية. لا يحصل ذلك عشوائياً. إنّها مظاهر وظاهرات متعاظمة التراكم في سياق متصل ومنسجم: آليات عمل وتناقضات النظام السياسي اللبناني، وسط وضع اقليمي ودولي متزايد الصراعات والتباينات والاحتمالات. يخرج الى العلن كم مقلق، بل مخيف، من الاحتقان المذهبي. انّه يتخطى كلّ الخطوط الحمراء التقليدية، القائمة في الدستور والقوانين، او تلك التي تكرست في العادات والتوازنات والتسويات. إنّ بروز العصبيات المذهبية والطائفية، من وقت الى آخر، ليس جديداً على المشهد التقليدي اللبناني. وكذلك فإنّ تغذية هذه العصبيات، بنحو منهجي، وبوسائل رسمية وغير رسمية، مسألة قائمة في صلب آليات عمل النظام السياسي اللبناني. الجديد الآن هو رفع وتيرة استخدام العامل المذهبي الى درجة غير مسبوقة، وبشكل متواصل وعلني دون حدود او ضوابط او حسابات عامة. ظاهرة الشيخ احمد الاسير في صيدا لا تختصر المشهد اللبناني المذكور، وان كانت تشكل خطوة نوعية كبيرة في مجراه الراهن. بل ان ظاهرة الاسير تكاد تكون نتيجة، رغم انّه يراد لها ومنها ان تكون سبب انعطافة تنعكس على المشهد اللبناني برمته.
ليس من المبالغة او الظلم القول، في هذا السياق، بأنّ القوى اللبنانية المنقسمة، والمنضوية في تحالفي 14 و 8 آذار ، هي المساهم الاكبر في تغذية وتأجيج العصبيات الطائفية والمذهبية. يحصل ذلك بشكل مباشر او غير مباشر، لكن بشكل مثابر ومتصاعد في كل الحالات. لقد جرى تطييف ومذهبة حتى مؤسسات المجتمع المدني والاهلي. عدوى التقاسم والتوزيع المذهبين انتقلت الى مؤسسات، وطاولت مواقع ومناصب لم تكن تأخذ بها قبل اليوم. ولعل اخطر ما يغذي الانقسام والتعبئة المذهبية والطائفية، الوسائل غير المباشرة، اذ تترسخ في طول البلاد وعرضها مؤسسات ومنابر شديدة التأثير تعد اجيالاً بذهنية الانعزال وروحية العداء، وتبلور وتعزز بيئات تتسم بالحذر والانغلاق وبتقديس الذات في مقابل شيطنة الآخر ونبذه.
وبديهي ان تنتهك في مجرى كل ذلك القيم والقوانين وحتى المقدسات الدينية او الحضارية والانسانية. هل بقي مثلاً لفعل التعامل مع العدو صفة الخيانة؟ وهل بقي لفعل الاتجار بالمواد المخدرة زراعة وترويجاً وتهريباً فعل الجريمة الشاملة؟ وهل بقي لاعاقة عمل الاجهزة الامنية في تأدية واجبها ومهماتها وانتشارها صفة جرمية بتهديد الامن الوطني؟ ومن يهتم لأمر الهدر والافساد بعد اليوم؟ الا تدور مقايضات مخجلة لتغطية انفاق غير قانوني بآخر في مساومات ومقايضات تفضح العجز والتواطؤ وتبادل الارتكابات؟ الا تستأثر بالمشهد الان دعوات الفتنة المذهبية على حساب انتفاضات وصرخات المطالبين بابسط انواع الحقوق والخدمات؟ الا تنافس الظلامية الظلام في احتلال الصورة والشاشة ولساعات وساعات يبررها البعض بموضة «تلفزيون الواقع»، والبعض الآخر بالمنافسة، فيما يقف وراءها غالباً موقف غير محسوب وغير مسوؤل، او اغراء دفعة دسمة من احدى الدول الخليجية التي تواصل «رسالتها» في «خدمة» عباد الله من المسلمين والمؤمنين والخلق اجمعين!
لا ننكر انّ بعضاً من القوى المنخرطة في العملية المذكورة قد بدأ يدرك مخاطرها. دب الحذر أخيراً، بعد احداث في الشمال وصيدا، في اوساط تيار «المستقبل» وبعض قادته. السيد حسن نصر الله كان قد حذر قبل ذلك من مخاطر تعبئة تؤدي الى خروج الوضع عن السيطرة. لكن هذين التحذيرين المقرونين بالخشية، لم يتجاوزا حدود ذلك الى عمل حازم وجدي يبدأ بالذات قبل مطالبة الآخر. اصحاب القضايا الكبرى هم الاجدر بأن يبدأوا. «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، كما تقول الاية الكريمة، والبادئ هنا اشجع واقرب الى الله والوطن والشعب.
والساحة خالية لما ذكرنا من مظاهر وظاهرات. لو كانت صيدا او الشمال، على ما كانت عليه من نفوذ للقوى التقدمية وغير الطائفية لما استسهل احد العبث بساحاتها وبموقعها وبتاريخها. غياب المركز الوطني الواحد والموحِّد القى بوزره على الفريق الوطني فيها الذي بات شبه محكوم بواقع الانقسام بين طرفي 14 و 8 آذار وليس استناداً الى برنامج خاص: عروبي وغير طائفي وتوحيدي...
المركز الوطني المطلوب هو مركز ثالث متمايز عن فريقي الانقسام في البلاد. سيسارع البعض من قبيل المزايدة الى تسميته مركزاً اول. لا مانع ابداً. المهم ان يأخذ هذا المركز موقعه الخاص الذي يعود اليه والذي تحتاج اليه البلاد. دعوات الدفاع عن السلم الاهلي التي تراود البعض كما في مواجهة كل خطر واحتقان لم تعد تخدم اي هدف. لقد باتت تعبيراً عن العجز والقصور، او اعتياد الفئوية والارتياح الى استيطانها بشكل دائم!
كل المخاطر والاستحقاقات القريبة والبعيدة، المحلية والاقليمية المتداخلة، تملي ضرورة المبادرة الى عمل جديد. ليست النتائج مضمونة بسبب ما تراكم من البلادة والفئوية والشعاراتية وانعدام الثقة والخيبة. لكن الفراغ كبير، والدور المطلوب اكبر، والتحدي يكمن هنا: تحدي بناء دور هو بالضرورة مهمة على فريق الانقاذ الوطني!
* كاتب وسياسي لبناني